الخميس، 13 أغسطس 2009

التواضع

  • حادي عشر التواضع
    عن عمرو بن شيبة، قال: كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلاً راكبًا بغلة وبين يديه غلمان وإذا هم يعنفون الناس. قال: ثم عدت بعد حين، فدخلت بغداد، فكنت على الجسر، فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر، قال: فجعلت أنظر إليه وأتأمله، فقال لي: ما لك تنظر إليَّ؟ فقلت له: شبهتك برجل رأيته بمكة. ووصفت له الصفة، فقال له: أنا ذلك الرجل. فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس، فوضعني الله حيث يترفَّع الناس[1].

    - قال المغيرة كنا نهاب إبراهيم النَّخَعي
    [2] هيبة الأمير، وكان يقول: إن زمانًا صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء. وكان عطاء السلمي[3] إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذه بطنه كأنه امرأة ماخض[4]، وقال: هذا من أجلي يصيبكم، لو مات عطاء لاستراح الناس[5].

    - تفاخرت قريش عند سلمان الفارسي يومًا، فقال سلمان: لكنني خُلقتُ من نطفة قذرة، ثم أعود جيفة منتنة، ثم آتى الميزان، فإن ثقل فأنا كريم، وإن خف فأنا لئيم
    [6].

    - ركب زيد بن ثابت، فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه، فقال له: مَه يابن عمِّ رسول الله. فقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا. فأخذ زيد بن ثابت يد ابن عباس فقبَّلها، وقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل رسول الله
    7].

    - قال عروة بن الزبير: رأيت عمر بن الخطاب وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا!! فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلتْ في نفسي نخوة، فأحببتُ أن أكسرها. ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها
    [8].

    - عن عبد الله بن عباس، قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة، وقد ذُبح للعباس فرخان، فلما وافى الميزاب صُبّ ماء بدم الفرخين، فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثيابًا غير ثيابه، ثم جاء فصلَّى بالناس، فأتاه العباس، فقال: والله، إنه للموضعُ الذي وضعه رسول الله r. فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله r. ففعل ذلك العباس
    [9].

    - نظر المأمون
    [10] يومًا إلى رءوس آنيته محشوةً بقطنٍ، وكانت قبل ذلك بأطباق فضةٍ، فقال لصاحب الشراب: أحسنت يا بني، إنما يباهي بالذهب والفضة من خلاق عنده، وأما نحن فينبغي أن نباهي بالأفعال الجميلة والأخلاق الكريمة، فإياك أن تحشو رءوس أوانيك إلا بالقطن؛ فذاك بالملوك أهيأ وأبهى[11].

    - قال إبراهيم بن أدهم: ما فزت في الدنيا قط إلا مرة؛ بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام، وكان في البطن فجرَّ المؤذن رجلي حتى أخرجني من المسجد
    [12].
    [1] الغزالي: إحياء علوم الدين، بيان فضيلة التواضع 11/1945.
    [2] هو: أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، النخعي، فقيه أهل الكوفة وكان مفتيها هو والشعبي في زمانهما، قال مالك: كان من أهل الفضل. وقال ابن المسيب: ما رأيت أروع منه. انظر طبقات الحفاظ: 1/4 الموسوعة.
    [3] عطاء السلمي المشهور من كبار الخائفين بالبصرة معاصر لسليمان التيمي، أدرك زمان أنس بن مالك، وسمع من الحسن، وجعفر بن زيد، وعبد الله بن غالب، وعنه بشر بن منصور، وصالح المزي، وعبد الواحد بن زياد، انظر: لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني: باب من اسمه عطاء 3/174.
    [4] امرأَةٌ ماخِضٌ إِذا دَنا وِلادُها وقد أَخذها الطلْقُ، انظر: ابن منظور: اللسان، 7/228.
    [5] الغزالي: إحياء علوم الدين، 11/1945.
    [6] الغزالي: إحياء علوم الدين، 11/1945، 1946.
    [7] القشيري: الرسالة القشيرية، 1/70 المكتبة الشاملة.
    [8] القشيري: الرسالة القشيرية، 1/70 المكتبة الشاملة.
    [9] ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/285، ورواه الإمام أحمد (1790)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن.
    [10] أبو جعفر، عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي، دعي له بالخلافة بخراسان في حياة أخيه الأمين، ثم قدم بغداد بعد قتله، واستخلف سنة ثمان وتسعين ومائة، وأمر المأمون في آخر عمره أن يكون أخوه أبو إسحاق الخليفة من بعده، وتوفي سنة ثمان عشرة ومائتين، انظر: ابن عساكر: تاريخ دمشق، 33/279، وما بعدها.
    [11] المعافى بن زكريا: الجليس الصالح والأنيس الناصح ص 296. غير موافق
    [12] ابن أبي الدنيا: التواضع والخمول ص54.
    ثاني عشر العزَّة
    دخل ربعي بن عامر على رستم، وقد زيَّنوا مجلسه بالنمارق المذهَّبة والزَّرَابِيِّ الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب.
    ودخل ربعي بثياب صفيقة، وسيف، وترس، وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه، ودرعه، وبيضته على رأسه.
    فقالوا له: ضع سلاحك.
    فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
    فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل يتوكَّأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قَبِلَ ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله.
    قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.
    فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخِّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبّ إليكم؟ يومًا أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.
    فقال: ما سَنَّ لنا رسول الله أن نؤخِّرَ الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.
    فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟
    فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب
    [1].

    - عن أسلم أبي عمران التجيبي، قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفًّا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، على أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صفِّ الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله، ألقى بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب، فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعزَّ الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرًّا دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزَّ الإسلام وكثر ناصروه، فلما أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها أنزل الله على نبيه يردُّ علينا ما قلنا: "وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
    [2]". فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دُفن بأرض الروم[3].
    [1] ابن كثير: البداية والنهاية 7/39، 40.
    [2] (البقرة: 195).
    [3] سنن الترمذي: تفسير القرآن الكريم، سورة البقرة، ( 2972)، وقال الألباني: صحيح. والحاكم: (3088)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه. وابن حبان: (4711)، والنسائي: (11029)، والبيهقي: (17704).
    ثالث عشر: الورع
    عن الحسن، قال: بينما عمر بن الخطاب t يمشي ذات يوم في نفر من أصحابه إذا صَبِيَّة في السوق يطرحها الريح لوجهها من ضعفها، فقال عمر: يا بؤس هذا! مَن يعرف هذه؟
    قال له عبد الله: أوَ مَا تعرفها؟! هذه إحدى بناتك.
    قال: وأي بناتي؟ قال: بنت عبد الله بن عمر.
    قال: فما بلغ بها ما أرى من الضيعة؟ قال: إمساكك ما عندك.
    قال: إمساكي ما عندي عنها يمنعك أن تطلب لبناتك ما تطلبُ الأقوامُ، أما والله ما لك عندي إلا سهمك مع المسلمين، وسعك أو عجز عنك، بيني وبينكم كتاب الله
    [1].

    - لما حضرتْ عمرَ بن عبد العزيز الوفاةُ دعا بنيه وكانوا أحدَ عَشَرَ رجلاً، ولم يخلف غير بضع عشر دينارًا، فأمر أن يكفَّن ويُشْتَرَى له موضعٌ يُدفن فيه بخمسة دنانير، ويقصد المال على وارثيه، فأصاب كلّ ابن منهم نصف دينار وربع دينار، وقال: يا بني، ليس لي مال فأوصي فيه، ولكني قد تركتكم وما لأحد عندكم تبعة، ولا يقع على أحد منكم عين أحد إلا ويرى لكم عليه حقًّا. فقال له مسلمة بن عبد الملك: أَوَ خير من ذلك يا أمير المؤمنين. قال: وما هو؟ قال: هذه ثلاث مائة دينار، فرِّقها فيهم، وإن شئت فتصدق بها، وأوص فيها بما شئت. قال: أَوَ خير من ذلك يا مسلمة، تردُّها إلى مَن أخذتها منه، فإنها ليست لك بحقٍّ. ثم قال: إن ولدي أحد رجلين: فإما صالح فالله يتولَّى الصالحين، وإما فاسق فلا أحب أن أترك له ما يستعين به على معصية الله. فقال مسلمة: يرحمك الله يا أمير المؤمنين حيًّا وميتًا، فقد ألنت لنا قلوبًا قاسية، وذكرتها وكانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحات ذكرًا. فيقال: إنه ما رُئِي أحد من أولاد عمر بن عبد العزيز إلا وهو غني، ولقد شوهد أحدهم وقد جهز من خالص ماله مائة فارس على مائة فرس في سبيل الله تعالى، ولما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاةُ خلف أحد عشر ابنا كما خلف عمر بن عبد العزيز، وأوصى، فأصاب كل ابن ألف ألف دينار، فقال: إنه ما رُئِي أحد منهم إلا وهو فقير
    [2].

    قال أحمد بن سهل: مات أبو علي المَنْجُورَاني، فخرجنا نعزي ابنه علي بن محمد، فلما رجعنا من دفن أبيه نزع ثيابه، ودخل الماء في نهر، وقال: اشهدوا أني لا أملك اليوم شيئًا مما ورثت عن أبي، لأنه يتخالج في صدري، فإن واسيتموني بقميص حتى أخرج من الماء فعلتم. قال: وكان لنا صديقًا مؤانسًا، فألقوا إليه قميصًا، فخرج من الماء. وكان أبوه ترك مالاً لا يحصى
    [3].

    عن يوسف بن أسباط، أن الثوري وابن المبارك اختلفا في رجل خلف متاعه عند غلامه، فباع ثوبًا ممن يكره مبايعته، قال: قال الثوري: يخرج قيمته، يعني قيمة الثوب. وقال ابن المبارك: يتصدق بالربح.
    فقال الرجل: ما أجد قلبي يسكن إلا أن أتصدق بالكيس. وقد كان ألقى الدراهم في الكيس. فقال أبو عبد الله
    [4]: بارك الله فيه[5].

    - عن عبد الله بن راشد صاحب الطيب، قال أتيتُ عمر بن عبد العزيز بالطِّيبِ الذي كان يصنع للخلفاء من بيت المال، فأمسك على أنفه، وقال: إنما يُنتفع بريحه
    [6].

    - قدم على عمر بن الخطاب مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: والله لوددت أني أجد امرأة حسنة، تزن لي هذا الطيب حتى أفرقه بين المسلمين.
    فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن، فهلم أزن لك.
    قال: لا. قالت: ولم؟!
    قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا - وأدخل أصابعه في صدغيه - وتمسحين عنقك، فأصيب فضلاً عن المسلمين
    [7].

    كان لأبي بكر رحمه الله غلام يأتيه بكسبه كل ليلة، ويسأله من أين أصبت؟ فيقول: أصبتُ من كذا. فأتاه ذات ليلة بكسبه، وأبو بكر قد ظلَّ صائمًا، فنسي أن يسأله، فوضع يده فأكل، فقال الغلام: يا أبا بكر، كنت تسألني كل ليلة عن كسبي إذا جئتك، فلم أرك سألتني عنه الليلة؟ قال: فأخبرني من أين هو؟ قال: تكهَّنْتُ
    [8]r فأخبره، فقال: إني كذبت أبا بكر. فضحك النبي r، أحسبه قال: ضحكًا شديدًا. وقال: "إن أبا بكر يكره أن يدخل بطنه إلا طيبًا"[9]. لقوم في الجاهلية، فلم يعطوني أجري حتى كان اليوم فأعطوني. وإنما كانت كذبة، فأدخل أبو بكر يده في حلقه، فجعل يتقيَّأ، فذهب الغلام فأتى النبي

    عن فاطمة ابنة عبد الملك، قالت: اشتهى عمر بن عبد العزيز يومًا عسلاً، فلم يكن عندنا، فوجَّهنا رجلاً على دابَّة من دوابِّ البريد إلى بعلبك بدينار، فأتى بعسل، فقلت: إنكَ ذكرتَ عسلاً، وعندنا عسل، فهل لك فيه؟ قالت: فأتيناه به فشرب، ثم قال: من أين لكم هذا العسل؟ قالت: وجَّهْنَا رجلاً على دابَّة من دوابِّ البريد بدينار إلى بعلبك، فاشترى لنا عسلاً. فأرسل إلى الرجل، فقال: انطلق بهذا العسل إلى السوق فبعه، واردد إلينا رأس مالنا، وانظر إلى الفضل فاجعله في علف دواب البريد، ولو كان ينفع المسلمين قيء لتقيَّأت
    [10].

    - كان سفيان الثوري وسليمان الخوَّاص بمنى، فقال: امض بنا إلى هذا - يعني الخليفة - حتى نأمره. فدخل سفيان، فقال له: ادنه.
    فقال: لا أطأ على ما لا تملك. قال: يا غلام أدرج. فأدرج البساط.
    فقال له سفيان: كم أنفقت في حجتك؟ قال: لا أدري.
    قال: لكن عمر بن خطاب أنفق ستة عشر دينارًا، وقال: أجحفنا ببيت المال. وأنت قد أنفقت الأموال.
    فقال له أبو عبيد الله: شطت، تكلم أمير المؤمنين بمثل هذا.
    فقال له سفيان: اسكت، ما أهلك فرعون إلا هامان.
    فلما وَلَّى سفيان، قال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي اضرب عنقه.
    فقال له: اسكت، ما بقي على وجه الأرض مَن يُسْتَحْيَا منه غير هذا
    [11].

    عن مسلمة بن عبد الملك، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز بعد الفجر في بيت كان يخلو فيه بعد الفجر فلا يدخل عليه أحد، فجاءته جارية بطبق عليه تمر صيحاني
    [12]، وكان يعجبه التمر فرفع بكفِّه منه، فقال: يا مسلمة، أترى لو أن رجلاً أَكَلَ هذا، ثم شرب عليه من الماء على التمر طيب أكان مجزئه إلى الليل؟
    قلت: لا أدري.
    قال: فرفع أكثر منه، فقال: هذا؟
    قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان كافيًا دون هذا، حتى ما يبالي أن لا يذوق طعامًا غيره.
    قال: فعلام يدخل النار؟
    قال مسلمة: فما وقعت مني موعظة ما وقعت هذه
    [13].

    - عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أنه خرج إلى عمر فنزل عليه، وكانت لعمر ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنًا فأنكره، فقال: "ويحك! من أين هذا اللبن؟" فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناقة انفلت
    [14] عليها ولدها، فشرب لبنها، فحلبت لك ناقة من مال الله. فقال له عمر: ويحك! سقيتني نارًا، ادعُ لي علي بن أبي طالب. فدعاه، فقال: إن هذا عمد إلى ناقة من مال الله، فسقاني لبنها أفتحله لي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، هو لك حلال ولحمها، وأوشك أن يجيء من لا يرى لنا في هذا المال حقًّا[15].
    - عن العباس بن سهم، أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يديها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شريك
    [16].

    - عن الشعبي، قال: جاء رجلان إلى شريح، فقال أحدهما: اشتريت من هذا دارًا فوجدت فيها عشرة آلاف درهم. فقال: خذها. فقال: لِمَ إنما اشتريت الدار؟! فقال للبائع: خذها أنت. قال: لِمَ وقد بعته الدار بما فيها؟! فأدارا الأمر بينهما فأبيا، فأتيا زيادًا فأخبراه، فقال: ما كنت أرى أن أحدًا هكذا بقي. وقال لشريح: ادخلْ بيت المال، فألقِ في كل جراب قبضة حتى يكون للمسلمين. ثم قال للشعبي: كيف ترى الأمر؟ قال أبو بكر بن عياش: أعجبه ما صنع
    [17].
    - كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاحًا بين الناس، فجاء ابنٌ له وأخذ تفاحة من ذلك التفاح، فوثب إليه ففكَّ يده، فأخذ تلك التفاحة فطرحها في التفاح، فذهب إلى أُمِّه مستغيثًا، فقالت له: ما لك، أي بني؟ فأخبرها، فأرسلت بدرهمين فاشترت تفاحًا، فأكلت وأطعمته، ورفعت لعمر، فلما فرغ مما بين يديه دخل إليها، فأخرجت له طبقًا من تفاح، فقال: "من أين هذا يا فاطمة؟" فأخبرته فقال: "رحمك الله، والله إن كنت لأشتهيه"
    [18].

    - عن قتادة قال: كان معيقيب على بيت مال عمر، فكنس بيت المال يومًا، فوجد فيه درهمًا، فدفعه إلى ابن لعمر، قال معيقيب: ثم انصرفتُ إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاءني يدعوني، فجئت، فإذا الدرهم في يده، فقال لي: "ويحك
    [19]في هذا الدرهم"[20]. يا معيقيب، أوجدتَ عليَّ في نفسك شيئًا؟ قال: قلتُ: ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: "أردتَ أن تخاصمني أمة محمد
    - عن فرات بن مسلم، قال: كنت أعرض على عمر بن عبد العزيز كتبي في كل جمعة، فعرضتها عليه، فأخذ منها قرطاسًا قدر أربع أصابع، فكتب فيه حاجة، قال: فقلت: غفل أمير المؤمنين. فأرسل من الغد: أن جئني بكتبك. قال: فجئت بها، فبعثني في حاجة، فلما جئت قال لي: ما لنا أن ننظر فيها؟ قلت: إنما نظرت فيها أمس. قال: فاذهب أبعث إليك، فلما فتحتُ كتبي وجدت فيها قرطاسًا قدر القرطاس الذي أخذ
    [21].
    [1] ابن أبي الدنيا: الورع ص114.
    [2] أبو عبد الله القلعي: تهذيب الرياسة وترتيب السياسة ص207 – 209.
    [3] ابن الجوزي: صفة الصفوة 4/174.
    [4]هو أحمد بن حنبل.
    [5] أحمد بن حنبل: الورع ص23.
    [6] أحمد بن حنبل: الورع ص37.
    [7] أحمد بن حنبل: الورع ص37.
    [8] التكهُّن: من الكهانة وهي تعاطي الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان وادعاء معرفة الأسرار، انظر: ابن منظور: اللسان، 13/362.
    [9] ابن أبي الدنيا: الورع ص84.
    [10] أحمد بن حنبل: الورع ص85.
    [11] أحمد بن حنبل: الورع ص95.
    [12] الصَّيْحانيُّ: ضَرْبٌ من تمر المدينة، أَسود صُلْبُ المَمْضَغَة، انظر: ابن منظور: اللسان، 2/521.
    [13] أحمد بن حنبل: الورع ص102.
    [14] الانفلات: المباغتة والانسلاخ والتخلص من الشيء فجأة من غير تمكث، انظر: ابن منظور: اللسان، 2/66.
    [15] ابن أبي الدنيا: الورع ص91.
    [16] ابن أبي الدنيا: الورع ص99.
    [17] ابن أبي الدنيا: الورع ص120.
    [18] ابن أبي الدنيا: الورع ص124.
    [19] ويح: كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد يقال بمعنى المدح والتعجب، انظر: ابن منظور: اللسان، 2/638.
    [20] ابن أبي الدنيا: الورع ص126.
    [21] ابن أبي الدنيا: الورع ص123.
    رابع عشر: العفو
    قال المأمون لعمه إبراهيم بن المهدي، وكان مع أخيه عليه: إني شاورت في أمرك فأشاروا عليَّ بقتلك، إلاَّ أني وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت القتل لألزم حرمتك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن المشير أشار بما جَرَتْ به العادة في السياسة، إلا أنك أبيتَ أن تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو، فإن عاقبت فلك نظيرٌ، وإن عفوت فلا نظير لك. وأنشأ يقول:
    البرُّ منك وَطَيُّ العذر عندك لي
    فيما فعلتُ فَلَمْ تَعْذِلْ ولم تَلُمِ
    وقام عِلْمُكَ بي فاحتجَّ عندك لي
    مقامَ شاهدِ عدلٍ غير مُتَّهَمِ
    [1]
    [1] الأبيات من البسيط، انظر: الطرطوشي: سراج الملوك 1/177.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري