الأحد، 8 نوفمبر 2009

الجهاد فى الخلافة الأموية


  • حافظت الدولة الإسلامية في العصر الأموي على أن تظل أُمَّةً مجاهدة؛ فأبقت القسم الأكبر من مواردها المالية يُصرف في المجال العسكري. وإضافة إلى إخراج الرواتب للجند، والأرزاق للذرية، والمعونة للمقاتلة عملت الدولة على توفير وسائل القوة ووجوه المنعة للجيش؛ فأقامت المدن العسكرية في جميع جبهات القتال ،وعبأتها بالجنود وشجعت الناس على الانتقال إليها والإقامة به، وأقطعتهم الأراضي الزراعية يستغلونه، والمنازل يسكنونه، ووفرت بها الطعام ومخازن الأسلحة والكسوة وحَصَّنتها بالأسوار والخنادق وبَنَتِ القلاعَ والحصونَ وأقامتِ المناظرَ والمنارات على طول الطريق بين الثغور والداخل ،وجعلت المواقد عليها لتكون أخبار الثغور حاضرة على الدوام عندها.
    وقد تحول كثير من هذه المدن العسكرية إلى مراكز مدنية حافلة بالبناء و أماكن العبادة ومراكز الثقافة وأسواق التجارة، وأخذت تشهد نهضة طيبة في الوجوه المختلفة من النشاط البشري.
    كما عززت الدولة القوة العسكرية بإنشاء سلاح البحرية ،وأقامت دور صناعة السفن في عكا ثم من بعدها في صُور من بلاد الشام، وفي جزيرة الروضة والفسطاط من بلاد مصر، وفي تونس ،وزُوِّدَتْ هذه المصانع بما يلزم من المواد والصناع.( اليعقوبي، تاريخه ج2 ص324 ، لبلاذرى فتوح البلدان ص:104 مروج الذهب )
    ولم تغفل الدولة أن تأخذ الجيش بالتدريبات وإقامة العروض، وفي حال القيام بالغزو ،كانت تعطى الجنود أعطياتهم كتلا ،وتأخذهم بالخيول الروائع والسلاح الكامل، وتوعب فيه أهل الجدة والصبر والشجاعة ، وتجعل القيادة إلى أهل الخبرة والرأي والبأس والشجاعة والفضل والدين (أبو جعفر الطبري ،تاريخه ج: 6 ،ص:727 ).
    لقد امتدت الفتوحات الإسلامية على يد الأمويين إلى آفاق لم يعرفها عصر الراشدين ،حيث شملت دولة الإسلام ما بين الصين شرقا وبلاد الأندلس وجنوبي فرنسا غربا.....وطرقت أبواب القسطنطينية ، وضيَّقت عليها الخناق، وحاصرتها ثلاث مرات ،وتحول بحر الروم إلى بحيرة إسلامية ،ونشرت أعلام الإسلام في القارات الثلاث المعروفات آنذاك آسيا وأفريقيا وأوروب، ودخلت أعداد غفيرة من البشر بذلك في دين الله ،وأصبحت لغة العرب في أوج قوتها وثرائها ،وأضحت لسانا لكثير من سكان هذه البلاد ،وتحققت ألوان فذة من البطولة والتضحية ،وطلب الشهادة في سبيل الله خلَّفت ذكرياتٍ مجيدة ،ظلت غذاء ومددا على امتداد التاريخ وتوالى الأجيال حتى اليوم ،ولا تزال مسامع الدنيا تعى أسماء مثل المهلب بن أبى صفرة ويزيد بن المهلب ،وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم الثقفي وموسى بن نصير وطارق بن زياد ومسلمة بن عبد الملك...وغيرهم.
    ولا ريب أن هذه الصفحات من صفحات الفَخَار للأمويين قد أثارت إعجاب الكثيرين من المؤرخين المنصفين والمتحاملين على الأمويين على السواء فقال الحافظ ابن كثير:":فكانت سوق الجهاد قائمة في بنى أمية ،ليس لهم شغل إلا ذلك ،قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ،وبرها وبحرها ،وقد أذلوا الكفر وأهله ،وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبا. لا يتوجه المسلمون إلى قُطْرٍ من الأقطار إلا أخذوه ،وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه "... ويعترف جورجي زيدان- أحد المتحاملين على بنى أمية- بذلك:"ولم يبلغ العرب من الغزو والسؤدد ما بلغوا إليه في أيام هذه الدولة ،وقد تكاثروا في عهدها ،وانتشروا في ممالك الأرض "
    ولم يكن تحقيق هذه الانتصارات الرائعة أمرا سهلا ،أو عملا يسيرا؛ فقد استمر الأمويون يحاربون الروم والبربر في شمالي أفريقيا -مثلا- نَيِّفا وأربعين سنة حتى تمكنوا أخيرًا من إخضاعهم و إتمام الفتح ، وعلى الجبهة الشمالية كان القتال في اتجاه القسطنطينية مكلفا وباهظا ومتواصلا تقريبا عبر الصوائف والشواتي ،وفي ظروف جغرافية ، ومناخية عسيرة، أما في الجبهة الشرقية في بلاد فارس وخراسان وما وراء النهر وبلاد السند وعلى ما يرى فلهوزن –فإن "الحروب في تلك البلاد لم تكن بالأمر اليسير عليهم فقد كانوا أول الأمر قلة في العدد ،ولم يكن سلاحهم كافيا ،وكان بُعْدُ المسافات وصعوبة الأرض وظروف المناخ كلها مصدرا لعقبات كثيرة قامت في سبيلهم، وكان لابد لهم أن يحملوا معهم المؤن والملابس التي تقيهم البرد ،ولم يكونوا يستطيعون الخروج إلى الغزو إلا في الفصل المناسب لذلك من العام، ولم يكن أعداؤهم بالذين يُستَهانُ بهم ،وكان المسلمون إذا حاصروا مدينة جاءت لنجدتها في معظم الأحيان جيوش جرارة".
    أمويون مجاهدون بأنفسهم
    كان الأمويون أنفسهم يصطلون بنيران هذا الجهاد ، ويقدمون بأنفسهم القدوة والمثل في التضحية وقيادة الجيوش ومصادمة الأعداء فقد أرسل معاوية –رضي الله عنه –ابنه يزيد على رأس جيش لحصار القسطنطينية ،وأرسل عبد الملك ابنه الوليد مراتٍ للغزو في بلاد الروم، وكان ابنه الثاني مسلمة قائد جبهة الروم، وغزواته أكثر من أن تُعد، وحصاره مدينة الروم-القسطنطينية- معروف ومشهور، وكان أخوه محمد بن مروان أمير الجزيرة يتولى الغزو في أغلب الأحيان ،وأولاد الوليد بن عبد الملك وهم العباس وعبد العزيز وعمر ومروان يقودون الغزو في بلاد الروم، ويساعدون عمهم مسلمة بن عبد الملك في ذلك، كما أن سليمان بن عبد الملك كان ابنه داود على رأس قواته المجاهدة في بلاد الروم ، وأما هشام بن عبد الملك فقد كان يفرض الغزو على بنى مروان جميع، ومن يتأخر عن الغزو يمنع عنه العطاء، وكان أولاده في مقدمة الغزاة ،ومنهم معاوية وسليمان ومسلمة وسعيد وغيرهم ،أما مروان بن محمد فكان بنفسه يقود الجيوش ويصبر في القتال صبرا شديدا حتى لُقِّبَ بالحمار.

    قوة الروح الإسلامية في فتوحات الأمويين

    أعطى المجاهدون المسلمون في العصر الأموي صورا رائعة للتضحية والبطولة والتجرد ، وإخلاص النية لله في جهادهم ، سواء كانوا من القادة أو الأمراء ،أو من عامة الجند ،أو من جماعات العلماء ، والزاهدين والربانيين ، الذين فهموا الإسلام عبادة وجهادا ،ومارسوا ذلك على نحو مثير للإعجاب ودافع إلى التأسي ، قد توزعت صور الإخلاص والتضحية هذه على جميع جبهات القتال، وفي جميع مراحل الجهاد ، مما يدل دلالة واضحة على عمق التوجه الإسلامي للفتوحات في العصر الأموي ،وينفي الغبش الذي يثيره المنحرفون عن بنى أمية على أنصع منجزاتهم وأحراها بالفخر والإعزاز ،ومهما يكن في هذه الروايات التي تحكى عن تلك البطولة والتجرد من مبالغة- والبطولة دائمًا تغري بالمبالغة –فإنها تترك في مجملها دلالة قوية على إسلامية الفتوح في العصر الأموي.
    في حروب الروم: يبدو أن حصار القسطنطينية الأول سنة 50هـ قد أطلق حماسة الجيش وهو يرى نفسه على أبواب عاصمة عدوه اللدود التي بانهيارها سوف تسقط إمبراطورية الروم كما سقطت قبلها إمبراطورية فارس وكان معاوية –رضي الله عنه – يتابع بشغف أخبار هذه الحملة ،وكان فيها ابنه يزيد وعبد العزيز بن زرارة الكلابي ،ولم يزل عبد العزيز هذا أثناء القتال يتعرض للشهادة، وينشد متحمسً، وينغرس في صفوف الروم حتى استُشهد ،فلمَّا بلغ الخبر معاوية رضي الله عنه؛ قال مُعزِّيًا والده:"واللهِ هلك فتى العرب " فقال زرارة:" ابني أو ابنك "؟ قال:ابنك فآجَرَك الله ،فقال الرجل:
    فإن يكن الموت أودى به وأصبح مخ الكلابي زيرا
    فكل فتى شارب كأسه فإما صغيرا وإما كبـيرا
    وفي سنة 88 هـ هاجم المسلمون حصن طوانة قرب المصيصة، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد ، وقد ركب المسلمون عدوهم حتى دخلوا كنيسة الحصن ،ثم رجعوا فانهزموا حتى ظنوا ألا يجبروها أبدا ،وبقى العباس في نفر منهم: ابن محيريز الجمحي الزاهد؛ فقال له العباس: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟! فقال له: نَادِهِم يأتوك ،فنادى فأقبلوا جميعا حتى هَزَمَ اللهُ العدو وفتحوا الحصن.
    وأثارت بطولات البطال أبي الحسين عبد الله الأنطاكي، أحد قادة المسلمين وفرسانهم، خيالات الرواة وعجبهم حتى وضعوا له سيرة ذاتية وقد استشهد في إحدى معاركه مع الروم سنة 122هـ أو 123هـ.
    وكان عبد الوهاب بن بخت ممن غزا مع البطال أرض الروم سنة 113 هـ فانهزم الناس عن البطال؛ فحمل ابن بخت وهو يقول لفرسه: ما رأيت فرسا أجبن منك ،وسفك الله دمى إن لم أسفك دمك، ثم ألقى بيضته عن رأسه، وصاح:أنا عبد الوهاب ، من الجنة تفرون؟! ثم تقدم في نحر العدو ،فجاء رجل وهو يقول: واعطشاه!! فقال له: تقدم الريّ أمامك، وخالط القوم حتى قُتِل ،وقُتِل فرسه.
    وفي سنة 123 هـ خرج عشرون ألفا من الروم فنزلوا على المسلمين في ملطية فأغلق أهلها أبوابها ، وظهر النساء على السور عليهن العمائم يقاتلن ،وخرج رسولهم إلى هشام بن عبد الملك بالرصافة مستغيثا؛ فندب هشام الناس إليه، ثم بلغه الخبر بجلاء الروم عنه، لكنه غزا بنفسه حتى نزلها وعسكر عليها حتى بُنِيَت وحصنت.
    وكان عدد من العلماء والزهاد يشارك في غزو الروم على الجبهة الشمالية فَخَلَّفوا لنا عددا من الروايات التي تدل على نفوس شفافة جعلت الله قصدها وغايتها ،فقد مرض حكيم بن حزام بن حكيم ،فعاده مكحول فقيه أهل الشام وسأله:أتراك مرابطا هذا العام؟ فقال حكيم:كيف تسألني عن هذا وأنا على تلك الحال؟!! فقال مكحول: وما عليك أن تنوي فإذا شفاك الله مضيت لوجهك ،وإن حال بينك وبينه كَتَبَ لك نِيَّتَك.
    وروى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال:كنا نغزو مع عطاء الخراساني فكان يحيى الليل من أوله إلى آخره إلا نومة السحر.
    وكان مسلمة بن عبد الملك يحاصر أحد الحصون ،فندب الناس إلى نقب منه فما دخله أحد ، فجاء رجل من عُرْض الجيش فدخله ففتح الله عليهم ،فنادى مسلمة:أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد؛ فنادى:إنى قد أمرت الآن بإدخاله ساعة يأتي فعزمت عليه إلا جاء؛ فجاء رجل فقال:استأْذِن لى على الأمير ،فقال له:أنت صاحب النقب؟قال:أنا أخبركم عنه؛ فأتى مسلمه فأخبره عنه؛ فأذن له ،فقال له:إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثا ،ألا تُسَوِّدُوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة ،ولا تأذنوا له بشيء، ولا تسألوه من هو؟ فقال مسلمة: فذاك له ،فقال:أنا هو ،فكان مَسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال:اللهم اجعلني مع صاحب النقب.
    وفي الجبهة الغربية في شمالى إفريقية والأندلس كانت الروح ذاتها تسرى؛ فقد رووا أن عقبة بن نافع كان مستجاب الدعوة ’ فلما هَمَّ أن يبنى مدينة القيروان تخير مكانها فوجده غيضة لا تُرَامُ من السباع والحيات وغير ذلك من الدواب ، فدعا الله ثم قال: يا أهل الوادي اظعنوا فإنا نازلون ، وكرر نداءه ثلاثا ،فجعلت الحيات تنساب والعقارب وغيرها حاملة أولادها ،فرآه قَبِيلٌ من البربر فأسلموا ،وقطع الأشجار ،وأمر ببناء المدينة، وواصل عقبة اندفاعه في شمالي إفريقية حتى بلغ المحيط الأطلسي ،فأقحم فرسه فيه، وهو يقول:يا ربِّ لولا أن البحر منعني لمضيت في البلاد مدافعا عن دينك مقاتلا من كفر بك ،اللهم إنك تعلم أنى لم أطلب إلا ما طلب عبدك ووليُّك ذو القرنين ألا يُعبدَ في الأرض غيرك... ولكن عقبة ما لبث أن استُشهِد في طريق عودته في تهودة سنة 63هـ لما أحاط به أعداؤه ومعه نفر قليل من أصحابه فيهم أبو المهاجر دينار القائد السابق الذي سجنه عقبة لخلاف معه؛ فلما أحس عقبة بالأعداء يحاصرونه أطلق سراح سجينه، وأمره بالمضي نحو القيروان لحاجة المسلمين إليه ،ولكن أبا المهاجر أبى وآثَرَ أن يُستشهد مع قائده وغريمه ومن معهما من المسلمين ،فقُتِلا في نفس الموضع شهيدين.
    ورغم مشاغل عبد الملك بن مروان أثناء صراعه مع ابن الزبير رضي الله عنهم، فقد أرسل زهير بن قيس البلوى ليثأر لعقبة ومن قُتِل معه،وقد تمكن زهير من ذلك سنة 69 هـ ، ولكن نجدته أودت به هو الآخر ، إذ أنه لما رأى بعض المسلمين -الذين هاجمهم الروم في برقة وأسروهم- يستنجدون به ،نزل في نفر قليل من أصحابه وكانوا أشراف العابدين، ورؤساء العرب المجاهدين أكثرهم من التابعين؛ فقاتلوا الروم حتى قتلوا ومضوا شهداء سنة 71هـ.
    وبعد جهد جهيد استطاع موسى بن نصير أن يسيطر تماما على إفريقية والمغرب ،وقد أَكْثَرَ الرواة من ذكر كراماته ،فلما عزله سليمان سأله: ما الذي كنت تفزع إليه عند حروبك ومباشرة عدوك؟ قال:كنت أفزع إلى التضرع والدعاء ،والصبر عند اللقاء.
    وفي الجبهة الشرقية كان قتيبة بن مسلم يخطب في جنده بعدما ولَّاه الحجَّاج أمر خراسان؛ فيقول لهم: إن الله أحلَّكم هذا المحل ليعز دينه ووعد نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم النصر ، بحديث صادق وكتاب ناطق...ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب ،وأعظم الذُّخْر عنده.... ثم أخبره عمَّن قُتل في سبيل أنه حيٌّ مرزوق ، فتنجزوا موعود ربكم ، ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم ، وإياي والهُوَينَى " ومازال الخليفة الوليد وعامله الحجاج يشدان أزره، ويحضانه على التقوى وإخلاص النية لله ،وانتظار ثوابه ،حتى فتح الله على يديه الفتوحات العظيمة.
    ولما سار قتيبة لفتح بيكند سنة 87 هـ استنصر أهلها السغد ،واستمدوا من حولهم فأتوهم في جمع كبير ،وأخذوا الطريق على قتيبة فلم ينفذ له رسول ، ولم يصل إليه رسول من الحجَّاج القائد الأعلى للجبهة الشرقية ،ولم يجرِ له خبرٌ شهرين؛ فأشفق الحجاج على الجند ،فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد ،وكتب بذلك إلى الأمصار وهم يقتتلون في كل يوم حتى كتب لهم النصر فأيُّ أحساس مفعم بالله وقوته وقدرته!!
    ولما فتح قتيبة بيكند هذه ظفر بذلك الخائن الذي استجاش الترك على المسلمين؛ فرفض أن يقبل منه فداءَ نفسه بألف ألف، وقتله وهو يقول: واللهِ لا تُرَوَّع بك مسلمةٌ أبدًا.
    وفي إحدى غزواته صَافَّ قتيبة الترك؛ فهاله أمرهم –كثرة وعتادا – فسأل عن محمد بن واسع الأزدي ،وهو أحد الزهاد المعروفين ،ماذا يصنع؟فقالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سِيَّة قوسه ،ينضنض بأصبعه نحو السماء ،فقال قتيبة: تلك الأصبع الفاردة أحب إلى من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير ،فلما فتح الله عليهم ،وقال لمحمد:ماكنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق.
    وفي خلافة هشام بن عبد الملك أحاط الترك في منطقة طخارستان –ببلاد ما وراء النهر – بالمسلمين ، وقائدهم آنذاك أسد بن عبد الله القسري سنة 11هـ فمضى أسد يحرض جنده ويقول: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي؛ فادعوا الله واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء، ففعلوا ثم رفعوا رؤوسهم وهم لايشكون في الفتح، واستشار أسد الناس في خروجه لقتال ملكهم؛ فخوفه بعضهم المخاطرة بذلك؛ فقال:"واللهِ لأخرجنَّ فإما ظفر وإما شهادة"، وقد كُتِب للمسلمين آنذاك الظفرُ الهنيء.
    رغبة القادة والجند في الشهادة:
    وفي عهد هشام بن عبد الملك استُشهِد جماعةٌ من أبرز قواد المسلمين مثل: الجراح بن عبد الله الحكمي عامله على أرمينية سنة 112هـ واستشهد سورة بن الحر التميمي في خراسان في نفس السنة ، وعقبة بن سحيم الكلبى في جنوب فرنسا سنة 107ه، ثم عبد الرحمن الغافقي في الجبهة نفسها في تور بواتييه سنة 114 هـ ،مما يدل على امتداد ساحات القتال والفداء التي يغشاها القادة بأنفسهم مع أجنادهم ،وكلما قُتِلَ واحدٌ منهم قام آخر ليواصل الطريق...وكان هشام في كل ذلك يشفق على جنده، ويتلقى أنباء استشهاد قادته فينخلع قلبه خشية أن يكون أحدهم قد انحاز عن العدو فخسر الجنة ،فلما استُشهِد الجراح بن عبد الله دعا هشامٌ سعيدَ بن عمرو بن الحرش أحد كبار قادته؛ فقال له:بلغني أن الجراح قد انحاز عن المشركين ،فقال سعيد واثقا:كلا يا أمير المؤمنين، الجراح أَعْرَفُ بالله من أن ينحاز عن العدو ،ولكنه قُتِل.
    وكما أعطى القادة هذه الأمثلة كان الجند لا يقلون عنهم حماسةً وحميةً ورغبةً في الشهادة ،فقد دخل أحدهم ويُدعى أبا ضمرة النضر بن راشد العبدي على امرأته والناس يقتتلون في إحدى هذه المعارك؛ فقال لها:كيف أنت إذا أُتِيتِ بأبي ضمرة مضرجا بالدماء؟؟ فشقت جيبها ودعت بالويل ،فقال: حسبك، لو أعولت عليَّ كلُّ أنثى لعصيتُها شوقًا إلى الحور العين ،ورجع فقاتل حتى استشهد – رحمه الله -.

    عناية الأمويين بالجيش الإسلامي
    يحض الإسلام أتباعه على إعداد القوة اللازمة للجهاد والتي ترهب أعداء الله ،وتحقق هيبة الدولة الإسلامية ،قال تعالى:[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]. {سورة الأنفال آية 60}.
    ومن المؤكد أن الأمويين قد أولوا جيوشهم عناية فائقة ، حتى تمكنت تلك الجيوش من تحقيق تلك الإنجازات الرائعة والفتوحات الضخمة في التاريخ الإسلامي ، ورغم المعلومات القليلة نسبيًّا عن الجيش الأموي مقارنةً بما نعرفه عن جيوش إسلامية أخرى لم تحقق مثل إنجازاته؛ فإنه يمكننا أن نلتمس بعض جهود الأمويين في إعداده وتجهيزه، ولا ريب أن الأمويين كانوا يستعيضون بالقوة الروحية العالية عند الجنود والقادة عن الوفرة العددية وكفاية التسليح في جيوش الأعداء، فقد كانت جيوش الأمويين كثيرا ما تواجه عدوا كثير العدد، عظيم الجَلَد، متمرسًا على القتال ،خبيرا ببلاده وطرقها وشعابه، ونظرةٌ واحدةٌ إلى مساحات البلاد المفتوحة والشعوب المختلفة التي كانت تقطنها كفيلة ببيان ذلك ،فأين أعداد العرب آنذاك وهم قِوَام الجيش الإسلامي من أعداد أهل فارس وخرسان وما وراء النهر وأرمينية وإفريقيا والمغرب والأندلس؟!! وأين أعداد جيش قتيبة مثلا بجيوش خُرَاسَان وما وراء النهر؟!! وأين قوة محمد بن القاسم الثقفي بقوة أهل الهند؟!! ،وكيف نقارن أعداد جيش طارق بن زياد بأعداد جيوش الأسبان وهم يحاربونهم في بلدهم؟!! ولا ريب إذًا أن سعيدا الحرشى القائد الأموي في خُرَاسان لم يكن هو القائد الوحيد الذي يخطب في جنوده فيقول:" إنكم لا تقاتلون بكثرة ولا بِعُدَّة، ولكن بنصر الله وعِزِّ الإسلام ،فقولوا:لا حول ولا قوة إلا بالله"، ونظرا لقلة ذلك العدد الذي يُكوِّنُ الجيوش الإسلامية آنذاك، ونظرا لتعاليم الإسلام نفسه ،وتَدَيُّن الخلفاء والقادة ،فقد كان واضحا أثناء الحروب مدى حرص الأمويين على سلامة جند الإسلام ،ففي عهد الوليد بن عبد الملك مثلا –وهو العهد الذي شمل أعظم الفتوحات الإسلامية –كان الخليفة الأموي يبدو مترددا وهو يجيب على رسالة قائده موسى بن نصير أمير أفريقية والمغرب –التي يذكر فيها عرض يوليان صاحب (سبتة) مساعدة المسلمين في فتح الأندلس؛ فكتب الوليد إلى ابن نصير يقول:خُضْها بالسرايا حتى تختبره ،ولا تُغرِّر بالمسلمين في بحرٍ شديدِ الأهوال؛ فكتب إليه موسى:"إنه ليس ببحر، وإنما هو خليج يصف صفة ما خلفه للناظر؛فكتب إليه الوليد:"وإن يكن، فاختبره بالسرايا ".
    وكان المهلَّب بن أبي صُفرة يغزو فينتصر، ثم يمسك عن المضي في التوغل إذا أحسَّ بالخطر على جنده ، ولا يستجيب للإغراء الداعي إلى مزيد من النصر ،ويقول:ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند حتى يرجعوا سالمين.
    وقد امتد هذا الحرص على جند المسلمين ليشملهم في حال أَسْرِهم عند العدو ،فقد اشترط مسلمة بن عبد الملك على ملك الروم عند غزو بلاده أن يبني للمسلمين دارا بإزاء قصره ينزلها الوجوه والأشراف إذا أُسِرُوا؛ ليكونوا تحت كنفه وتعاهُدِه؛ فأجاب إلى ذلك وبنى دار البلاط ،وقد كان يسمح لأسارى المسلمين أن يَتَّجِرو، ولا يكرهون على أكل لحم الخنزير، ولا يتعرضون للون من ألوان النكال التي كان يتعرض لها الأسارى آنذاك ، وكانت لهم أوقات يتجمعون للعب والترويح فيها.
    وفي تلك المرات التي تهيأ للجيش الأموي أسباب الإعداد المادي الكامل كانت قيادته تضرب في ذلك المثل الرائع ، حيث تمتد نظرتها لتشمل نواحي الحياة الخاصة بآحاد الجند ، فقد حشد الحجاج أربعين ألف رجل من أهل الكوفة والبصرة وأعطاهم أعطياتهم كاملة ،وأمدهم بالخيول الروائع والسلاح الكامل ، فكان ذلك الجيش يسمى جيش الطواويس، وجعل وِجهَتَه سجستان لقتال رتبيل ملك الترك ،غير أن تهجيزه جيش محمد بن القاسم الثقفي الذي توجه لفتح السند كان أكثر إثارة ،حيث جهزه بكل ما يحتاج إليه حتى الخيوط والمسال ،وعَمَدَ الحجاج إلى القطن المحلوج فنُقِعَ في الخل ،ثم جُفِّف في الظل وقال: "إذا صِرْتم إلى السند فإن الخل بها ضَيِّق –فانقعوا هذا القطن في الماء ، ثم اطبخوا به واصطبغوا"، وكانت المراسلات بين الحجَّاج ومحمد بن القاسم مستمرة بحيث يصف له محمد كل ما يلاقيه،ويستطلع رأيه فيه كل ثلاثة أيام.
    الأمويون يطورون البحرية الإسلامية:
    كان لمعاوية –رضي الله عنه- دور كبير في نشأة البحرية الإسلامية ،التي استطاعت أن تنتزع في عهد عثمان السيادة على بحر الروم في موقعة ذات الصواري ،وكان لابُدَّ من مزيد من تطوير السفن الإسلامية كي يستطيع معاوية –رضي الله عنه-تحقيق حلمه في الاستيلاء على القسطنطينية وإنهاء وجود إمبراطورية الروم؛ ولذا فقد عمل على الإفادة من خبرة قِبَط مصر في صناعة السفن؛ فأنشأ دارًا لصناعتها في جزيرة الروضة حتى سميت آنذاك جزيرة الصناعة ، وقد أسهم ذلك الأسطول الحربي في حصار القسطنطينية مرتين في عهد معاوية –رضي الله عنه – سنة 50هـ ،53هـ: - 60هـ.
    وقد أدَّى هذا الغزو البحري المتتابع إلى تكوين حسٍّ حربيًّ بحريٍّ كبيرٍ عند المسلمين ،حتى نجد إصرارا عند أبي المهاجر دينار على فتح قرطاجَنَّة على الساحل الأفريقي لما يعلم من خطرها ،و لكنه لم يفلح في ذلك ،فلما استكمل حسان بن النعمان فتح أفريقية كان يضع نُصْبَ عينيه الاستيلاء على هذه القاعدة البحرية ، وقد نجح في ذلك فهدم حصونها وأسوارها كيلا يفكر الروم في العودة إليها مرة أخرى ،وأثمرت هذه الخبرات المتتالية تفكيرا جديا في إنشاء قواعد بحرية إسلامية لأسطول في الشمال الإفريقي يقوم بمثل العبء الذي كان يقوم به الأسطول الإسلامي في قواعده بالشام و مصر ، وانتهى هذا التفكير بجهود حسان بن النعمان أيضا في إنشاء ميناء تونس جنوبي قرطاجنة ،بعيدا عن متناول السفن البيزنطية، ثم أمر عبد الملك بن مروان حسان بن النعمان باتخاذ دار لصناعة السفن في تونس لإنشاء الآلات البحرية ،وكتب عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز والي مصر أن يوجه إلى تونس ألف قبطي بأهله وولده لإنشاء دار صناعة فيها ،أما مهمة البربر هناك فكانت أن يُجْرُوا ويحملوا إلى دار الصناعة ما تحتاجه من خشب لصنع المراكب ،وفي الحملة الثالثة على القسطنطينية أيام سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ كانت عدد قطع الأسطول الإسلامي هناك 1800 سفينة ، وقد أمر عمر بن عبد العزيز بعد ذلك بسحب ذلك الجيش سنة 99ه، ولكن ظلت تلك الجهود الأموية في بناء البحرية الإسلامية نقطة تحول في التاريخ الإسلامي حيث أصبح المسلمون في عهدهم أمة بحرية ،بل سادة البحار لعدة عقود من الزمان.
    وقد قام الأمويون بجهود كبيرة في نشر الإسلام واللغة العربية في هذه البلدان المفتوحة على امتداد ساحاتها.
    د/حمدي شاهين:الدولة والمجتمع في العصر الأموي ،ص99-110

    شبهات حول دوافع الفتوحات في العصر الأموي
    إن بعض المؤرخين يعلل النشاط الذي دَبَّ في ساحات الجهاد مع بداية خلافة معاوية بن أبى سفيان بأن معاوية –رضي الله عنه – قد أدرك أن استئناف حركة الجهاد سيزيل بعض المرارة التي أحسَّت بها الأمة عندما استسلمت لقضاء الله بخلافته ، ومن ثم سيمكن له ولبنى أمية في الأرض.
    لا ريب أن استخلاف معاوية –رضي الله عنه – كان على غير هوى فريق من الأمة ينشد مثاليات يصعب تحقيقه، ولا يدرك تطور الزمان وتغير الناس، أو تدفعه أحقاد وأهواء ومنافع شخصية وإقليمية أو قبلية لم يستطع فرضها بالقوة من خلال حمامات الدم التي سالت في صفين وغيرها ،ولكن معظم أهل الحلِّ والعقد وأصحاب الشوكة والقوة قد بايعوا معاوية من غير إكراه، وربما كان استئناف الجهاد الذي توقف أيام الفتنة الكبرى لأسباب داخلية لفترة موقوتة يُرضي بعض هؤلاء المثاليين ،ولكن لم يمنع المعارضين الآخرين من مواصلة معارضتهم للدولة وجيوش المسلمين منشغلة بالفتوح، كما حدث من الشيعة في ثورة حجر بن عدي الكندي ومن الخوارج في ثوراتهم المتواصلة.
    كما أن استئناف حركة الجهاد لم يكن بدعة على سياسة معاوية –رضي الله عنه – الذي استمد كثيرا من الشهرة من جبهات القتال ، ومن شهرته كمقاتل عنيد في البر والبحر منذ أيام أبى بكر وعمر وعثمان –رضي الله عنهم – وكانت له إنجازاته الكبرى في إخضاع الساحل الشمالي للشام لقوى المسلمين ،وكما كان له الفضل في تأسيس البحرية الإسلامية وهزيمة الروم في البحر، وانتزاع السيادة منهم لأول مرة في تاريخ المسلمين ،وإذا كان من المستبعد أن نقول- جريا على شبهات المؤرخين:إن معاوية –رضي الله عنه – كان يضمن توريث الحكم في بنى أمية منذ بداية استخلافه، وإنه واصل الجهاد للتمكين له ولبنى أمية في الأرض؛ فإننا نقرر رغم ذلك أنه من الجميل حقا أن يجعل الحاكم المسلم غزو الأعداء وإذلالهم مسوغا لحكمه عند الأمة ،بدل أن يلجأ إلى أساليب القهر السياسي، أو الادعاء الكاذب، أو إثارة الفتنة الداخلية ليعلو من فوقها عرشه.
    وشبيه بذلك مايردده هؤلاء المؤرخون من أن الجهاد في العصر الأموي كان لإخماد التحرك الثورى في شرق الدولة، وصرف الطاقة الحربية الكامنة لدى الثائرين والمعارضين من شيعة وخوارج وعصبيات قبلية متناحرة في نشاط عسكري يفيد الدولة ، ويحتجون بقول الحجاج لأهل العراق في إحدى خطبه: إني لم أجد دواءً أدوى لدائكم من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب الإياب وفرحة القفل ،فإنها تعقب راحة ،وإني لا أريد أن أرى الراحة عندكم ، ولا الفرح فيكم "
    فإن هذه الخطة مما يحمد للأمويين ولا يعاب ،ومما يتفق مع التوجه الإسلامي في هذا الصدد الذي يجعل أتباعه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وهو تحويل بارع لأهم عوامل الضعف في جسد الأمة إلى عوامل قوة واعتزاز لها ،ورغم ذلك فينبغي التنبيه إلى أن ذلك العامل كان أكثر ظهورا في القسم الشرقي من الدولة ، وبذلك فهو لا ينطبق على الفتوحات في الجبهة الغربية أو الشمالية.
    د/ حمدي شاهين:الدولة والمجتمع في العصر الأموي ،ص100 -101.

    الفتوحات في الخلافة الأموية فيهم

    لا شك في أن معظم إنجازات الأمويين الباقية على الزمن تلك الفتوحات التي تمت في عهدهم، والتي شملت مناطق عديدة في قارات العالم القديم ـ آسيا وأوروبا وأفريقيا ـ ففي آسيا فتح الأمويون أقاليم ما وراء النهر وهي المناطق الواقعة بين نهري جيحون وسيحون، وإقليم السند، بالإضافة إلى تثبيت الفتح في المناطق التي كانت قد فتحت في عهد الخلفاء الراشدين، وبصفة خاصة في فارس، فقد كانت خراسان وسجستان وجرجان وطبرستان وأرمينية وأذربيجان كثيرة الانتقاض والارتداد، فأبلى الأمويون بلاءً حسنًا في تثبيت دعائم الإسلام في هذه البلاد حتى أصبحت من أهم ركائز العالم الإسلامي..
    وفي أفريقيا فتح الأمويون شمال القارة بأكملها من حدود مصر الغربية حتى المحيط الأطلسي، وفي أوروبا فتحوا شبه جزيرة أيبريا ـ الأندلس ـ وأجزاء من جنوب فرنسا، كما استولوا على العديد من الجزر في شرق وجنوب وغرب البحر المتوسط، ثم واصلوا ضغوطهم على القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، وحاصروها أكثر من مرة وحاولوا الاستيلاء عليه، وإن كانت محاولتهم لم تنجح في إسقاطها إلا أنهم نجحوا في جعل الدولة البيزنطية تعيش في حالة دفاع عن النفس ولم تكن هذه الفتوحات مجرد فتوحات عسكرية لاستغلال الشعوب على نسق الاستعمار الأوروبي في العصر الحديث، وإنما كان هذا فتحًا دينيًا، ولغويًا وثقافيًا..
    فقد كان الغزو أيام معاوية رضي الله عنه يشمل مناطق واسعة تمتد من المحيط الأطلسي في غربي إفريقية إلى البحر الأبيض المتوسط كله، وتساير ذرا جبال طوروس، وبلاد القفقاس وبلاد ما وراء النهر، وطخارستان، والأفغان، لتصل إلى بلاد السند فسواحل المحيط الهندي على بلاد الهند، وهي مع هذا الامتداد العظيم تشمل جبهتين رئيستين هما:
    الجبهة الغربية: التي تضم مناطق الروم..
    الجبهة الشرقية: التي تضم مجموعات وثنية في شمال وشرقي الدولة الإسلامية..
    الجبهة الغربية:
    وتشمل مناطق الروم والمناطق التي يسيطرون عليها سواء أكانت في البر مثل: أفريقية ومنطقة الأناضول أم في البحر الذي كان آنذاك البحر المتوسط الذي يسيطر عليه الروم، ويعرف وقتذاك ببحر الروم، ثم جاء المسلمون ينازلونهم فيه..
    وقد لاحظنا أن الدولتين الكبيرتين اللتين كانتا في صراع دائم عند ظهور الإسلام قد وقفتا في وجه الدعوة الجديدة إلا أن دولة الفُرْسِ قد انتهت وزالت من الأرض أمام جهاد المسلمين وضرباتهم المتتالية، على حين بقيت الروم لمناعة أرضها واتساع الأجزاء التي احتلتها، وقوتها البحرية الكبيرة على حين لم يكن للمسلمين في بداية الأمر قوة بحرية؛ لذا فقد وجه معاوية رضي الله عنه قوة كبيرة في البر ومثلها في البحر، بعضها إلى قلب بلاد الروم وعاصمتهم، في محاولة منه للضغط على الدولة البيزنطية من خلال الضغط على عاصمتها القسطنطينية تمهيدًا لإسقاطها..
    ومن هنا كانت الجبهة الغربية ثلاث جهات:
    1ـ بلاد الروم: وهي التي تعرف اليوم باسم بلاد الأناضول أو تركيا..
    وقد وصل المسلمون إلى تلك الجهات وتوقفوا عند أقدام جبال طوروس الممتدة من البحر الأبيض المتوسط عند (مرسين) نحو الشمال الشرقي حتى تصل إلى مناطق قريبة من البحر الأسود في هضبة أرميني، وقد أقيمت هناك ثغور وقلاع لكلا الجانبين ومن أشهرها: مرسين، والمصيصة، ومرعش، وملاطية، والحدث، وزبطرة، وخرشة، وعين زربة، وكانت الغارات على الروم لا تنقطع أبدًا، وقد يحدث تقدم في بلاد الروم من قِبَل المسلمين إثر كثير من الغزوات لكن لا يلبث المجاهدون أن يعودوا إلى ثغورهم وقلاعهم، وقد رتب معاوية رضي الله عنه في هذه الجهات الصوائف التي كانت تقوم بالجهاد في فصل الصيف، والشواتي التي تقوم بالجهاد في فصل الشتاء، حتى تكون حروب دائمة تستنزف قوة العدو، وتجعله في النهاية يخضع لحكم المسلمين، وفي أثناء قتال مجموعة تكون المجموعة الثانية قد عادت إلى أماكن مرابطتها تجد الراحة، وتتمتع بالنشاط مع أهليها حتى يحين موعد جهادها..
    وقد اشتهر من بين القادة في هذه المنطقة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبسر بن أرطأة الذي تقدم على رأس شاتية عام 47 هـ حتى اقترب من القسطنطينية، ومالك بن هبيرة، وأبو عبد الرحمن القيني، وعبد الله بن قيس الفزاري، وفضالة بن عبيد الأنصاري، وسفيان بن عوف الأزدي الذي توفي في أرض الروم، وعبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وجنادة بن أبي أمية الأزدي ومعن بن يزيد السلمي، ومحمد بن مالك، ومالك بن عبد الله الخثعمي، وعبد الله بن كرز البجلي، وعمرو بن مرة الجهني وكان هدف الغزوات جميعها القسطنطينية وبعضهم كان يقترب منها، وبعضهم يصل إلى عمورية في جنوب موقع أنقرة اليوم..
    الحصار الأول للقسطنطينية:
    في عام 50هـ جهَّز معاوية رضي الله عنه حملة كبيرة من البر والبحر لتغزو القسطنطينية، وأعطى قيادة جيش البر لسفيان بن عوف الأزدي، وجعل ابنه يزيد في قيادة الحملة إلا أن يزيد لم يخرج مع الحملة، أما الأسطول فقد قاده بسر بن أرطأة وحوصرت عاصمة الروم، وجرت اشتباكات بين الطرفين خسر فيها المسلمون خسائر كبيرة، فعمل معاوية على إرسال نجدة كبيرة كانت بقيادة ابنه يزيد ومعه أبو أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير بن العوام، وعبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم، وبوصول النجدة ارتفعت معنويات المجاهدين فاشتد الحصار وأصاب المسلمون من الروم، وإن لم يستطيعوا فتح القسطنطينية، وقد استشهد في هذا القتال أبو أيوب الأنصاري خالد بن يزيد رضي الله عنه، وعبد العزيز بن زرارة الكلابي، وقد كانا على رأس الذين يثيرون حماسة المقاتلين..
    ثم رجع يزيد والجيش إلى الشام، دون أن تنال هذه الحملة من القسطنطينية لمناعتها، وأغلب الظن أن معاوية رضي الله عنه كان يعلم صعوبة الاستيلاء على هذه المدينة الحصينة التي يزيد من صعوبة الوصول إليها -فوق مناعتها الطبيعية- قسوة المناخ حولها شديد البرودة بالنسبة للعرب، ثم شدة التيارات المائية القادمة من الشمال من البحر الأسود، والتي كانت تعوق حركة سير السفن وتردها على أعقابها..
    فالمسلمون يعرفون كل ذلك، ولكنهم لم يتهيبو، ولم تمنعهم الصعوبات من المحاولة بل أقدموا واقتحموا وأثبتوا للبيزنطيين أن عاصمتهم رغم مناعتها وقوة تحصينها فهي ليست بعيدة المنال وأنهم على استعداد للصبر والمصابرة، وبذل الأرواح في سبيل إنهاك أعداء الإسلام، ومع أن الحملة لم تنجح عسكريًا إلا أنها تعتبر ناجحة من الوجهة السياسية حيث جعلت شغل الأباطرة الشاغل هو الدفاع عن عاصمتهم
    ..
    الحصار الثاني للقسطنطينية:
    لم يُثْنِ فشل الحملة السابقة في الاستيلاء على القسطنطينية معاوية رضي الله عنه عن المضي قدمًا في محاولاته الاستيلاء عليها، وقد استولى بعد عودة الجيش على عدة جزر منها رودس وأرواد، وقد كان لجزيرة أرواد أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية حيث اتخذ منها الأسطول الإسلامي في حصاره الثاني للمدينة أو حرب السنين السبع من سنة 53هـ ـ 60هـ، قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أن معاوية رضي الله عنه أعدَّ أسطولاً ضخمًا وأرسله لحصار القسطنطينية، وظل مرابطًا أمام أسوارها من سنة 60:53هـ، فكانت الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة أسوار القسطنطينية..
    ورغم جَلَدِ المسلمين وتحملهم مشقة الحصار إلا أن المدينة صمدت أمامهم لا بفضل مناعتها الطبيعية فحسب بل إن الإمبراطور قسطنطين الرابع كان قد تنبه منذ الحصار الأول للخطر المحدق بالمدينة، فقضى الفترة فيما بين الحصارين في إصلاح أسوارها وتقوية دفاعاتها فضلاً عن حشدها بالمؤن والعتاد لتقاوم الحصار إذا ما فكر المسلمون في معاودة المحاولة، وفوق هذا فقد ساعد المدينة على الصمود ذلك السلاح الرهيب الذي اخترعه الإغريق في ذلك الوقت، والذي تسميه المصادر النار الإغريقية..
    فعلى الرغم من صبر الجنود المسلمين وبسالتهم وتحملهم المشاق إلا أنهم لم يستطيعوا الاستيلاء عليها، فقد دعت الظروف الداخلية في كل من الدولتين إلى إنهاء الحصار؛ فدخلوا في مفاوضات انتهت بعقد صلح بينهما عاد بمقتضاه الجيش الإسلامي والأسطول إلى الشام..
    الحصار الثالث والأخير للقسطنطينية في العصر الأموي:
    بعد عودة الجيش الذي كان يحاصر القسطنطينية في آخر حياة معاوية رضي الله عنه سنة 60هـ لم يلبث معاوية رضي الله عنه أن توفي، فدخلت الدولة الأموية في دوامة من الفتن وواجهت العديد من الثورات، وقد استمر هذا الوضع إلى أواخر خلافة عبد الملك بن مروان الذي إليه يرجع الفضل في إعادة الوحدة إلى الأمة الإسلامية حيث ترك لابنه وخليفته الوليد 86 ـ 96هـ دولة قوية مهابة، فشهد عهده حركة فتوحات كبرى على عدة جبهات، وكان الاستيلاء على القسطنطينية من الأهداف الرئيسية للوليد، وفي الحقيقة هو هدف رئيسي للسياسة الأموية عامة؛ فقد تابع الوليد بن عبد الملك هذه السياسة واستمر في الضغط على الإمبراطورية البيزنطية، فواصل الاستيلاء على أهم المعاقل والحصون على الطرق التي ستسلكها الجيوش الإسلامية البرية في زحفها القادم على القسطنطينية: من ذلك أنه أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك وابنه العباس بن الوليد فاستوليا على حصن مهم هو حصن طوانة الذي يعتبر مفتاح الطريق بين الشام ومضيق البسفور، ورغم استماتة البيزنطيين في الدفاع عنه إلا أن القوات الإسلامية قد استولت عليه، ولم تكد تمر سنة من سنوات خلافة الوليد دون أن يستولي جيشه على معقل أو حصن أو مدينة من مدن الحدود مع البيزنطيين..
    وبينما يمضي الخليفة الوليد بن عبد الملك في استعداداته للزحف على عاصمة البيزنطيين إذ وافته المنية سنة 96هـ فخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك 99:96هـ ليواصل جهوده في هذا الميدان؛ فأرسل سليمان الحملات لفتح القسطنطينية، واتخذ من دابق في شمال الشام مركز قيادة أقام فيه ليكون على مقربة من مسرح العمليات الحربية، وليشد وجوده هناك من أزر الجند ويرفع من روحهم المعنوية، وأعطى الله عهدًا ألا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى أرض الروم القسطنطينية، وكان هذا الجيش بقيادة مسلمة بن عبد الملك، وعلى الأسطول أمير البحر سليمان، وعلى الرغم من ضخامة الجيش حوالي ثمانين ألفًا، والأسطول أكثر من ألف وثمانمائة سفينة، وإحكام الحصار على المدينة إلا أن الحملة لم تنجح في الاستيلاء عليها لعدة أمور منها:
    ـ خدعة (إليون الإيسوري) لمسلمة بن عبد الملك؛ فقد تظاهر هذا الرجل بعرض خدماته وتسهيل الطريق لوصول المسلمين إلى القسطنطينية، ولكن إليون كان يبيت في نفسه أمرًا خطيرًا وهو استغلال المسلمين في الوصول إلى عرش بيزنطة، ثم ردهم عن القسطنطينية عندما يتمكن من ذلك، وحقق إليون هدفه ووصل إلى عرش بيزنطة وكان أول شئ فعله هو التصدي للمسلمين وردهم عن العاصمة، وكان قد مكر بالمسلمين ليضعف مركزهم، ويضعهم في موقف حرج حيث أشار عليهم بحرق ما معهم من طعام فقال لمسلمة: "إن الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، فلو أحرقته أعطوا الطاعة بأيديهم؛ فأُمِرَ به فأُحْرِقَ فقوي أمر الروم، وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون..
    ـ التقلبات الفجائية في المنطقة حيث غيرت الرياح التي كانت قد ساعدت المسلمين في إغلاق المدخل الشمالي للبسفور اتجاهها فجأة وانحدرت إلى الجنوب بقوة فأدت إلى تدمير عدد كبير من سفن الأسطول الإسلامي..
    ـ استخدام البيزنطيين للنار الإغريقية في إحراق ما تبقى من سفن المسلمين..

    ـ دخول فصل الشتاء، وهو قارص البرودة ويعتبر من العوامل الطبيعية المهمة التي تعتمد عليها القسطنطينية في الدفاع عن نفسها، وإطالة مدة مقاومتها..
    وأثناء حصار القسطنطينية توفي الخليفة سليمان بن عبد الملك سنة 99هـ، وتولى الخلافة بعده عمر بن عبد العزيز 99 ـ 101هـ فأدرك الصعوبات التي تواجه المسلمين الذين استمر حصارهم للمدينة عامًا، كاملاً 98 ـ 99هـ، فرأى من موقع مسئوليته عن سلامة المسلمين أن ينهي هذه العملية فكتب إلى مسلمة بن عبد الملك وأمره بالرجوع بالجيش فرجع..
    ولكن على الرغم من فشل الحملة فإن ذلك لا يقلل من جهود الأمويين في إعلاء شأن الإسلام، والتصدي بكل حزم وعزم لأعدائه، غير مبالين بالصعوبات مهما كانت شاقة، فقد صبروا وصابروا ولم يقصروا، ويكفي أنهم أذلوا دولة كبرى عتيدة، وجعلوا قصارى جهدها أن تدافع عن عاصمتها، وجعلوا الاستيلاء على هذه العاصمة أملاً ظل حيًا في نفوس المسلمين أكثر من سبعة قرون ونصف، حتى تحقق في النهاية على يد شعب مسلم آخر قادم من أقصى الشرق، وهم الأتراك العثمانيون، حيث فتح السلطان العثماني محمد الفاتح المدينة واستولى عليها سنة 857هـ/ 1453م، وأنهى الدولة البيزنطية من الوجود..
    وفي عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أغار الترك على أذربيجان فقتلوا جماعة من المسلمين ونالوا منهم، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي فقتل الترك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وجاء على الخليفة وهو بخناصرة بخمسين أسيرًا منهم..
    وغزا الوليد بن هشام المعيطي وعمرو بن قيس الكندي بأهل حمص بلاد الروم على رأس
    صائفة..
    وقد غزا السمح بن مالك الخولاني فرنسا فاخترق جبال البرانس، وزحف على مقاطعتي سبتمانيا وبروفانس، ثم أغار على أكتيانيا وحاصر طلوشة (طولوز) فخرج له دوق أكتيانيا بجيش كبير، ونشبت معركة عظيمة بين الطرفين استُشْهِد فيها السمحُ بن مالك الخولاني عام 102هـ وتولى إمرة جند المسلمين عبد الرحمن الغافقي فانسحب بفلول الجيش إلى ناربونة (قاعدة سبتمانيا)..
    ولم تطل مدة خلافته إذ توفي ولم يتجاوز الأربعين من العمر، ولربما لو طالت لكثرت الفتوحات، ولانتشر الإسلام على نطاق واسع إذ لم تكن هناك أحداث داخلية تشغل الناس عن الجهاد، ولم يكن هناك عوز يجعلهم بحاجة إلى التفكير في تأمين حاجات أهليهم، والعمل لسد الضرورات في الحياة..
    وفي عهد يزيد بن عبد الملك غزا العباس بن الوليد بلاد الروم عام 103هـ على رأس صائفة كما غزاها سعيد بن عبد الملك، وفي عام 105هـ غزا مسلمة بن سعيد الترك..
    أما في عهد هشام بن عبد الملك فلم يكن هناك فتوحات واسعة كالتي حدثت أيام الوليد بن عبد الملك، وإنما كانت غزوات يحدث فيها تقدم قليل ثم يعود المسلمون إثرها إلى ثغورهم، أو تفتح رقعة صغيرة من الأرض أو بعض الحصون، أو يحدث قتال بسبب نقض العهد من قبل أعداء المسلمين الأمر الذي يضطر فيه المسلمون إلى معاودة قتالهم وإجبارهم على طلب الصلح ثانية ودفع الجزية..
    ففي بلاد الروم استمرت الغزوات في أرض الروم طيلة أيام هشام بن عبد الملك فكانت تندفع الصوائف والشواتي مجاهدة في البر والبحر، ولكن لم تحدث معها تغيرات في الحدود وإنما توغُّل في أرض الروم، ثم عودة إلى الحصون الكائنة على مرتفعات جبال طوروس..
    وفي عام 108 هـ فتح مسلمة بن عبد الملك مدينة قيصرية ثم رجع عنها إلى الثغور، ووصل سعيد بن هشام عام 111هـ إلى مدينة قيصرية أثناء توغله في أرض الروم، وهزم عبد الله البطال قسطنطين وجيشه وأسره، ووصل سليمان بن هشام مدينة قيصرية ثانية، ورابط معاوية بن هشام عام 113هـ في ناحية مرعش وكان قد فتح حصن خرشنة قبل عام..
    2ـ بحر الروم:
    منذ أن تسلم معاوية رضي الله عنه إمرة بلاد الشام وهو يطمح بمنازلة الروم بحريًا، وما أن سمح له الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بذلك حتى انطلق في ذلك ليحمي المدن الساحلية ويصد عنها غارات الروم وأساطيلهم؛ فقد فتح قبرص عام 28هـ، وأعادها عام 33هـ، وانتصر على الروم في معركة ذات الصواري، وغزا صقلية غزوة استطلاعية كما غزا رودس، وقد نظم التعاون بين الجيوش البرية والأساطيل تنظيمًا دقيقًا، واشتُهِرَ من قادة البحر بُسْر بن أرطأة، ومالك بن هبيرة السكوني، والمنذر بن زهير، وخالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وفضالة بن عبيد الأنصاري ويزيد بن شجرة الرهاوي وعقبة بن نافع، وجنادة بن أبي أمية الأزدي وغيرهم..
    ومن الملاحظ أن بعضهم كان يتسلم إمرة الجيوش البرية في بعض الأحيان فلم يكن هناك اختصاص، وإنما الروح المعنوية العالية تدفع المؤمن لأن يجاهد بأية منطقة كانت، كما يجب أن نعرف أن غزو البحر لم يكن محصورًا بأهل الشام من أبناء الساحل ولا بأهل مصر فقط، بل أصبح جميع المسلمين مجاهدين في البر والبحر على حدٍّ سواء، سواء كانوا من أهل البادية الذين لم يروا البحر طيلة حياتهم أم من أبناء السواحل الذين اعتادوا على العمل فيه، وكلهم يجيد القتال، ويحسن التصرف، ويضحي بكل شئ ففي عام 48 هـ قاد مالك بن هبيرة السكوني أهل مصر في البحر، وقاد أهل المدينة في البحر المنذر بن زهير وكان على الجميع خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، كما أنه من المعروف أن أكثر هؤلاء القادة كانوا من جزيرة العرب في الأصل، ومن أهل الداخل والبوادي.
    واتخذ معاوية رضي الله عنه خطة في نقل أعداد من العرب المسلمين إلى الجزر في البحر الأبيض المتوسط لحمايتها ونشر الإسلام في ربوعها، ففي عام 48هـ نزل المسلمون بصقلية، واستطاع فضالة بن عبيد الأنصاري فتح جزيرة (جربا) عام 49هـ وقد سار إليها على رأس شاتية في ذلك العام..
    وفي عام 50هـ تم حصار القسطنطينية، وفي عام 53هـ فتح جنادة بن أمية الأزدي جزيرة رودس، ونقل معاوية رضي الله عنه جماعة إليها لحمايتها..
    وفي عام 55هـ تم فتح جزيرة كريت وبعد عامين فُتِحَتْ جزر بحر إيجة القريبة من القسطنطينية مقدمة لحصارها من جديد..
    وفي عهد عبد الملك بن مروان غزا عطاء بن رافع جزيرة صقلية عام 84هـ..
    وفي عام 89هـ دخل المسلمون جزيرة صقلية وميورقة على عهد الوليد بن عبد الملك..
    أما في عهد هشام بن عبد الملك فقد حدثت غارات بحرية للجزر الواقعة في البحر الأبيض المتوسط، ومن أشهر قادة البحر في عهده عبد الله بن عقبة بن نافع، وعبد الله بن أبي مريم، وميمون بن مهران، وغزا أمير أفريقية جزيرة صقلية عام 121ه، وكان قائد الغزو حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الذي استطاع فتح مدينة سرقوسة، وكذا غزا أمير أفريقية عبيد الله بن الحبحاب جزيرة سردينيا عام 117هـ بإمرة قثم بن عوانة الذي تمكن من الاستيلاء على قلعة الجزيرة إلا أن المقاتلين قد غرقوا في البحر عند عودتهم..
    3ـ إفريقية:
    بعد أن فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر عام 20هـ أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقدم نحو الغرب حتى وصل إلى طرابلس إلا أن الخليفة لم يأذن له بالتقدم نحو إفريقية، وكان قد وجه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ففتح مصراته، وسيَّر عقبة بن نافع ففتح زويلة، وعينه أميرًا على حامية مرابطة في برقة، وأرسل بسر بن أرطأة ففتح ودان، وعين عبد الله بن سعد بن أبي سرح أميرًا على الصعيد..
    وعندما تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة أَذِنَ بفتح إفريقية؛ فأمر بإرسال قوة بإمرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح نحوها وأمده بجيش من المدينة فيه الحسن والحسين ابنا علي وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص، فالتقوا بأمير برقة عقبة بن نافع، ودخلوا طرابلس وانتصروا على الروم قرب موقع القيروان، وفتحوا قفصة..
    ثم نقضت إفريقية العهد فعاد عبد الله بن سعد بن أبي سرح إليها، وجدد فتحها، وبقي عقبة بن نافع أميرًا على برقة، وكثيرًا ما كان يحدث نقض العهد من قِبَلِ البربر فيقوم المسلمون بإعادة تسيير الجيوش ويجددون الفتح..
    وعندما آلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عاد عمرو بن العاص واليًا على مصر، وكان قد دخلها منذ عام 38هـ، وتولى أمر المغرب معاوية بن حديج ففتح بنزرت عام 41هـ، كما دخل قمونية موضع القيروان عام 45ه،
    وأرسل عبدالله بن الزبير ففتح سوسة في العام نفسه، ورجع معاوية بن حديج إلى مصر فتولى أمر المغرب رويفع بن ثابت الأنصاري، وبقى عقبة بن نافع على برقة ففتح سرت ومغداس، وأعاد فتح ودّان ودخل فزان ووصل إلى جنوبها إلى كاوار، ودخل غدامس وقفصة وابتنى القيروان، كما فتح كورا من بلاد السودان..
    وفي عام 50هـ تولى أمر مصر مسلمة بن مخلد فعزل عقبة بن نافع عن أمر المغرب، وولى أبا المهاجر دينار فوصل إلى المغرب الأوسط.
    بعد أن وصل عقبة بن نافع، إلى ساحل المحيط الأطلسي، وقام بفتوحاته هناك عاد إلى قاعدته القيروان، وفي طريق عودته فاجأه الروم وهو في عدد من جنده لا يزيد على ثلاثمائة فارس، وكلموا كسيلة الذي كان في عسكر عقبة؛ فأظهر غدره وجمع أقرباءه وهاجموا عقبة؛ فاستشهد ومعه أبو المهاجر دينار وذلك عام 63هـ وكان نائبه على القيروان زهير بن قيس البلوي فقصده كسيلة، واضطر زهير إلى العودة إلى برقة وانتزع كسيلة القيروان من أيدي المسلمين، وقد كثر الروم في إفريقية إذ توقفت هجمات المسلمين كما أن البربر قد قويت شوكتهم، وعزَّ أمرهم بمجئ الروم إليهم، وكتب زهير إلى عبد الملك يخبره بذلك فأرسل إليه قوة كبيرة من بلاد الشام سار بهم إلى إفريقية واقترب من القيروان عام 69هـ ونازل كسيلة في (ممس) إلى الغرب من القيروان فانتصر عليه وقتله، ولاحق المسلمون البربر والروم حتى المغرب الأقصى، وكانت معركة ممس معركة حاسمة ذل بعدها الروم تمامًا وضعفت مقاومة البربر، وجاءت مراكب كثيرة من الروم من القسطنطينية وجزيرة صقلية فأغارت على برقة؛ فسلبت ونهبت كثيرً، وصادف ذلك قدوم زهير فطلب من جنده الحركة السريعة نحو الساحل لاستنقاذ سبي المسلمين، فلما رأوه استغاثوا به وهم يُسحبون نحو المراكب فأسرع لنجدتهم وكانت الروم بأعداد كبيرة فجرت معركة استشهد فيها زهير عام 71هـ..
    وأرسل عبد الملك عام 73هـ حسان بن النعمان الغساني واليًا على إفريقية فسار من مصر بأربعين ألفًا ويقال إنه أول من دخل إفريقية من جند الشام فنزل طرابلس عام 74هـ وسار بعدها إلى القيروان ولم يجد أثناء سيره سوى مقاومة خفيفة ثم سار إلى قرطاجنة وأمر بهدمها فهدمت حتى يحرم الروم من الإفادة من مرافئها، ثم أقام إلى الجنوب منها مدينة تونس، ولاحق الروم إلى الساحل فهزمهم في بنزرت وصطفورة، ثم عاد إلى القيروان فمكث فيها مدة، ثم انطلق نحو الكاهنة في جبال أوراس وكان البربر يطيعونها، وأمرها عظيم يخشاه الروم، والتقى الطرفان وهُزِمَ المسلمون بعد بلاء عظيم، وأخبر حسان الخليفة عبد الملك بذلك فأمره بالانتظار حتى تصل إليه الأوامر، أما من ناحية الروم فقد سُرُّوا بهزيمة المسلمين وحرصوا على استرجاع إفريقية، ووصل أسطولهم عام 78هـ إلى قرطاجنة بإمرة البطريق يوحنا فتمكن من دخولها، وقسا الروم على المسلمين قسوة شديدة تدل على حقدهم ومحاولة الانتقام، وتحصنوا في قرطاجنة والمدن المجاورة لها، وأخبر حسان أمير المؤمنين عبد الملك بما قسا به الروم.
    بقى حسان مقيمًا في مكان (قصور حسان) بالقرب من سرتة مدة خمس سنوات وهو يستحث عبد الملك لإرسال الجنود إليه إلا أن عبد الملك كان مشغولاً في حوادث المشرق التي شغلته مدة من الزمن وهي حركة الخوارج وحركة ابن الأشعث، ثم أرسل نجدة إلى حسان عام 81هـ وأمره بالسير نحو إفريقية فتحرك حسان نحو الكاهنة فهزمها وقتلها عام 82هـ وعمل على الإحسان إلى البربر فحَسُنَ إسلامُهم، ثم عاد إلى القيروان فاستراح به، مدة ثم اتجه شمالاً نحو قرطاجنة، وجرت معركة بحرية هُزِمَ فيها الرومُ، وفُتِحَتْ قرطاجنة وانتقل البطريق يوحنا هاربًا إلى بيزنطة، وطلب حسان النجدة البحرية من عبد الملك فأرسل له أسطولاً بإمرة عبد الملك بن قطن فاستولى على جزر (كركنة)، ثم أرسل حسان خيلاً إلى المغرب فسيطر على فاس، وخلصت له المغرب تمامًا، وحتى لا يعود الروم إلى قرطاجنة أنشأ حسان مرفأ تونس جنوب قرطاجنة..
    وقام حسان بتدوين الدواوين وضرب الدنانير والدراهم العربية ثم عُزِلَ عن إفريقية سنة 85هـ..
    وبعد أن تولى موسى بن نصير إفريقية عمل على توطيد الوضع فيها، فعمل على نشر الإسلام بين البربر، وقد نجح في مهمته، ودان البربر بالطاعة للإسلام..
    الجبهة الشرقية:
    ولم تكن ساحة واحدة شأنها في ذلك شأن الجبهة الغربية، فكانت عدة ميادين، لأنها تقع على بلاد عدة أمم، ومعظمها وثنية بعكس الغربية التي يدين غالبية سكانها بالنصرانية فنرى في الشمال شعوب القفقاس المختلفة التي أشهرها اللان، وفي الشمال الشرقي نجد الأتراك في بلاد ما وراء النهر، وكانوا على الوثنية أيضًا، وفي الشرق نجد طخارستان وسجستان وسكانهما من الوثنين، وفي الجنوب الشرقي بلاد السند.
    غزا المسلمون بلاد اللان عام 41هـ، وفتحوا الرُّخج، وغيرها من بلاد سجستان عام 43هـ، ودخل الحكم بن عمرو الغفاري منطقة القيقان في طخارستان وغنم غنائم كثيرة عام 45هـ، كما فتح المسلمون قوهستان، وفي عام 55هـ، قطع عبيد الله بن زياد نهر جيحون ووصل إلى تلال بخارى..
    وغزا المسلمون عام 44هـ بلاد السند بإمرة المهلب بن أبي صفرة، كما غزوا جبال الغور عام 47هـ، وكان المهلب مع الحكم بن عمرو الغفاري..
    وكان سكان المناطق الشرقية ينكثون بالعهد مرة بعد أخرى ويعود المسلمون لقتالهم ودخول أراضيهم؛ لذلك نلاحظ أن مناطق تلك الجهات قد فتحت عدة مرات، واستمرت مدة من الزمن على هذه الحال حتى دانت نهائيًا أيام الوليد بن عبد الملك..
    استغل الأعداء حروب المسلمين فيما بينهم فقاموا بحركات على كل جبهات القتال، وهدد الروم بلاد الشام، واضطر عبد الملك بن مروان إلى أن يدفع لهم إتاوة سنوية ريثما ينتهي من تدبير أمره، ووصلوا في عام 79هـ إلى أنطاكية، وتمكنوا في إفريقية من قتل عقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار عام 63هـ ثم قتل زهير بن قيس البلوي عام 71هـ حتى تراجع المسلمون إلى برقة، وتركوا القيروان قاعدتهم الأولى وراءهم..
    ونقض أهل أرمينيا العهد، وكذا الترك على الجبهة الشرقية، وهاجموا المسلمين عدة مرات، فلما اجتمع أمر المسلمين على خليفة واحد، وتوحد أمرهم قاموا برد الضربة، وعاد للجهاد أثره وحدثت فتوحات على الجبهات الإسلامية كلها.

هناك تعليق واحد:

  1. ثورة حجر بن عدي الكندي
    لاتدلس على الجماعه نقلك وتصريحاتك غير سليمة،وانما حاول حجر بن عدي الكندي وجماعته القيام بمهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاعتراض على سب الامام علي(عليه السلام)على المنابر فحسب. وقد مرت نماذج من هذه التصريحات.ومن المؤكد ان حجراً لم يكن مؤمنا بخلافة معاوية اسلاميا، وانما رأى الظروف تسوّغ له البيعة، كما دفعت غيره من المؤمنين لبيعة معاوية. ولكن هذه البيعة لا تفرض على المؤمن السكوت عن الانحرافات والمنكرات، فكان حجر وجماعته وغيرهم من المؤمنين ينبهون الامة او النظام الحاكم على انحرافاته وانحرافات عماله وانصاره. ولكن معاوية وزمرته انما استولوا على الحكم، طمعاً بالمطامع الدنيوية، ولاجل ارتكاب تلك المنكرات، وقد استخدموا مختلف الاساليب والممارسات في تطبيع الامة على حياة ملائمة لاطماعهم، ومن هنا كان يرى في وجود حجر وامثاله خطراً يتهدد وجوده واحلامه، وكان يخشى ان يثير حجر واصحابه الامة ضد ممارساته ومخططاته، وبذلك تذهب جهوده ادراج الرياح، فكان يخشى انتشار هذه الاراء الرافضة بين الجماهير، وبذلك يعسر القضاء على هذا الوعي والغضب الجماهيري. فقد روى ابن كثير في تاريخه ان عبد الرحمن بن الحارث قال لمعاوية: «اقتلت حجر بن الادبر؟ فقال معاوية: قتله احب الي من ان اقتل معه مئة الف، وقال معاوية: اني رأيت في قتلهم صلاحاً للامة، وفي مقامهم فساداًلامة، وقال: اني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خيراً من استحيائه في فسادهم» ، ونظر ذلك ما اجاب به معاوية على استنكار عائشة ولم يقصد معاوية من صلاح الامة، إلا تمرير الحكم الفاسد، وتطبيع الامة على قبول ممارساته

    ردحذف

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري