الاثنين، 9 نوفمبر 2009

إسلام عمر


  • بعد ثلاثة أيام فقط من إيمان حمزة آمن عظيمٌ آخر، هذا المؤمن الجديد يكون سيفًا من سيوف الله المسلولة على الكفر وأعوانه، إنه الفاروق عمر بن الخطاب . وإن قصة إسلامه لأعجب من قصة إسلام حمزة رضي الله عنهما، فقد كان حمزة خلال السنوات الست التي سبقت إسلامه سلبيًّا بالنسبة لرسول الله وبالنسبة للمؤمنين، فلم يكن معهم، ولا معارضًا لهم.
    وإزاء الأحداث والمستجدات الأخيرة التي ظهرت على ساحة مكة كان عمر بن الخطاب يعيش صراعًا نفسيًّا حادًّا، فهو بين كونه زعيمًا قائدًا في مكة، وبين كونه تابعًا لهذا الدين الجديد، يُحدِّثه قلبه بأن هؤلاء الناس قد يكونون على صواب؛ لثباتهم الشديد فيما يتعرضون له، فهم يقرءون كلامًا غريبًا لم تسمعه قريش من قبل، إضافةً إلى أن (رئيسهم) الرسول قد عُرف بتاريخه المشرف في الصدق والأمانة. ويحدثه عقله بمكانته القرشية الرفيعة، فهو قائد من قوادها، والإسلام لا يفرق بين سيد وعبد، فذلك الدين قسّم مكة إلى نصفين؛ نصفٍ يؤمن به ونصف يحاربه. ومنذ ست سنوات ومكة في متاعب ومشكلات، ومناظرات ومحاورات، وفي لحظة عصيبة من هذا الصراع الداخلي انتصر عقله في النهاية، وبعدما شعر بكراهية شديدة للرسول الذي وضعه في مثل هذا الصراع النفسي الرهيب، قرر أن يقوم بما فكر فيه كثير من مشركي قريش قبل ذلك، لكنهم لم يفلحوا فيه، قرر أن يقتل رسول الله . وكان قد دفعه إلى أخذ هذا القرار أيضًا ما حدث قبل يومين من إهانة شديدة لأبي جهل في مكة على يدِ عمِّ رسول الله حمزة الذي أضحى مسلمًا، وكانت حرارة هذا الدافع نابعة من أن أبا جهل خال عمر بن الخطاب؛ لذا كان ردُّ الاعتبار والقضاء على هؤلاء مقدَّمًا عند عمر بن الخطاب.
    وكانت من أعظم لحظات البشرية على الإطلاق، لحظة تحوَّل فيها من الشرك إلى فاروق فرَّق الله به بين الحق والباطل. وحين سُمِعَ عمر وهو يقول: ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله! بشَّره خباب قائلاً: "يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه؛ فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب". بعد هذه القوة الجديدة التي وصلت لها الدعوة، حاولت قريش إغراء النبي ، لكن محاولاتها باءت بالفشل، فبدأت بحصار ومقاطعة المؤمنين في شِعْب أبي طالب مدة ثلاث سنوات، حتى رفضها رجال من قريش على رأسهم هشام بن عمرو، فخرج المؤمنون أكثر قوةً وعزمًا.

    مقدمة
    بعد ثلاثة أيام فقط من إيمان حمزة آمن رجل آخر، آمن عظيم آخر، وبإيمان هذا المؤمن الجديد سيغير الله من وجه الأرض تمامًا، سيغير من حركة التاريخ، ذلك الرجل الذي سيزلزل عروش ملوك الأرض في زمانه، كسرى وقيصر وغيرهم، هذا المؤمن الجديد هو: عمر الفاروق .
    فمنذ أول لحظات إيمانه وحتى آخر أيام حياته كان فاروقًا، وإن قصة إسلامه لأعجب من قصة إسلام حمزة رضي الله عنهما، فقد كان حمزة خلال السنوات الست التي سبقت إسلامه كان سلبيًّا بالنسبة لرسول الله وبالنسبة للمؤمنين، فهو ليس معهم، وفي الوقت ذاته ليس عليهم.
    تاريخ عمر مع المسلمين
    أما عمر بن الخطاب فكان شيئًا آخر، فتاريخه مع المؤمنين كان من الصعوبة والقسوة بمكان، كان تاريخه حافلاً بالقسوة والعنف الشديدين، ومثل حمزة فقد كان عمر رجلاً مغمورًا في التاريخ، رجل مثل بقية رجال قريش قبل أن يسلموا، نعم كانت له مكانة خاصة في نادي قريش، وكانت سفارة قريش موكولة إليه، وكان مسموع الكلمة في قبيلته بني عدي وفي قريته مكة، لكن ما هي قبيلة عديّ أو ما هي مكة بالنسبة إلى ما يجاورها من تكتلات وقوى عظمى؟
    ما هي مكة بالنسبة إلى فارس والروم ومصر والصين والهند، إنها لا تعدو أن تكون مجموعة من القبائل البدوية البسيطة، التي تعيش في وسط الصحراء العربية على الرعي والتجارة وبيع الأصنام، وهذه مكة قبل الإسلام، فكان عمر مثل آلاف أو ملايين الرجال الذين مروا في التاريخ، وقد انطوت صفحاتهم، واندثر ذكرهم بمجرد وفاتهم.
    قسوة وغلظة.
    . ولكن
    إلى جانب سلطته وقوته وبأسه كان عمر أيضًا غليظ الطباع، قاسي القلب، شديدًا على الإسلام والمسلمين، فقد كان يعذِّب جارية له علم بإسلامها من أول النهار حتى آخره، ثم يتركها نهاية الأمر ويقول: "والله ما تركتك إلا ملالةً".
    ورغم هذه القسوة وتلك الغلظة إلا أن عمر كان يخفي وراءها رقة عَزَّ أن تجد مثلها. تحكي عن هذا زوجة عامر بن ربيعة رضي الله عنهما، وذلك حينما رآها عمر وهي تعد نفسها للهجرة الأولى إلى الحبشة، فقال لها كلمة شعرت من خلالها برقة عذبة في داخله، وأحست بقلبها أنه من الممكن أن يسلم عمر، وذلك أنه قال لها: صحبكم الله.
    لم تتوان زوجة عامر بن ربيعة في أن تخبر زوجها بما رأت من عمر، فرد عليها بقوله: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم. ولأن الانطباعات الأولى ما زالت محفورة في نفسه، رد عليها زوجها وفي يأس كامل بقوله: فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب. وإذا كانت الأمور بخواتيمها، فقد كانت نظرة المرأة أدق من نظرة الرجل.
    صراع حاد بين جوانح عمر

    وإزاء الأحداث والمستجدات الأخيرة، والتي ظهرت على ساحة مكة كان يعيش عمر بن الخطاب صراعًا نفسيًّا حادًّا، فهو بين أن يكون زعيمًا قائدًا في مكة، وبين أن يكون تابعًا في هذا الدين الجديد، يحدثه قلبه بأن هؤلاء الناس قد يكونون على صواب، وأن هؤلاء الناس ثباتهم عجيب جدًّا فيما يتعرضون له، وهم يقرءون كلامًا غريبًا لم نسمعه من قبل، هذا إضافةً إلى أن (رئيسهم) الرسول ليس عليه من الشبهات شيء، فهو الصادق الأمين.
    ويحدثه عقله بأنه سفير قريش، وقائد من قوادها، والإسلام سيضيّع كل هذا، فذلك الدين قسّم مكة إلى نصفين، نصف يؤمن به ونصف يحاربه، ومنذ ست سنوات ونحن منه في متاعب ومشكلات، ومناظرات ومحاورات.
    صراع شديد في نفس عمر، قلبه في طريق، وعقله في طريق آخر، وأصدقاء السوء في مكة كثيرون، يزينون له المنكر
    .
    عمر يقرر قتل النبي
    في لحظة عصيبة من هذا الصراع الداخلي انتصر عقله في النهاية، وبعدها شعر بكراهية شديدة للرسول الذي وضعه في مثل هذا الصراع النفسي الرهيب، والذي لم يكن معتادًا عليه، ولأن من طبعه الحسم وعدم التردد، فقد قرر أن ينتهي من كل ما يؤرقه، وأراد أن يخلص نفسه ويخلص مكة كلها ممن أحدث فيها هذه البدع وتلك المشكلات، فقرر أن يقوم بما فكر فيه كثير من مشركي قريش قبل ذلك، لكنهم لم يفلحوا فيه، قرر أن يقتل رسول الله .
    وكان قد دفعه إلى أخذ هذا القرار - أيضًا - ما حدث قبل يومين من إهانة شديدة لأبي جهل في مكة على يد عم رسول الله حمزة والذي أصبح على دين محمد، وكانت حرارة هذا الدافع نابعة من أن أبا جهل خال عمر بن الخطاب، رأى عمر أنه قد أصيب في كرامته تمامًا كما أصيب أبو جهل، ورد الاعتبار في هذه البيئة عادة ما يكون بالسيف.
    هنا قرر ابن الخطاب قتل رسول الله ، وقد جاء خاطر هذا القرار في ذهنه في لحظة، وكانت محاولة التنفيذ مباشرة في اللحظة التالية، رغم أنه لم يعرف مكانه ؛ فلم يكن من المشركين أحد يعرف دار الأرقم بن أبي الأرقم.
    خرج عمر بن الخطاب من بيته متوشحًا سيفه قاصدًا رسول الله يبحث عنه لقتله، وفي الطريق لقيه نُعَيم بن عبد الله وكان من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم، وكان أيضًا من قبيلة عمر، من بني عدي، وكان من السهل على نعيم أن يقرأ الشر في قسمات وملامح وجه عمر، فأوقفه نعيم وقال له: أين تريد يا ع
    مر؟
    ولأنه صريح لا يكذب ولا ينافق ولا يُداهن، لعدم حاجته إلى مثل هذه الصفات، ومن ناحية أخرى فهو لا يعرف نبأ إسلام نعيم، قال عمر في غاية الصرامة والجدية:
    أريد محمدًا، هذا الصابئ، الذي فرّق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسفه آلهتها؛ فأقتله.
    ما كان من نعيم حين سمع مقالة عمر إلا أن أصابه الرعب والفزع، فقد رأى الخطر العظيم المحدق برسول الله وليس هناك وقت لتنبيهه
    .
    من مأمنه يُؤْتى الحَذِر
    إزاء ما وجد نعيم من عمر، لم يتمالك نفسه في أن يكشف له عن سر خطير؛ قاصدًا أن يلهيه به عن هذا الإقدام وذاك التفكير، فأماط اللثام عن إسلام أخته وزوج أخته معًا، كشف له عن إيمان فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها أخت عمر، وعن إيمان زوجها سعيد بن زيد ، كان من الممكن أن يقتلهما عمر، لكن في المقابل يستطيع نعيم أن يبلغ الرسول ليأخذ حذره، ولو كان أخبره بإسلام أحد آخر فلن يهتم عمر، أما إذا أخبره بإسلام أخته، فهذا شيء كبير جدًّا وطعن جديد في كرامة عمر، هنا قال نعيم مهددًا:
    والله لقد غرّتك نفسك من نفسك يا عمر؛ أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟!
    ثم ألقى بقنبلته المدوية، فقال:
    أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟
    وفي فزعٍ، قال عمر:
    أي أهل بيتي؟!
    فألقى نعيم ما في جعبته قائلاً:
    ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه؛ فعليك بهما.
    الله يهدي من يشاء
    جنَّ جنون عمر، وقد نسي ما كان يفكر فيه، وأسرع من توّه إلى عقر داره وبيت أخته الذي اخترقه محمد لا يلوي على أحد.
    في تلك الأثناء كان خباب بن الأرت يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن، فقد كان رسول الله يقسم المسلمين إلى مجموعات، كل مجموعة تتدارس القرآن فيما بينها، ثم يجتمعون بعد ذلك في لقاء جامع معه في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وقد كان خباب يقوم بدور المعلم لسعيد وزوجته.
    وصل عمر إلى بيت أخته، وقبل دخوله سمع همهمة وأصواتًا غريبة، وبعنفٍ أخذ يطرق الباب وينادي بصوته الجهوريّ أن افتحوا.
    أدرك من بالداخل أن عمر بالباب، فأسرع خباب - وكان من الموالي - بالاختفاء في غرفة داخلية، وقد قال: "لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن ينجو خباب".
    وفتح سعيد الباب، ودخل عمر وهو يحترق من الغضب، لا يسيطر على نفسه والكلمات تتطاير من فمه، والشرر يقذف من عينيه، ودون استئذان يسأل:
    ما هذه الهمهمة (الصوت الخفي غير المفهوم) التي سمعت؟
    ردَّا عليه: ما سمعتَ شيئًا.
    قال عمر: بلى، والله لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه.
    ثم ألقى بنفسه على سعيد يبطش به، هنا تدخلت الزوجة الوفية فاطمة رضي الله عنها تدافع عن زوجها، فوقفت بينه وبين عمر تدفع عمر عنه، وفي لحظة غضب عارمة التفت عمر إلى أخته، ولم يدرك نفسه إلا وهو يضربها ضربة مؤلمة على وجهها، تفجرت على إثرها الدماء من وجهها.
    وإزاء ما حدث وفي تحدٍّ واضح، وقف سعيد بن زيد يتحدى عمر ويقول: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.
    وإن تعجب فعجب موقف أخته فاطمة المرأة الضعيفة، وقد وقفت في تحدٍّ صارخ وأمسكت بوجه أخيها عمر، وهي تقول له:
    وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر.
    ذهل عمر، ما هذا الذي يحدث؟! هل هذه هي أخته؟ ما الذي جرّأها إلى هذه الدرجة؟!
    وعلى شدة بأسه وقوة شكيمته شعر عمر بأنه ضعيف وصغير، لا يستطيع أن يقف أمام هذه المرأة، وفي الوقت ذاته شعر وكأنها أصبحت جبلاً أشمًّا يقف أمامه، لقد تغيرت الدنيا وهو لا يدري.
    ورغم ذلك وفي تعبير عن رقة عظيمة في قلبه تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال عمر: فاستحييت حين رأيت الدماء.
    وإذا كان الحياء كله خير، وإذا كان الحياء لا يأتي إلا بخير، فإن الرجل الذي ليس به خير هو الذي لا يستحي من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه ووقفت أمامه وتحدته، وبالأخص في هذه البيئة القبلية الجاهلية، تلك التي كانت تفقد فيها المرأة كثيرًا من حقوقها.
    وفي تنازل كبير للغاية، يقول عمر:
    فجلست، ثم قلت: أروني هذا الكتاب. في نظره أن هذا مطلب عادي.
    وكانت اللطمة والضربة الثانية الموجعة التي لم يكن يتوقعها على الإطلاق، حيث قالت له أخته فاطمة:
    يا أخي، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.
    وعلى عكس ما كان يتوقعه بَشَر قام عمر وفي هدوء عجيب، قام ليغتسل.
    لا شك أن هناك شيئًا غريبًا يحدث، شيئًا لا يمكن تفسيره إلا عن طريق قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
    وهنا قد شاء الله الهداية لعمر، وشاء الله الخير له وللمسلمين بل ولأهل الأرض جميعًا، قام عمر وسط هذه الأجواء ليغتسل في بيت أخته ليصبح طاهرًا فيقرأ الصحيفة.
    بعد اغتساله أعطته فاطمة رضي الله عنها الصحيفة يقرؤها، وبلسانه وعقله وقلبه قرأ عمر
    :
    بسم الله الرحمن الرحيم.
    فقال مُظهِرًا خيرًا عميمًا: أسماء طيبة طاهرة.
    ثم قرأ:
    {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلاَ (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1- 8].
    تزلزل عمر ، وقد وجد نفسه خاشعًا متصدعًا من خشية الله، وفي لحظة قد خالط الإيمان فيها قلبه قال عمر:
    فعظمت في صدري، فقلت: ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله!
    فكان شأن عمر الساعة قد تبدّل، وكان هذا هو عمر، أسلم بمعنى الكلمة.
    وكانت هذه من أعظم لحظات البشرية على الإطلاق، لحظة تحول فيها رجل يسجد لصنم ويعذب المؤمنين إلى عملاق من عمالقة الإيمان، وإلى فاروق فرق الله به بين الحق والباطل، وإلى رجل يراقب الله في كل حركة وكل سكون، وكل كلمة وكل همسة، ثماني آيات فقط، صنعت الأسطورة الإسلامية العجيبة عمر.
    وحين سمع عمر وهو يقول: ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله! خرج خباب من مخبئه وقال: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: "اللَّهُمَّ أَيِّدْ الإِسْلاَمَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"، فاللهَ اللهَ يا عمر.
    عند ذلك قال عمر مُقِرًّا ومعترفًا برسالة محمد : فأين رسول الله؟
    قال خباب: إنه في دار الأرقم.
    أخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم انطلق من جديد إلى رسول الله ، ولكنه انطلق في هذه المرة بقلب مؤمن، وأمام دار الأرقم ضرب عمر الباب على رسول الله وصحابته، فقام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل الباب فوجد عمر، فرجع فزعًا إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحًا السيف.
    كان في بيت الأرقم آنذاك أربعون صحابيًّا مع رسول الله ، ورغم هذا العدد فقد قام يدافع عن الجميع ويتصدر هذا الموقف الخطير حمزة بن عبد المطلب ، الذي لم يخالط الإيمان قلبه إلا منذ ثلاثة أيام فقط، قام حمزة، فقال في صلابة: "فَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَاهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ شَرًّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ".
    فقال رسول الله : "ائْذَنُوا لَهُ".
    ففتح لعمر فدخل إلى الدار المباركة، دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثم أدخلوه في حجرة، وقام إليه رسول الله فدخل عليه، واقترب منه، ثم أخذ رسول الله بمجمع ردائه، ثم جذبه نحوه جذبة شديدة وقال له في قوة:
    "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزل الله بك قارعة".
    عندئذٍ رد عمر بصوت منخفض: يا رسول الله، جئت لأُومِنَ بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله.
    الله أكبر! انتصار هائل وكبير للدعوة، خاصة بعد دخول حمزة في دين الله .
    الفرحة في قلب الرسول لا توصف، وكان أول رد فعل له أن كبر الله : الله أكبر! الله أكبر الذي صنع هذه المعجزة.
    عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أعلن إسلامه، فدخلوا عليه يهنئونه ويباركونه جميعًا، وأصبح العدو القديم صديقًا ورفيقًا.
    عمر.. فاروق منذ البداية
    وكما ولد حمزة عملاقًا، فإن عمر أيضًا ولد عملاقًا ، ولد عمر فقيهًا، حازمًا، واضحًا صريحًا، مضحيًّا، بعد إسلامه مباشرة كانت أول كلمة قالها:
    يا رسول الله، ألسنا (استخدم صيغة الجمع) على الحق؟

    قال: بلى.
    قال عمر: ففيمَ الاختفاء؟!
    منذ أن أعلن إسلامه وقد حسب نفسه واحدًا منهم، وقد أخذ يقترح عليهم الاقتراحات، ويفكر كيف يخدم هذا الدين، وما هو الأنفع والأصلح للدعوة، وكان هذا هو عمر.
    ولقد كان الرسول يرتب حساباته بدقة، وكان الاختفاء لأسباب، وهنا وقد تغير الوضع، وبعد أن كان للاختفاء مزايا، أصبح للإعلان مزايا؛ فأعاد الرسول الله حساباته ثانية من جديد، وذلك بعد إيمان حمزة وعمر رضي الله عنهما، رجلان فقط من المسلمين غيَّرا من مسار الدعوة الإسلامية بكاملها في هذه الفترة الحرجة.
    ووافق رسول الله على الإعلان، وسيبدأ يُعلن الإسلام في مكة، وسيظهر المسلمون في مكة، وتقضى الشعائر أمام كل الناس في مكة وفي وضح النهار، وكانت هذه دعوة كبيرة جدًّا لله وللرسول وللمسلمين، أخذ المسلمون القرار من حينها، وفي نفس اللحظة خرج المسلمون في صفين، عمر على أحدهما، ولم يكن آمن إلا منذ دقائق، وحمزة على الآخر وكان قد آمن منذ ثلاثة أيام فقط. ومن دار الأرقم إلى المسجد الحرام، حيث أكبر تجمع لقريش، سارت الكتيبة العسكرية الإسلامية المؤمنة.
    ومن بعيدٍ نظرت قريش إلى عمر وإلى حمزة وهم يتقدمان المسلمين، فَعَلتْ وجوهَهُم كآبة شديدة، يقول عمر: فسماني رسول الله الفاروق يومئذٍ.
    عمر يزف خبر إسلامه لأبي جهل
    في شوق ولهفة عارمة لأن يعلم ألد أعداء الإسلام خبر إسلامه، نظر عمر بن الخطاب في المسجد الحرام فلم يجد أبا جهل، حينها قرر أن يذهب إليه في بيته ويخبره بنفسه عن أمر إسلامه.
    يقول عمر: فأتيت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إليّ وقال:
    مرحبًا وأهلاً يابن أختي، ما جاء بك؟!
    وفي تحدٍّ واضح، قال عمر:
    جئتُ لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به.
    قال عمر: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به.
    فرح عمر فرحًا شديدًا؛ كونه غاظ أبا جهل، ذلك الذي كان صاحبه منذ قليل، لكن الإسلام نقله نقلة هائلة.
    لكن عمر ما زال يريد أن يُعلم خبر إسلامه الجميع، فذهب إلى جميل بن معمر الجمحي الذي كان أنقل قريش للحديث، لا يسمع حديثًا إلا حدث الناس جميعًا به، ذهب عمر وقال له: يا جميل، لقد أسلمت. وبأعلى صوته نادى جميل: إن ابن الخطاب قد صبأ. فرد عليه عمر: كذبت، ولكني قد أسلمت.
    وعرفت مكة كلها بإسلام عمر، وكان هذا عين ما أراده، بعدها اجتمع القوم من أطراف مكة، وقد أقبلوا على عمر بن الخطاب وأخذوا يقاتلونه ويقاتلهم، وبعد تعب شديد جلس عمر على الأرض وقال:
    افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل، لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. وسبحان الله! كان هذا هو عدد المسلمين يوم بدر.
    قوة وعزة.. ولكن
    كأن الله يريد أن يعلم عمرَ طريق الدعوة من أول يوم ولد فيه حين أسلم، فكان أن ضُرب عمر وأُهين، وكذلك كان حال كل من حمل هم الدعوة إلى الله تعالى.
    "أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ".
    ومع أن عمر ضُرب من أول يوم إلا أن هذا كان رد فعل استثنائي نتيجة المفاجأة بإسلامه، وكان إسلام حمزة وإسلام عمر بعد ذلك دفعًا كبيرًا للدعوة الإسلامية، فقد كانت مكة تهاب عمر وتخشاه، يؤكد هذا كلام صهيب الرومي حين يقول:
    لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعِي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
    ويقول أيضًا عبد الله بن مسعود : "ما زلنا أعزَّة منذ أسلم عمر".
    ومع أن حال المسلمين كان قد تحسن، وأصبح المسلمون يُظهرون عبادتهم وشرائعهم في مكة، إلا أن الرسول لم يعلن الحرب على قريش، لم يبدأ في مواجهة عنترية مع صور الباطل في مكة، كانت الأصنام ما زالت منتشرة في مكة، بل في الكعبة، وما زالت رايات العاهرات الحمر مرفوعة، وما زالت الخمور تسقى، وما زال المشركون يعبدون إلهًا غير الله، إلا أنه ما زال القتال لم يُفرض بعد على المسلمين، وإن في هذا لرسالة واضحة لجمع من الشباب ممن يتحمسون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق القوة والعنف وحمل السلاح، معتقدون أنهم في زمن تمكين وسيادة، ومتجاهلون أن الرسول نفسه لم يقم بمثل هذا في فترة مكة. إن الجرأة من شباب المسلمين على المشركين في ذلك الوقت لا تُعدّ شجاعة، ولا تعد جهادًا، وإنما تعد تهورًا وتسرعًا وجهلاً بفقه المرحلة.
    لقد ثقلت كفة المسلمين كثيرًا بإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ولكن اتخذ ذلك بحساب، وهي رسالة إلى كل المتحمسين من الشباب، فقد تكون الظروف مشابهة لظروف مكة، وفوق ذلك قد تكون بغير حمزة وبغير عمر، ومع ذلك قد يحدث منهم تهور واندفاع، وإنها لرسالة: قد تخسر الدعوات كثيرًا من حماسة في غير موضعها، تمامًا كما تخسر من رَوِيّة في غير مكانها.
    قريش ترضخ للمفاوضات وتقدم الإغراءات
    كانت أحداث ضخمة جدًّا قد حدثت في مكة، تغييرات محورية في مسار الدعوة، أسلم حمزة ثم أسلم عمر، تغيرت موازين القوى في مكة تغيرًا ملحوظًا، ولم يكن ذلك يخفى على مشركي قريش وعلى زعمائها، فها هم الأحرار الأشداء وقد باتوا يسلمون، وها هي الدعوة الإسلامية وقد باتت تتسلل إلى داخل بيوتاتهم.
    وإزاء تلك الأحداث وتلك التطورات الخطيرة، دعا المشركون إلى اجتماع عاجل على مستوى قادة وزعماء مكة؛ وذلك لمواجهة الأزمة الجديدة، والمشكلة الخطيرة التي باتت تهددهم. وفي هذا الاجتماع تقدم عتبة بن ربيعة زعيم بني أمية وأحد حكماء قريش باقتراح، فعرض يقول:
    يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟
    وكان هذا تنازلاً جِدّ خطير من زعماء قريش، وهو وإن دل على شيء فإنما يفسر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أن هذا العرض كان على غير هوى الكثيرين إلا أنهم وافقوا مضطرين، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه.
    وفي المسجد الحرام حيث كان رسول الله يجلس بمفرده ذهب عتبة، وجلس معه وبدأ حواره، ولأنه كان ذكيًّا فقد بدأ عتبة بن ربيعة الكلام وقد رتبه ونظمه، ونوّع فيه بين الإغراء والتهديد، وبين مخاطبة العقل ومناجاة القلب. ولا غرو فهو كما يقولون كان من الحكماء، ابتدأ عتبة كلامه يرفع من قدر رسول الله بقصد إحراجه نفسيًّا قائلاً:
    يابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من السطة - أي المنزلة - في العشيرة والمكان في النسب.
    ثم أتبع ذلك بالتلويح بما يعتبره جرائم ضخمة، لا يجب في رأيه أن تأتي من هذا الإنسان رفيع القدر قائلاً:
    إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فَرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.
    يريد وبمنتهى الوضوح أنك متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فما لك أنت والدين؟! دع الدين لأهل الدين، كان عليك أن تدعه للكهّان ومن يخدم الأصنام، أنت قد أقدمت على هذا العمل، وقد تسبب عنه لقومك كذا وكذا وكذا، وقد يكون ما أقدمت عليه هذا مجرد خطأ غير مقصود، ومن ثَمَّ - ولمنزلتك عندنا - سنعرض عليك أمورًا فاختر منها ما شئت.
    بهذه الطريقة الثعبانية يريد عتبة أن يخبر رسول الله أن هذه الاقتراحات التي سنطرحها عليك ليست مجرد اقتراحات مغرية فقط، بل إن مجرد رفض هذه الاقتراحات معناه توجيه وإثبات التهم الخطيرة عليك، والتي عقابها أنت تعلمه ولن أذكره لك.
    حرب نفسية شديدة، وإن كانت مغلفة بابتسامة واحترام كبير، وكان الرسول يتفهم مثل هذا الأسلوب جيدًا، وكان يعلم أن هذه مساومة على الدين، لكنه كان في غاية الأدب مع عتبة المشرك الكافر، فقال له في سعة صدر وفي رقة قلب مدللاً له ومناديًا إياه بكنيته وبأحب الأسماء إليه:
    "قل يا أبا الوليد".
    يريد أن يستوعب عتبة بن ربيعة، ويريد أن يعطيه فرصة للحديث حتى يعطيه بعد ذلك بدوره فرصة للسماع، قال عتبة يعرض لأمور غاية في الإغراء لأهل الدنيا:
    العرض الأول:
    يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً.
    العرض الثاني:
    وإن كنت تريد به شرفًا سَوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك.
    العرض الثالث:
    وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا.
    العرض الرابع - وهو عرض غير مؤدب لكنه حاول أن يخرجه في صورة مؤدبة -:
    قال: وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه.
    وهذا العرض الأخير فيه من التلميح من أن الذي لا يقبل العروض السابقة، فإنه - ولا شك - في عرف قريش مجنون.
    وكانت هذه عروض أربعة من ممثل قريش الرسمي في المفاوضات مع رسول الله ، وكان عتبة يقدم هذه العروض وهو يرى أنه يقدم أكبر تنازل قد حدث في تاريخ مكة كلها.
    وإن هذا التنازل الكبير لا بد أن يكون في مقابل، وقد كان المقابل هو:
    السكوت عن الحق، ترك أمر الدعوة، عدم الخوض إلا فيما يرضي الزعماء والأسياد في مكة أو في غير مكة.
    وهي - لا شك - عروض لشراء الضمائر والذمم، ولا شك أن من يقبل بمثلها فإن عليه أولاً أن ينحي الضمير جانبًا. ومن هنا فإن التنازلات الضخمة في حياة الدعاة يكون مبدؤها - عادةً - تنازلاً صغيرًا، ولأن الرسول لم يكن ليخفى عليه مثل هذا، فكان لا يمكن أن يتنازل.
    كان رسول الله سياسيًّا بارعًا محنكًا، يحاور ويفاوض، لكن وفق ضوابط شرعية قد سنَّها وحددها، فما قبله صلى الله عليه سلم فهو الحد الذي يجب أن يأخذ به الدعاة من بعده، وما رفضه فهو الأمر الذي لا يجب أن يقبل أو يتخطاه أي داعية بعد ذلك.
    ومع أن الرسول كان يعلم منذ أول كلمة تفوه بها عتبة أن كل ما سيعرضه عليه ما هو إلا مساومات لا قيمة لها، ومنذ أول حديث له (لعتبة) وهو عازم تمامًا على رفض كل العروض الدنيوية المغرية والسفيهة جدًّا في نظر الدعاة الصادقين، مع كل ذلك إلا أنه - وسبحان الله - لم يقاطع عتبة مرة واحدة، وقد تركه حتى فرغ تمامًا من حديثه، وبعد أن انتهى من حديثه وفي هدوءٍ تام وعدم انفعال قال له: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟"
    أجابه عتبة: نعم.
    وهنا قال له رسول الله : "فاسمعْ مني".
    قال عتبة: أفعل.
    وكان هذا هو الذي يريده ، ولم يكن عتبة ليستطيع أن يرفض السماع بعد كل هذا الأدب العظيم من رسول الله ، فكان مضطرًّا لأن يسمع حتى وإن كان على غير مراده، وفي محاولة جادة لتطويع الهدف بدأ رسول الله في الحديث، فلم يتكلم بكلامه هو، إنما تكلم بكلام الله ، تكلم بالقرآن، فقرأ قول الله تعالى:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصِّلت: 1- 7].
    كلمات معجزة عجيبة تتنزل عليه كما الصاعقة، تكشف كل ما بداخله، وهو يزداد خوفًا ولا يستطيع القيام.
    قرأ رسول الله قول الله :
    {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصِّلت: 8- 12].
    ثم يرتفع التحذير والتهديد فيبلغ أقصاه حين يقرأ رسول الله:
    {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصِّلت: 13].
    وهنا لم يتمالك عتبة نفسه عن عدم السماع، وقد أخذ به الرعب والهلع كل مأخذ، وكاد قلبه ينخلع، وشعر وكأن صاعقة ستنزل عليه في لحظة أو في لحظات، وفي حالة نسي فيها أمر عدائه، ونسي أمر المفاوضات، بل نسي مكانته وهيبته، قام فزعًا وقد وضع يده على فم الرسول وهو يقول: أنشدك الله والرحم، أنشدك الله والرحم.
    ومن فوره قام عتبة يجر ثوبه يتبعثر فيه مهرولاً إلى قومه، لا ينظر خلفه، عيناه زائغتان، أنفاسه متقطعة، حتى دخل على زعماء قريش.
    لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء حتى يعرف الجمع ما حدث، لقد كان وجهه ينطق بشيء، حتى لقد قال بعضهم:
    نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
    وحين جلس إليهم قالوا:
    ما وراءك يا أبا الوليد؟!
    وبلسان عجيب وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجربته، بدأ يتحدث وكأنه أحد الدعاة للإسلام فقال:
    ورائي أني سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيمٌ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
    وفي ذهول تام ردوا عليه وقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
    فأجابهم برأيه متمسكًا: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
    فشل المفاوضات وانقسام مكة
    كان الذي حدث بين عتبة بن ربيعة ورسول الله نهاية الأمر إيذانًا بفشل المفاوضات بين المشركين وبين رسول الله ، كان المشركون يسعون إلى حل سلمي في رأيهم، لكن رسول الله يعلمنا أن الحل السلمي ليس معناه التنازل، بل إن السلام لا يكون إلا بحفظ الحقوق، وأول حق يجب أن يُحفظ هو حق الله ، فلا يجوز لمفاوض ولا معاهد أن يبني عهده وميثاقه على مخالفة لحق الله ، وهكذا فشلت المفاوضات، وتوقع كل المراقبين للأحداث أن تحدث أزمة كبيرة في مكة بعد هذا الانهيار للمباحثات بين الطرفين، وكان أبو طالب عم رسول الله يراقب الموقف، وقد أدرك أن قريشًا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما حدث، فخشي أبو طالب أن يثور زعيم أو سفيه من زعماء أو سفهاء قريش فينطلق إلى رسول الله ويقتله، ففكر فيما يفعل كي يحمي من يحبه أكثر من أولاده، وهو محمد ، وفي هذا الموقف أخذ أبو طالب قرارًا حاسمًا، لقد قام بدعوة بني عبد مناف بشقيها (بني هاشم وبني المطلب، والمطلب هو عم عبد المطلب جد الرسول ) ثم طلب منهم أن يجتمعوا جميعًا لحماية ابنهم محمد ، وأجاب جميع القوم، مسلمهم وكافرهم، حمية وقبلية، وطاعة لكبيرهم أبي طالب.
    وبهذه الصورة بات من المؤكد أن مكة أصبحت على أعتاب أزمة خطيرة، وأصبحت المواجهة بين بني عبد مناف وبين بقية قريش حتمية لا مناص منها، وإذا كان أبو طالب يخشى ما قد يقدم عليه زعماء مكة، فكذلك كان زعماء مكة يخشون المسلمين، ولا يدرون ماذا يفعلون، فقد أسلم حمزة ، وقد كان من فرسان قريش الأشداء، وأسلم عمر بن الخطاب، وكان السفير الرسمي لمكة، ومن الخطورة بمكان أن يكون في صف الرسول ، ثم ها هي المفاوضات السلمية بينهم وبين رسول الله قد باءت بالفشل، وزاد الطين بلة أن اتحد بنو عبد مناف مسلمهم وكافرهم كي يحموا الرسول .
    ثم هم في الوقت ذاته لا يستطيعون أن يقتلوا الرسول ، ولا يستطيعون حرب بني عبد مناف بكاملها، فماذا يصنعون؟!
    ومن جديد عقدوا اجتماعًا طارئًا وعاجلاً، خرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون.
    المقاطعة وسياسة الحصار الاقتصادي
    كان هذا القانون هو "المقاطعة"، تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، وإعمال سياسة التجويع الجماعي لهم، سواءٌ أكانوا كفارًا أم مسلمين.
    واجتمع الكفار يعملون على صياغة القانون الجديد، القانون الذي يخالف كل أعراف وتقاليد وقيم مكة السابقة، ولا يهم أن يتغير الدستور؛ طالما أن ذلك لمصلحتهم الخاصة، وطالما أنه من عند أنفسهم، وفي الوقت ذاته هو في أيديهم، لكننا في شهر ذي الحجة وهو من الأشهر الحرم، أيضًا لا ضير.
    لكننا - أيضًا - في مكة البلد الحرام، لا ضير أيضًا، المصالح تتقدم على الأعراف والقوانين، فليس هناك مبدأ يُحترم، ولا قانون يُعظّم، ولا عهد يبجل، فماذا صاغوا في هذا القانون؟!
    أبرموا فيه أنه على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ما يلي:
    أن لا يناكحوهم - لا يزوّجونهم - ولا يتزوجون منهم، وأن لا يبايعوهم، لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، وأن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله لهم للقتل.
    هكذا في غاية الوضوح: السبيل الوحيد لفك هذا الحصار هو تسليم الرسول حيًّا ليقتله زعماء الكفر بمكة.
    وقد صاغوا قانون العقوبات هذا في صحيفة، ثم علقوها في جوف الكعبة، وقد تقاسموا بآلهتهم على الوفاء بها، وبالفعل بدأ تنفيذ هذا الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، وقد دخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب وتجمعوا فيه، ومعهم رسول الله ؛ وذلك ليكونوا جميعًا حوله كي يحموه من أهل مكة.
    المعاناة والألم.. وصور الباطل تتكرر
    ومن حينها تكون قد بدأت مرحلة جديدة من المعاناة والألم، تلك التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية، فقد قُطع الطعام بالكلية عن المحاصرين، لا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي كان يدخل مكة من خارجها وكان يذهب بنو هاشم لشرائه، كان القرشيون يزيدون عليهم في السعر حتى لا يستطيعون شراءه، ومن ثَمَّ يشتريه القرشيون دون بني هاشم.
    وقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية طيلة ثلاثة أعوام كاملة، ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية، وهي وإن كانت صورة جاهلية من اختراع أهل قريش في ذلك الوقت، إلا أنها - وللأسف - تكررت بعد ذلك كثيرًا، وللأسف أيضًا فإنها في كل مرة كانت تتكرر مع المسلمين فقط.
    فهي وإن كانت قد حدثت في شعب أبي طالب، فقد تكررت بعد ذلك بقرون في العراق وفي ليبيا وفي السودان وفي أفغانستان وفي الصومال وفي إيران وفي لبنان وفي فلسطين، الكثير من المسلمين يحاصرون في شتى بقاع الأرض كما كان العهد، وكما كان الاتفاق بين أهل الباطل.
    ومع هؤلاء المحاصرين فإنا نتفهم حقيقة أن يضحي المؤمنون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وأولادهم؛ وذلك لأنهم بصدد قضية غالية جدًّا، إنهم يصمدون ويضحون من أجل العقيدة، لكن الغريب حقًّا هو كيف يصبر الكافرون من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار؟!
    هؤلاء الكفار لا يرجون جنة ولا يخافون نارًا، بل إنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، ورغم ذلك فقد وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف.
    وفي تفسير واضح لهذا العمل الرجولي والبطولي فقد كانت الحمية هي الدافع والمحرك الرئيسي له، حمية الجاهلية، ولكنها في النهاية حمية، حمية الكرامة حين يهان رجل من القبيلة، حمية لصلة الدم والقرابة، حمية العهد الذي كانوا قد قطعوه على أنفسهم قبل رسالة محمد على أن يتعاونوا معًا في حرب غيرهم، حميّة واقعية يدفع فيها الرجل بنفسه وأولاده وهو راضٍ، حمية بالفعل وليست بالخطب والمقالات والشعارات.
    هشام بن عمرو ومشاعر الفطرة السليمة
    مرت الأيام والسنوات عصيبة على المحاصرين، مرت تحمل الآلام والأحزان، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن تنقضي في هذا الشهر الكريم تلك الصحيفة الظالمة، وأن يُفك الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطلب بعد ثلاث سنوات كاملة.
    وكانت البداية حين شعر أحد المشركين من بني عامر بن لؤي وهو هشام بن عمرو، وهو ليس من بني هاشم ولا بني المطلب، شعر هذا الرجل بشيء حاك في صدره، وشعر بشيء من الغصة في حلقه، إذ كيف يأكل ويشرب وهؤلاء المحاصرون لا يأكلون ولا يشربون؟! وكيف ينام أطفاله شبعى وينام أطفال هؤلاء عطشى وجوعى؟!
    وإزاء هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تولدت بداخله، ورغم أنه كان كافرًا، فقد بات يحمل الطعام بنفسه سرًّا إلى شعب أبي طالب يقدمه لهم، وعلى هذا الوضع ظل هشام بن عمرو فترة من الزمان، لكنه وجد أن هذا ليس كافيًا، وأنه لا بد من عمل أكبر، ولأنه كان وحيدًا، وقبيلته لم تكن بالحجم الذي يخول لها أن تمده وتناصره، فقد عمد إلى أن يجد لنفسه معينًا - ولو من خارج قبيلته - ليساعده على نقض الصحيفة وإلغاء العهد الذي كان قد قطعه زعماء قريش على أنفسهم بقطيعة بني هاشم وبني عبد المطلب.
    وفي نهاية الأمر فقد اهتدى هشام بن عمرو إلى أن يستعين بقبيلة بني مخزوم؛ وذلك لأنها كانت من أكبر القبائل القرشية، كما أنها كانت قد اعتادت أن تعارض قبيلة بني هاشم، وأن تنافسها، فقد رأى أنه إذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار على بني هاشم؛ فإن بقية القبائل - بلا شك - سترضى بفك هذا الحصار أيضًا، وإذا كان هشام بن عمرو قد وجد ضالته في قبيلة بني مخزوم، فإنه لم يجدها بعد فيمن يذهب إليه من بني مخزوم، فمَنْ مِنْ بني مخزوم يَقْوَى على أن يقف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ويعارض بذلك أبا جهل نفسه زعيم القبيلة، الذي كان من أشد المتحمسين لأمر القطيعة؟!
    الأمر وإن كانت غاية في الصعوبة، فقد وجد هشام بن عمرو ضالته في زهير بن أبي أمية المخزومي، وذلك لأن أمه (أم زهير) من بني هاشم، وهي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم، بل إن أم زهير هي أخت أبي طالب نفسه، أي أنها عمة رسول الله r، وبذلك يكون هشام بن عمرو قد لعب على وترين حساسين، هما الدوافع الفطرية من جهة، والدوافع العصبية وروابط الدم من جهة أخرى، مما يكون له كبير الأثر في نفس زهير بن أبي أمية المخزومي.
    هشام بن عمرو.. وجهد لا يعرف اليأس ولا الملل
    ذهب هشام بن عمرو إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، وفي محاولة مخلصة لكسب مشاعره واستمالة عواطفه، واستثارة لنزعة الكرامة عنده قال له:
    يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم؟! ثم بعد ذلك يضرب على وتر الحمية والتحدي لأبي جهل فيقول:
    أما إني فأحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام (يعني أبا جهل)، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا.
    وهنا قال زهير:
    ويحك! ما أصنع وأنا رجل واحد، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها.
    وعلى الفور كان أن فجأَه هشام بن عمرو بأن قال له:
    قد وجدت رجلاً. فقال زهير: فمن هو؟ قال: أنا.
    ولأن الموقف جِدُّ عسير، فقد رد زهير بقوله: أبغنا رجلاً ثالثًا.
    لم ييئس هشام بن عمرو، وقد ترك زهيرًا وذهب إلى رجل آخر، ذهب إلى رجل صاحب أخلاق وإن كان كافرًا، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، وقد ذكّره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، ولامه على موافقته للظلم الذي وقع عليهم، وهنا قال له المطعم:
    ويحك، ماذا أصنع؟! إنما أنا رجل واحد.
    قال هشام: قد وجدت ثانيًا.
    قال: من هو؟
    قال: أنا.
    قال المطعم: أبغنا ثالثًا.
    وهنا فَجَأَهُ أيضًا هشام وقال: قد فعلت.
    قال: ومن هو؟
    قال: زهير بن أبي أمية.
    ولأن المهمة - ولا شك - صعبة، قال المطعم: أبغنا رابعًا.
    لم يدخل اليأس قلب هشام بن عمرو، ومن فوره ذهب يبحث عن رابع حتى وجده في شخص أبي البختري بن هشام، ذهب إليه هشام وقال له مثل ما قال للمطعم.
    فقال أبو البختري: وهل من أحد يعين على هذا؟
    قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا.
    وكسابقه رد أبو البختري أيضًا بقوله: أبغنا خامسًا.
    إنه في الحقيقة مجهود ضخم يقوم به هشام بن عمرو، وهو ليس بمسلم، وليس من بني هاشم أو بني عبد المطلب، ولكن لشيء كان قد تحرك بداخله، ولمشاعر كانت ما زالت نقية أصيلة.
    أسرع هشام بن عمرو من جديد وكله حمية يبحث عن خامس، فذهب إلى زمعة بن الأسود (من بني أسد).
    فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟
    قال: نعم. ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي.
    اجتمع الخمسة رجال، وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، القرار الذي قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي، وقد يؤدي إلى نصرة دين لا يقتنعون به، يفعلون كل ذلك لشيء كان قد تحرك في صدورهم جميعًا، إنه حمية النخوة، النخوة المتمثلة في أن تجد إنسانًا - أي إنسان - مؤمنًا كان أو كافرًا، أن تراه يعذب، أن تراه يظلم، أن تراه يجوع أو يعطش، ثم تقول بملء فيك: لا، إنها النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله ، وهي نفسها (النخوة) التي لم نرها من مسلمين كثيرين، قد رأوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل لآلاف وملايين من المسلمين، في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها، ثم لم يتحرّك لهم ساكن.
    كيف أن هشام بن عمرو الكافر ومن معه من الكفار لم يهدأ لهم بال والمسلمون يعذَّبون؟! وكيف أن الكثير من المسلمين اليوم يأكلون وينامون ويتمتعون، وليس في أذهانهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أماكن كثيرة في العالم؟!
    أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟!
    أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية محققة؟!
    أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كأخلاق الكافرين؟!
    إننا نحتاج إلى وقفة مع النفس!
    اجتمع الرجال الخمسة واتفقوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.
    ولما كان الصباح ذهبوا إلى المسجد الحرام، ونادى زهير على أهل مكة فاجتمعوا له، فقال:
    يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
    هنا قام له أبو جهل زعيم مكة وزعيم بني مخزوم، قام يرد عليه وكله حماسة وغلظة، فقال:
    كذبت، والله لا تشق.
    فقام زمعة بن الأسود وقال:
    أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت.
    ومن بعده قام أبو البختري بن هشام فقال:
    صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به.
    ومن بعده أيضًا قام المطعم بن عديّ وقال:
    صدقتما وكذب من قال غير ذلك (يقصد أبا جهل)، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
    وهنا قام الرجل الخامس هشام بن عمرو، الذي جمع كل هؤلاء فقال مثل ما قاله المطعم، وصدّق المطالبين بنقض الصحيفة.
    وقد حدث كل هذا في دقائق معدودة، ووجد أبو جهل نفسه محاصرًا بآراء خمسة من الرجال، حينها أدرك أن هذا لم يكن قدرًا ولا مصادفة، فقال:
    هذا أمر قُضِي بليل.
    وكانت معيّة الله
    أصبح الموقف متأزمًا، فإذا كان رقم الخمسة رجال كبيرًا، فإن على الناحية الأخرى أبا جهل، وهو زعيم مكة، ومعه كثير جدًّا من زعمائها، ومن هنا فقد لاح في الأفق بوادر أزمة ضخمة في مكة، لكن الله أراد أن تنتهي هذه المعضلة ويفك الحصار، فحدث أمر آخر قد تزامن مع هذه الأحداث، فقد أوحى الله إلى نبيه أن الأرضة (دودة الأرض) قد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله . وبنبأ الأرضة أخبر رسول الله عمه أبا طالب، فما كان منه (أبي طالب) إلا أن أسرع إلى نادي قريش، وهناك رأى الحوار الذي دار بين الرجال الخمسة وبين أبي جهل، ولما انتهوا من حوارهم تدخل أبو طالب في الحديث وقال:
    إن ابن أخي قال كيت وكيت، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.
    قال زعماء قريش في المسجد الحرام:
    قد أنصفت يا أبا طالب.
    وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي تمامًا كما ذكر رسول الله ، أُكلت بكاملها إلا ما كان فيها من اسم الله : "باسمك اللهم"، ظلت آية واضحة.
    هنا لم يعدْ أمام زعماء مكة أي خيار، لم يجدوا بدًّا من نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة بعد ثلاث سنوات كاملة كانت قد مرت من الحصار والتجويع.
    ما ضاع حق وراءه مطالب
    من دأب هشام بن عمرو مع كونه كافرًا، فإن المرء ليتعجب، فلم يضع الله مجهوده سدى، ولم يُذهب عمله هباء، فقد فك الحصار، وأزيلت الصحيفة، وخرج بنو هاشم وبنو المطلب من شعب أبي طالب تغمرهم الفرحة، وما ضاع حق وراءه مطالب.
    وقد أسلم بعد ذلك هشام بن عمرو، أسلم بعد فتح مكة، بعد أكثر من عشر سنين من هذا الحدث، وأسلم أيضًا زهير بن أبي أمية، أما بقية الخمسة فقد ماتوا على الكفر.
    ولحكمة كان يعلمها فإن الله شاء أن يتأخر هذا الإنقاذ إلى مدة ثلاث سنوات، ولو شاء سبحانه لحدث مثل هذا الاجتماع من الرجال الخمسة أو من غيرهم بعد شهر واحد أو شهرين من بداية الحصار، لكن لا؛ فقد كان هذا التأخير مقصودًا، لقد خرج المؤمنون من هذا الحصار أشد شكيمة وأعمق إيمانًا وأقوى تمسكًا بدينهم وعقيدتهم، لقد وقع الابتلاء والامتحان، ونجح المؤمنون فيه، فإنه لا بد أن يثبت الصادقون صدقهم بالتعرض للبلاء والثبات على الحق، فقد قال الله تعالى:
    {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
    لا بد أن يُصهر المؤمنون في نار الابتلاء للتنقية وللتربية وللتزكية؛ للتنقية من الكاذبين والمنافقين، وللتربية على الثبات والتضحية في سبيل الله، وللتزكية لتطهير النفوس من الذنوب والخطايا.
    ومن هنا كان هناك الحصار، ومن قبله كانت الهجرة إلى الحبشة، ومن قبله كان الإيذاء والتعذيب، وكل هذه مراحل تربوية غاية في الأهمية، حيث صنعت جيلاً من الصحابة يستطيع أن يواجه الأهوال دون أن تلين له قناة، أو تخور له عزيمة، أو يهتز له قلب أو عقل أو جارحة.
    {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري