الأربعاء، 12 أغسطس 2009

دويلات وثوارت ( 2 ) اليمن


  • فقامت دولة بني زياد السُّنِّيَّة سنة 204هـ، ودامت نحو قَرْنَيْن إلى أن انقرضت سنة 407هـ، وكان مركزها (زبيد) بِتِهَامة، وحَكَم بنو يَعْفُر الحَوَالِيِّين الحميريين صنعاء من سنة 247هـ وحتى سنة 387هـ، وكانوا على المذهب السُّنِّيِّ، وظهرت تلك الدولة في شبَام ثم في صنعاء في عهد أسعد بن أبي يَعْفُر الحَوَالِيِّ، ثم امتدَّت إلى حاشد في الشمال، وإلى مِخْلاَف جَعْفَر والجند والمَعَافِر في الجنوب، ويُعَدُّ حكم السلطان أسعد بن أبي يَعْفُر من أطول فترات حُكْم سلاطين بني يعفر، وسيطر القرامطة على اليمن بقيادة علي بن الفضل عام 292هـ ونهبوا مدنها، وفعلوا الأفاعيل، واستباحوا المنكرات، وقاموا بكل رذيلة، وقام بعدئذ بنو نَجَاح، وهم من مماليك بني زياد، وحكموا زَبِيدَ وملحقاتها سنة 412هـ. بينما سيطر بنو صُلَيْح على صنعاء 439 - 492هـ، وخلفهم بنو هَمْدان حتى 569هـ، وآل أمر زَبِيدَ إلى بني مهدي من 544 - 569هـ. وتسلَّم إمارة عدن آل زريع سنة 476هـ، وينتمون إلى المكرم اليامي الهَمْدَاني أول سلاطينها، ويُعْرَفون ببني زُرَيْع، وظلَّت هذه الدولة حتى عام 570هـ / 1174م، أما صَعْدة فكانت تحت حكم دولة (بني رسّ) الشيعية التي قامت عام 280هـ.
    وقد تصارعت القوى المتعاصرة مع بعضها البعض، وتبادلت النصر والهزيمة سِجالاً، وأطيح بأُسَرٍ حاكمة لتحلَّ محلَّها أخرى إلى حينٍ، وتمكَّن بعضها من السيطرة على ديار بعضٍ؛ فكانت الغلبة أوَّلاً لآل زياد، ثم كانت للقرامطة على حساب اليَعْفُريِّين والزَّيْدِيَّين، ثم كانت لليعفريين والزيديين في تحالفهم بعد صراع ومجابهات ضدَّ الجُزْء الخطر من القرامطة، وهو علي بن الفضل، ثم جاء دور الصُّلَيْحِيِّين ليتمكن مؤسِّس الدولة علي بن محمد الصُّلَيْحي، التلميذ النجيب والنابغ للداعية الإسماعيلي سليمان الزواحي، من الإطاحة بكل القوى القبلية والحاكمة،
    وتوحيد اليمن تحت حكمه، بل إنه أدخل مكة تحت حكمه، ويخلف بنو نجاح آل زياد في زَبِيدَ، ويتبادلون النصر والهزيمة مع الصُّلَيْحِيِّين، والصُّليحيون تنقسم دولتهم، فتأخذ بالتدريج في الضعف والزوال، فيبسط النَّجَاحيون دولتهم في التهائم، ويقوى آل زريع ولاة الصُّليحيين في عدن، ويؤسِّسون دولتهم المسيطرة على عدن، وأبين، وتعز. ويتداول السلطة في صنعاء وما حولها أُسَرٌ هَمْدَانية، كآل حاتم، وآل القبيب، وآل عِمران، وفي زَبِيدَ يحلُّ بنو مهدي محلَّ آل نَجَاح
    .
    وقد ظلَّت الأوضاع تلك على حالها حتى مجيء الأيوبيين (569 - 626هـ / 1173 - 1229م) إلى اليمن؛ إذ قضَوْا على عدد من الإمارات فيها وجمعوا أمرها، فأنهَوْا حكم بني هَمْدان في صنعاء، وبني مهدي في زَبِيدَ، وبني زريع في عدن
    .

    الدولة الرسولية
    وقد كان آخر الولاة الأيوبيين في اليمن السلطان المسعود الأيوبي، الذي تمكَّن من فرض هيبة الأيوبيين على مختلف القوى والمنافِسِينَ في اليمن، والذي عاد إلى الشام عام 626هـ مُخْلِفًا الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول نائبًا له في اليمن، والذي تمكَّن هو وإخوته من السيطرة على الأمور في اليمن، وتحقيق انتصارات مُهِمَّة على المنافِسِينَ؛ فَعَلَتْ بذلك مكانتُهم وعظمت قوَّتهم، والذي مهَّد لظهور الدولة الرسولية
    .
    وتُعَدُّ الدولة الرسولية (626 - 858هـ / 1229 - 1454م) من أطول الدُّول عُمرًا في تاريخ اليمن الوسيط، وقد حكمها خمسةَ عشرَ ملكًا، أوَّلهم: نور الدين عمر الرسولي، وآخرهم المسعود
    .
    وقد أعلن الرسوليُّون استقلالهم عن الدولة الأيوبية في مصر في عام 630 هـ / 1232م، وخطبوا للخليفة العباسي المعاصر لهم، بَعْدَ أن طلبوا منه أمرَ نيابة مباشر عنهم في اليمن دون وساطة الأيوبيين، وتمكَّن الرسوليون وبقيادة مؤسِّس مُلْكِهم الملك المنصور من توحيد اليمن كله تحت حكمهم، من حضرموت جنوبًا وحتى مكة شمالاً، وبسطوا سيادتهم الفعلية على كل جهات اليمن، ودخلوا مناطقَ وحصونًا لم يستطعها قبلهم الأيوبيون، ودانت لهم القبائل والأُسَرُ الحاكمة، كالأئمة الزيديين في صعدة وجهاتها، وآل حاتم في صنعاء وما حولها، ومع ذلك فقد جابه الرسوليون توثُّبات قوًى مختلفة، وجابهوا قوى زَيْدِيَّة بزعامة الإمام المهدي أحمد بن الحسين من جهة، ثم بزعامة أبناء وأحفاد الإمام عبد الله بن حمزة، وهم مَن تُطْلِق عليهم المصادرُ إجمالاً لقبَ الحمزات، وقد دخل الأئمة الحمزات في حرب تنافُسِيَّة على السيادة والنفوذ مع الإمام المهدي أحمد بن الحسين، وأُذِيقُوا شرَّ الهزائم، وخسروا كثيرًا من مواقعهم قبل أن يتدخَّل المظفَّر الرسولي إلى جانب الحمزات ويُمَكِّنهم من النصر، فاعترف الأئمة بسيادة الرسوليين على البلاد، كما جابه الرسوليون تمردًا من سلطان حضرموت سالم بن إدريس، فجهزوا له بعد المراسلات والإعذار حملات برِّية وبحرية انتهت بهزيمته ومقتله.
    وبعد المظفَّر يأتي الملك الأشرف، فيدخل في حرب قصيرة مع أخيه المؤيَّد غير المعترف بحكم أخيه، لكن الموت يُعاجِل الأشرف الرسولي بعد ما يَزِيد قليلاً عن العام، ليأتي أخوه المؤيد فيحكم اليمن لخمس وعشرين سنة، يتمكَّن خلالها من ترسيخ هيبة الدولة عَبْرَ قضائه على التمرُّدات في المِخْلاف السُّلَيْمَاني بتِهَامة، ومقاومته لوثبات الأئمة الزيديين في الجبال. ويخلف المؤيَّد ولده المجاهد 721 - 764هـ / 1321- 1362م، الذي يبقى في الحكم ثلاثًا وأربعين سنة، يُجابِه فيها أعنف وأعتى التمرُّدات ضدَّ مُلْكِه من مختلَف الأطراف، حتى شهدت السنوات الأخيرة من حكمه تصدعًا في وَحدة اليمن السياسية، إذ لم يَمُتِ الملكُ المجاهد إلا وقد تمكَّن جيل جديد من الأئمة الزيديين في القسم الأعلى من اليمن، أمثال المتوكِّل مطهر بن يحيى، وابنه محمد بن المطهر، ثم المهدي علي بن محمد، والناصر صلاح الدين، وابنه المنصور علي، من بناء قوَّة جديدة لهم مكَّنتهم في الثلث الأول من القرن الثامن الهجري من السيطرة على القسم الأعلى من اليمن حتى ذمار، وسَلَخَهُ من جِسْم الدولة الرسولية، لتتقوَّض من جديدٍ أركان الوَحدة اليمنية للمرة الثانية بعد الصليحيين. وخلف المجاهد ابنه الأفضل، وجاء بعده الملك الأشرف الثاني، ثم الملك الناصر، ليعقبه الأشرف الثالث، ثم الأشرف الرابع، ثم يأتي المَلِكَان المتنافسان: المظفَّر والمفضَّل، ثم يليهم الملك الناصر الثاني ليُخْلَع، وليتمَّ تنصيب الملك
    المسعود آخر ملوك بني رسول، ليذهب هو ومنافسه المؤيَّد.
    وفي أزمنة هؤلاء الحكام تميَّزت فترات حكمهم في المحافظة على مناطق نفوذ الدولة الرسولية، وفي القضاء على التمرُّدات المختلفة، ثم بالقضاء على التمرُّدات داخل البيت الحاكم، وهي التي قام بها الإخوان والأعمام ضدَّ بعضهم مستعينين بقوى المماليك، والتي حاول الملك الأشرف الثالث التنكيل بهم لإخراجهم من حسابات القوَّة مُحْرِزًا بعض النجاح، كما قامت حرب بين الملك الناصر الرسولي وإمام الزيديَّة علي بن صلاح الدين، عندما حاول الأخير غزو بلاد رداع التابعة للرسوليين والمحكومة من قِبَلِ ولاتهم آل معوضة، جدود المؤسِّسين لدولة بني طاهر فيما بعدُ، وهم الذين وفدوا على آل رسول أول الأمر عام 817هـ/ 1414م ثم عام 842هـ/ 1438م، ليأخذوا بعد ذلك في تقوية أنفسهم في جهاتهم، في وقت أخذت فيه الدولة الرسولية تزداد ضعفًا جرَّاء المنازعات الأُسَرِيَّة على السلطة، وهي التي مزَّقت دولة الرسوليين بين المتنافسين على السلطة، وكانت آخر المنازعات الحربية بين الملك المسعود الذي استطاع استعادة التهائم وعدن؛ ليزحف من هناك إلى تعز؛ لطرد الملك المظفَّر الثاني منها، وقد استغل مماليك تهامة الحرب بين الملكين ليُشَدِّدوا قبضتهم على تهامة، ولينصبوا الأمير حسين بن الملك الظاهر ملكًا، ويلقِّبوه بالمؤيَّد في العام 855هـ / 1451م، لنجد أنفسنا أمام ثلاثة ملوك رسوليين في وقت واحد، يتنازعون المُلْكَ والسيادة، وقد شجَّع هذا التنازع الصريح بين آل رسول ولاتهم وحلفاءَهم من بني طاهر على الطمع في وراثة أسيادهم من بني رسول، وذلك بدخولهم عدن عام 858هـ / 1454م، وأُسِرَ الملكُ المؤيَّد آخر حُكَّام بني رسول.
    وقد تميَّز حُكم بني رسول طويل الأمد - بغضِّ النظر عن التاريخ السياسي الحربي - بكثير من الإنجازات المهمَّة في مَيْدان العلم والتِّجارة والزراعة والطب؛ فقد بنَوا المدارس الكثيرة، وأجزلوا العطاء للعلماء، وبرز في زمانهم العلماء والشعراء في كل فنٍّ، وكان كثير من ملوك بني رسول علماءَ وشعراءَ وأصحاب رأي ومؤلِّفي كتب في فروع المعرفة المختلفة، ولا تزال مدينة تعز إلى يومنا هذا تتزيَّن بمنجزاتهم العمرانية، كجامع المظفَّر وجامع الأشرفية، ومدرسة الأشرفية، وحصن تعز المسمى الآن قاهرة تعز، بالإضافة إلى آثار المدارس الفقهية
    .

    الدولة الطاهرية وسيادة المماليك
    وقد قامت الدولة الطاهرية (855 - 923هـ / 1451- 1517م) على إرث الدولة الرسولية، وأوَّل أمرائها عامر بن طاهر، الذي أخذ البلاد من بني الرسول، وأخذ بعضها من أئمة الزيدية إلى أن قُتِل في حربه معهم قُرْب صنعاء، فخلفه أخوه المجاهد علِيٌّ سنة 870هـ، ثم خلفه ابنه الظافر عامر سنة 894هـ، وكان عادلاً محبًّا للعلم والعلماء، حارب أئمة الزيدية في الجبال وغلبهم، واستولى على صنعاء.
    وفي عهد الظافر عامر ظهر البرتغاليون، واستولوا على بعض سواحل الحجاز واليمن والهند، واستفحلت شرورهم، فأخذ بمراسلة المماليك الذين كانوا يجوبون البحر الأحمر وسواحل اليمن لمجابهة قوَّة البرتغاليين، فاستطاع المماليك بقيادة حسين الكردي الاهتمام بأمر البرتغاليين وطردهم من جزر قمران سنة 921هـ، ثم شجَّعه الأئمة الزُّيُود ضدَّ الظافر عامر الذي رفض التعاون معه ضدَّ البرتغاليين، فدخل حسين الكردي المملوكي اليمن واستولى على زَبِيدَ بعد معركة الرحب وذلك سنة 922هـ، ثم انتقل إلى تعز، ومنها إلى المقرانة فصنعاء، وأخيرًا جَرَت المعركة الأخيرة على أبواب صنعاء، وهي معركة الصافية التي قُتل فيها أخو السلطان، وهو عبد الملك بن عبد الوهاب، وفرَّ السلطان الذي قبض عليه أحد الرجال وسلَّمه إلى قائد المماليك الإسكندر بن محمد فقتله سنة 923هـ
    .
    : التاريخ الإسلامي 7/ 109 - 111، وإسماعيل أحمد ياغي، ومحمود شاكر: تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر ص 80.
    عوامل قدوم العثمانيين إلى اليمن
    وفي هذه الأثناء التي دخل فيها المماليك صنعاء كان العثمانيون قد هزموهم في بلاد الشام ومصر، وهو ما جعل المماليك في وضع غير ملائم؛ فانسحبوا من صنعاء نحو تعز، ولم يصل الإسكندر بن محمد قائد المماليك إلى تعز إلا بصعوبة كبيرة؛ بسبب قتال اليمنيين له، وهو منسحب بجيشه، وقد اضطرَّ المماليك في اليمن إلى الاعتراف بالسيادة العثمانية.
    ويُعَدُّ من عوامل قدوم العثمانيين إلى اليمن إخفاق المماليك في مقاتلة البرتغاليين في سواحل الهند، وهزيمة أسطولهم في معركة (ديو) في المياه الهندية عام 915هـ؛ إذ قام العثمانيون يَدْرَءُون الخطر عن ديار الإسلام، ويُلَبُّون نداء مسلمي الهند، ولما رفض المماليك التعاون معهم احتلَّ العثمانيون أرض الدولة المملوكية، وورثوا عنها المهمَّة الملقاة على عاتقها وهي حرب البرتغاليين، ودخلوا اليمن بصفة أن أرضها قاعدة ارتكاز لمحاربة البرتغاليين، سواء أكان ذلك في البحر الأحمر، أم في الخليج العربي، أم في المياه الهندية
    .
    وهكذا دخلت اليمن تحت السيادة العثمانية عَبْرَ تبعيَّتها السابقة للمماليك؛ فبعد انهزام المماليك في الشام ومصر أمام السلطان سليم الثالث، قدَّم حاكم اليمن المملوكي الجركسي (إسكندر) وفدًا إلى السلطان سليم ليُقَدِّم فروض الولاء والطاعة له، فوافق السلطان العثماني على إبقائه في منصبه، وكانت اليمن تُشَكِّل بُعْدًا استراتيجيًّا، وتُعتبر مِفتاح البحر الأحمر، وفي سلامتها سلامة للأماكن المقدَّسة في الحجاز، وكانت السيطرة العثمانية في بَدْءِ الأمر ضعيفة، بسبب الصراعات الداخلية بين القادة والمماليك، إلى جانب نفوذ الأئمة الزيدية بين قبائل الجبال، هذا فضلاً عن الخطر البرتغالي الذي كان يُهَدِّد السواحل اليمنية، وهذا دفع السلطان إلى إرسال قوَّة بحرية، إلا أنها فشلت بسبب النزاع الذي دبَّ بين قائدها حسين الرومي متصرف جدة والريس سلمان أحد قادة البحر العثمانيين
  • .
    ثم أرسل السلطان سليمان باشا أرناؤطي حملة سنة 945هـ/ 1538م بهدف احتلال اليمن وبخاصَّة عدن، ثم إغلاق مضيق باب المندب أمام السفن البرتغالية، ودخل العثمانيون عدن عام 946هـ / 1539م، وتعز عام 952هـ / 1545م، وسقطت صنعاء في قبضتهم عام 954هـ / 1547م، وتحرَّك سليمان باشا بأسطوله ليستولِيَ على بعض الموانئ العربية في حضرموت، ومنها الشحر، والمكلا، واجتاح ساحل الحبشة، وسواكن ومصوع على الجانب الغربي من البحر الأحمر سنة 964هـ - 1557م
    .
    المذهب الزيدي في اليمن
    وقد ظلَّت اليمن في فترة هيمنة الدولة العثمانية عليها (1538 – 1635م) تتنازعها قوى العثمانيين والأئمة الزيدية، فلم يستطع العثمانيون السيطرة كلية على البلاد؛ بسبب تمرُّد بعض القبائل وحركات المقاومة، ويهمُّنا هنا أن نلقِيَ الضوءَ على دولة الأئمة الزيديين في بدايتها.
    فقد جاءت تسميتهم نسبة إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (79 - 122هـ / 698 - 740م)، الذي خالف الإمام جعفر الصادق في مَبْدَأَي التقية والاستتار، وأَسَّس لمبدأ الثورة على الظلم متى ما وُجِد هذا الظلم، وهو شرط الخروج والثورة، ويتميَّز المذهب الزيدي بصفة عامَّة باعتداله وانفتاحه على المذاهب الأخرى، وهو أقرب المذاهب الشيعية إلى السُّنَّة، التي تأخذ عليهم حَصْرَهم الإمامة في أولاد الحسن والحسين، ومع ذلك فإنهم يُجَوِّزُون إمامة المفضول مع وجود الأفضل، كما يَنْبُذُون مبدأ العصمة والتقية، ويُجِيزُون الخروج على الظلم، كما يُجيزون خروج إمامَيْن في وقت واحد؛ وهو ما أدَّى في فترات كثيرة من تاريخ الدول الزيدية في اليمن إلى خروج أكثر من إمام، دارت بينهم صراعات عنيفة أراقت الدماء، وأهلكت الزرع والضرع. لكنَّ مبدأ الخروج هذا - رغم ويلاته - هو الذي احتفظ للطامحين من الأئمة الزيدِيين بجذوة الثورة، فمكَّنتهم من قيادة محاولاتٍ متعاقبة لتأسيس حكم علوي وراثي.
    وقد اتخذت الدولة الزيدية الأولى بزعامة مؤسِّس الدولة والمذهب الزيدي في اليمن العلوي يحيى بن الحسين الرسي المنعوت بالهادي إلى الحقِّ، من صعدة مركزًا لها، وقد ابتدأ حكمهم باليمن من سنة 280هـ، وقد عاصروا بني أيوب والصليحيين والرسوليين والمماليك والعثمانيين، ودولة الأئمة الزيدية من البدابة كانت منافسة للحكم العباسي، كما أنها كانت تجسيدًا لطموح العلويين في الحكم مُعْتَبِرِين أنفسهم أهل حقٍّ في قيادة المسلمين، ومُتَّهِمِين العباسيين باغتصاب السلطة من أهلها
    [1].
    وقد بقي سلطان الزيديين محصورًا في الجهة الشمالية من اليمن، وإن تمكَّن أئمتهم في بعض الظروف من السيطرة على صنعاء وذمار في أيام المتوكل المطهر بن يحيى (676 – 697هـ)، وابنه المهدي محمد (697 - 908)، وكانت الخلافات شِبْهَ دائمة بينهم وبين سلاطين بني رسول وبني طاهر لمَّا كانوا معاصرين لهم، ولم يكن هناك إمام واحد يلتفُّ حوله الزيديون جميعًا، وإنما كان يوجد أكثر من إمام في بعض الأحيان، وقد يختلف الأئمة بعضهم مع بعض، حيث لكلِّ واحد منهم منطقة نفوذ وأتباع، كما حدث أيام الواثق المطهر بن محمد، والمؤيد يحيى بن حمزة، والمهدي علي بن صلاح، والداعي أحمد بن علي الفتحي، وكلهم في المدَّة المحصورة بين (730 - 750)، وقد تَمُرُّ سنوات دون أن يقوم إمام من علماء الزيدية بالأمر، وخاصَّة بعد هزيمة إمامٍ أو إلقاء القبض عليه، أو قتله من قِبَلِ خصومه، ويُقَدَّرُ عدد أئمة اليمن تسعة وخمسين إمامًا، حكموا اليمن منذ عام 898م إلى 1962م، حين أُطِيحَ بحكمهم في يوم 26 سبتمبر 1962م، وأُعْلِنَ النظامالجمهوري
    [2].
    [1] انظر تاريخ ابن خلدون 4/111، وحسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/205، وحسين بن علي الويسي: اليمن الكبرى وموقع الجمهورية اليمنية على الرابط: http://www.yemen-nic.net/contents/History/detail.php?ID=1162
    [2] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 7/ 113، والموسوعة العربية العالمية (تاريخ اليمن).
    ثورة الزيدية ضد العثمانيين
    وعلى الرَّغم من السيادة العثمانية في اليمن، والتنظيم الإداري العثماني فيه، وقوَّة الدولة العثمانية وشبابها وقتذاك، إلا أن نفوذ أئمة اليمن من الزيديين ظلَّ قويًّا وفاعلاً، وامتدَّ إلى مناطقَ كبيرةٍ من البلاد اليمنية، خاصَّة في المناطق الجبلية، وحَصَّن الأئمة الزيديون مدينة تعز التي احتلَّها الوالي العثماني الجديد على اليمن أُوَيس باشا، الذي وصل إلى اليمن عام 953هـ / 1546م، واستطاع هذا الوالي أن يُوَطِّد السيادة العثمانية على منطقةٍ أوسعَ، وخاصَّة في المناطق الجبلية التي لم يصل إليها العثمانيون، كما استطاع الوالي أن ينظِّم جندًا محليًّا من اليمنيين، يعملون جنبًا إلى جنب مع القوَّات العثمانية، لكن العسكر غدروا به وقتلوه، فتولَّى الأمر أزدمر باشا، وهو من العسكر العثمانيين في اليمن، وأزدمر باشا مملوكي من الشركس، انتظم في خدمة العثمانيين، وعُيِّنَ واليًا على اليمن، ومن أعماله في اليمن: محاربة الأئمة الزيديين، ودخول صنعاء، وجعلها مركزًا للولاية العثمانية ومكانًا لإقامة مَلِك اليمن، وقد ظلَّ أزدمر هذا في الباشوية حتى عام 964هـ / 1556م، فخلفه على باشوية (ملك) اليمن مصطفى باشا المعروف بالنشار، وهكذا توالى تعيين الولاة العثمانيين على اليمن بشكل منتظم.
    ثار الأئمة الزيديون ضدَّ العثمانيين عام 954هـ / 1547م بقيادة الإمام مطهر بن شرف الدين الزيدي، وساعده عدد من العسكر العثمانيين الذين تمرَّدوا على السلطة العثمانية في اليمن بسبب ضَعْف رواتبهم، وتعمَّقت الثورة اليمنية بسبب الخلاف القائم بين الوالي العثماني في زَبِيدَ وتِهَامة والوالي العثماني في صنعاء والمناطق الجبلية،
    ونَمَتِ الثورة الزيدية وازدهرت بعد وفاة السلطان سليمان القانوني، فدخل الإمام مطهر الزيدي مدينة صنعاء عام 975هـ / 1567م، مما جعل السلطان سليم الثاني يُرْسِل سنان باشا والي مصر إلى اليمن على رأس حملة عسكرية لإعادة الأمن والنظام فيها، وكان ذلك عام 977هـ / 1569م، وتمكن سنان باشا من دخول صنعاء وإرساء قواعد الأمن والنظام العثماني في اليمن، وبِناء عليه عُدَّ هذا الإنجاز العثماني الجديد في اليمن الفتح العثماني الثاني لليمن؛ حيث إن الفتح الأول بدأ عام 946هـ / 1539م.
    هذا وقد ظلَّ الأئمة الزيديون على حالهم، فتعاملوا مع الولاة العثمانيين أحيانًا بشكل حسن، وظلُّوا يحافظون على استقلالهم في مناطقهم، وفي أوقات كثيرة كانوا يثورون ضدَّ السلطة العثمانية؛ فثار الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد سنة 1008هـ = 1599م، وشملت ثورته مناطق يمنية واسعة، مما أدَّى بالدولة العثمانية إلى إرسال حملات عسكرية تمكنت في النهاية من إعادة توطيد الأمن، ثم قامت ثورة أخرى بقيادة الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم ضدَّ الوالي العثماني أحمد فضلي عام 1031هـ / 1621م، فاستولى على صنعاء وتعز وعدن، وأخرج العثمانيين من اليمن عام 1046هـ / 1636م، وتمكَّن من تأسيس دولة الإمامة الزيدية التي اتخذت صنعاء مقرًا لها، وتوفي الإمام المؤيد بالله عام 1052هـ = 1642م وخلفه أخوه أحمد الذي اضطر بعد عامين للتنازل عن الحكم لأخيه إسماعيل بعد خلاف بينهما.
    و نتيجة للخلاف على الإمامة ضعف الأئمة الزيديون، واستقلت القبائل عن صنعاء، كما انفصلت مناطق، فاستقلت حضر موت، ولحج عام 1145هـ = 1732م، وقوي أمر الإمام المهدي عباس 1159هـ = 1746م ثم هبت رياح الفوضى في البلاد بعد موته، واستقلت تهامة الشمالية، واتخذت مدينة (أبو عريش) مقرًا لها، ثم استولى محمد بن عامر المتحمي على (أبو عريش) وعدد من موانئ اليمن حتى المخا، وقام مقامه أخوه عبد الوهاب، ثم طامي بن شعيب.
    واستنجد الإمام المتوكل على الله بالسلطان العثماني محمود الثاني فأرسل الأتراك مددًا إلى عسير وتهامة، وتمكن محمد على باشا المكلف بحروب الدولة العثمانية من أسر طامي ابن شعيب ونقله إلى مصر ثم إلى استانبول حيث صلب هناك، وبذا استعاد الإمام عبد الله المهدي نفوذه، وبدأ يرسل جزية سنوية إلى السلطان العثماني.

    احتلال عدن
    وعادت القوة إلى عسير بعد محمد بن أحمد المتحمي وقيام سعيد بن مسلط بأمر العسيريين ومن بعده علي بن مجثل، وعائض بن مرعي، فتوالت الحملات على المنقطة وجاءت حملة عام 1215هـ = 1835م بقيادة إبراهيم يكن، وتمكنت من القضاء على الثورة التي اندلعت في تعز ضد الإمام علي بن عبد الله المهدي وذلك عام 1253هـ = 1837م، كما استطاعت بعض فرق الحملة العثمانية من دخول عدن.
    واحتل الإنكليز عدن عام 1255هـ = 1839م وعسير بعد هزيمة محمد علي في بلاد الشام، وعقد معاهدة لندن عام 1256هـ = 1840م التي حدَّدت نفوذ وحكم محمد علي في ولاية مصر فقط.
    وضعف أمر الأئمة في هذه المدة إذ بدأ الخلاف بينهم، واستنجد الإمام محمد بن يحيى بالأمير عائض بن مرعي لنصرته فأرسل إليه قوة سارت عن طريق صحار، والأخرى عن طريق صعدة وكانت الثانية بإمرة الشريف حسين بن علي بن حيدر شريف (أبو عريش)، والأولى بإمرة يحيى بن مرعي أخي عائض بن مرعي، وتمكنت القوتان من دعم محمد ابن يحيى وتثبيته في صنعاء وعد واليًا للأمير عائض بن مرعي، ولكن ما إن عادت القوة العسيرية حتى تنكر الإمام محمد بن يحيى للعسيريين فكلف عائض بن مرعي عامله على أبي عريش حسين بن علي حيدر بتأديب إمام صنعاء، إلا أن الحيدري قد هزم ووقع أسيرًا بيد اليمنيين، وأراد عائض مرعي أن يسير إلى صنعاء لإنقاذ واليه إلا أن العثمانيين كانوا قد وصلوا إلى اليمن.
    ضعف الوجود العثماني باليمن
    وتضايق العثمانيون من انتصار عائض بن مرعي في اليمن، وخافوا مغبة الأمر، وفي الوقت نفسه استنجد الإمام علي بن المهدي بالسلطان عبد المجيد ضد محمد بن يحيى وعائض بن مرعي، فأمر السلطان نائبه في جدة توفيق باشا بالتوجيه إلى اليمن ومعه مكة الشريف محمد بن عون، وسارت القوة من جدة ووصلت إلى الحديدة في 22 جمادى الآخرة عام 1265هـ = 1849م وتابعت زحفها إلى صنعاء دون أن تلقى أية مقاومة، وما إن علم الإمام المتوكل محمد بن يحيى بهذا الأمر حتى أطلق سراح الشريف الحيدري، وأسرع للقاء توفيق باشا فاستقبله، واتفق معه، وصحبه إلى صنعاء وأنزله في قصر غمدان... وأنكر أهل صنعاء على الإمام فعلته وثاروا عليه في الحال وأرغموا الأتراك إلى العودة إلى الساحل، وألقوا القبض على محمد ابن يحيى، ونصبوا على بن المهدي إمامًا.
    وحدثت خلافات بين علي بن المهدي بصنعاء، ثم الذي قام مكانه، وهو مؤيد العباس ابن عبد الرحمن، وبين المنصور أحمد بن هاشم بصعدة، وكادت رياح الفتن تعصف باليمن كلها.
    وكان العثمانيون قد قضوا على إمارة آل عائض في أبها وقتلوا محمد بن عائض، وحملوا جماعة من كبار القادة والعلماء إلى استانبول، وتولى أمر عسير أحمد مختار باشا بعد مقتل رديف باشا، استغل أحمد مختار الفوضى في اليمن فسار بقوة على طريق الساحل، ودخل صنعاء وأنهى هذه الخلافات، ولكنه لم يستطع أن يبسط نفوذه على شمال اليمن إذ بقي تحت سلطة المتوكل المحسن بن أحمد حتى توفي عام 1295هـ = 1877م فخلفه الهادي شرف الدين بن محمد.
    وتولى حكم اليمن عام 1290هـ = 1872م بعد أحمد مختار باشا مصطفى فاشتد على السكان الأمر الذي أدى إلى قيام ثورة قادها محمد بن يحيى حميد الدين، الذي كان قد سجنه مصطفى باشا مع عدد من سادات البلاد في الحديدة، وفر من السجن وحمل لواء الثورة، وتلقب بالمنصور.
    وفي الشمال توفي عام 1307هـ = 1889م الهادي شرف الدين بن محمد فقرر السكان مبايعة محمد بن يحيى حميد الدين الذي استطاع أن يؤلف جيشًا، ويحارب الولاة العثمانيين، وأن ينتصر عليهم، وأن يحاصر صنعاء، واضطر العثمانيون إلى إعادة أحمد فيضي باشا إلى ولاية اليمن، فجاء بقوة كبيرة تمكنت من فك الحصار عن صنعاء ودخولها، وغادرها المنصور أحمد بن هاشم حيث اعتصم في (حاشد)، وحاول أحمد فيضي باشا القضاء عليه عدة مرات ولكنه فشل واستمر الإمام في الشمال حتى مات عام 1322هـ = 1904م، وخلفه ابنه يحيى الذي اتخذ لقب المتوكل، واتخذ بلدة (قفلة عذر) قاعدة له، وعاصمة مؤقتة.
    أرسل العثمانيون قوة لحرب الإمام يحيى ولكنها هزمت، وشجعت هذه الهزيمة سكان اليمن فقاموا بحركتهم التي دفعت القوات العثمانية نحو صنعاء فحاصروها، واضطرت إلى الاستسلام وفر القائد التركي إلى زبيد. فأرسلت الحكومة العثمانية أحمد فيضي باشا مرة ثالثة على رأس قوة كبيرة نزلت بالحديدة، واتجهت إلى صنعاء فدخلتها، وانتقل الإمام يحيى إلى (شهارة)، فلحقه أحمد فيضي باشا ولكنه هزم على أبواب شهارة هزيمة نكراء، وعندما وصل الخبر إلى الحكومة التركية أرسلت المشير عزت باشا الألباني مندوبًا للمفوضية، فاتصل بالإمام يحيى وعقد معه اتفاقية (دعَّان). ولم تمض سوى ثلاث سنوات حتى قامت الحرب العالمية الأولى وخرج الأتراك من اليمن.

    اليمن إمارة سعودية
    وفي أثناء الحرب العالمية الأولى ضرب الإنكليز ميناء الحديدة واحتلوها عام 1336هـ = 1918م بمساعدة الإدريسي في تهامة الذي كان يعمل بجانب الحلفاء، وعندما انتهت الحرب انسحبت القوات العثمانية من اليمن بعد هزيمتها أمام الحلفاء، وخرجت جنودها في اليمن عن طريق عدن.
    وبقيت تهامة اليمن والحديدة تحت سيطرة الأدراسة حيث منحتهم إنكلترا هذا المناطق، واختلف الأدارسة بعد وفاة الإدريسي بين مؤيد لابنه على بن محمد ولأخيه حسن بن علي، واستغل اليمنيون هذا الخلاف وزحفوا على تهامة واحتلوها وفر حسن بن علي الإدريسي إلى نجد وذلك عام 1343هـ = 1925م ووقع مع الملك عبد العزيز معاهدة مكة التي تتضمن دخول الإمارة الإدريسية ضمن الدولة السعودية.
    عاد حسن بن على الإدريسي فتمرد ولكنه هزم وألغيت إمارة صبيا وأبو عريش، وقامت مفاوضات بين اليمن والدولة السعودية لتحديد الحدود، غير أن نائب الإمام في صعدة قد أرسل بعد رجاله فدخلوا نجران فتعكر جو المفاوضات، فأرسل الملك عبد العزيز ابنه فيصلاً على رأس قوة احتلت حرض، وميدي، والحديدة، وأرسل الإمام يحيى برقية إلى المجلس الإسلامي الأعلى الذي كان منعقدًا في فلسطين لإرسال وفد لرأب الصدع، فبعث المجلس وفدًا مؤلفًا من: الحاج أمين الحسيني، وهاشم الأتاسي، ومحمد على علوية، وشكيب أرسلان وعبد الرحمن عزام فانتهى الخلاف، وانسحبت القوات للطرفين إلى ما كانت عليه، وعقدت معاهدة الطائف عام 1353هـ (1934م)، ورأس وفد السعودية خالد بن عبد العزيز، ووفد اليمن عبد الله بن أحمد الوزير.
    وقد شاركت اليمن مع وفود الدول العربية الأخرى بحث قضية فلسطين في القاهرة عام 1358هـ = 1939م، وفي بلودان في سوريا عام 1365هـ = 1946م، وكانت من بين الدول التي ساهمت في إنشاء جامعة الدول العربية، وانضمت إليها عام 1365هـ = 1946م، ثم انضمت إلى الأمم المتحدة عام 1367هـ = 1948م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري