وإذا كان سقف الثورة في العالم العربي محكوماً بتغيير النظام لا التبعية للأجنبي الذي يحمي النظام ويدعمه، فيعني ذلك أنّ «الثوري» الوافد سيسير على نهج الحاكم المخلوع في علاقته مع الأجنبي، وبالتالي فإنّ حصيلة التغيير لن تمسّ جوهر الحكم وشروطه، بل شخصه أو أشخاصه. وفيما تبدو مصر الأكثر قدرة على تكوبن نظام جديد يحسن شروط التبعية للخارج، فإنّ ليبيا واليمن تكادان تسقطان في الخراب الأهلي الذي يستدرج التدخل أو الوساطة الأجنبية لمصلحة هذا الفريق أو ذاك، أي إدارة الخراب عن بعد، بانتظار مخرج يكرّس نظام الفئة الغالبة.
وفي سوريا، من المتوقع أن تتكثف جهود المناهضين للسيطرة على الحكم من الداخل، بعدما أخفقت محاولات الانقضاض عليه من الخارج. وقد يخفق هذا الهجوم كما أخفقت محاولة عام 2005، لكن المشكلة التي كانت قائمة بالأمس ولا تزال حتى اليوم، تكمن في إهمال النظام السوري لعناصر قوته السياسية وموجبات تفعيلها بوسائل لا تعتمد العنف والترهيب. فالأجهزة الأمنية قد تحمي النظام إلى حين، بينما الوسائل السياسية والفكرية التي يمكن النظام تفعيلها، قد تحميه في كلّ حين.
من جهة ثانية، اشترت دول مجلس التعاون الانتفاضة الشعبية البحرينية والتظاهرات العمانية الأولى، ببضعة مليارات من الدولارات، واشترت صمت شعوبها بمليارات أخرى. وهي تراهن على الخروج سالمة من موجة التغيير، وأن يكون ما بقي من العالم العربي الخارج من الثورات مفككاً في جزء منه، وبالتالي سلس القيادة والتوجيه والعمل تحت السقف الغربي. فهل هذا ما يريده شباب الثورة في البلدان العربية؟
ما من شك في أنّ الثوار الشباب في ساحات التغيير والحرية، يأملون مع فجر انتصار كلّ ثورة أن يحصلوا على الضمان الاجتماعي والصحي والمنحة الدراسية في الخارج، وأن تحظى المرأة الحامل بدار للحضانة بالقرب من منزلها، وأن يحوز متخرج الجامعة على وظيفة مرموقة، وأن يجمع الطبيب ثروة صغيرة ويحصل المهندس على مشاريع عمرانية. ويأملون أن تنمو هذه الفئات، كما تنمو الفئات البرجوازية الصغيرة في المدن الأوروبية، وأن يتاح الاختلاط بين الجنسين، حيث لا اختلاط، وأن تغرق الأسواق بالمواد الاستهلاكية وتفتح دور السينما والمسرح وصناديق الاقتراع على مصراعيها وتنهض ورشة صناعية وأخرى سكنية وثالثة زراعية وتنهمر مليارات الدولارات بعد رحيل الرئيس... هكذا يحلم المهمشون، ومن أجل تلك الأحلام يضحّون بأرواحهم. بيد أنّ هؤلاء سيكتشفون بعد حين، أنّ الثورة لا تعني الديموقراطية، وأن الجمهورية لا تعني الديموقراطية أيضاً، وأنّ الملكية الدستورية ليست جنّة الله على الأرض، وأنّ الديموقراطية كما تلوح من السوق الأوروبية هي ديموقراطية الأغنياء، وأنّها ما كانت يوماً ديموقراطية الفقراء، ابتداءً من روما القديمة وصولاً إلى فقراء المدن المهمشين في أوروبا.
ولا أدري في أي وقت سيكتشف الثوار الجدد أنّ العالم العربي سيصبح غنياً، أي قادراً على تأسيس البنية التحتية للديموقراطية، عندما يصبح سيداً على موارده ومصيره. فالتابع لا يراكم ثروة حرة، ويتبع سيده الأجنبي في أحواله المختلفة، فإن قال السيد الغربي إنّ ثمن برميل النفط يجب ألّا يعلو فلا يعلو، وإن قال السيد الأجنبي إنّ على التابع أن يشتري سلعاً غربية بأموال النفط يشتريها، بدل أن يصنع مثلها. وإن صنع، تعاقبه منظمة أوروبية تسهر على حقوق الملكية، ويعاقبه ابن جلدته، وكيل الشركة الأوروبية الحصري. ويعني ذلك أنّ على التابع أن يظل تابعاً، وعلى المنظومة العربية أن يعاد تشكيلها بعد الثورات، وفق شروط تبعية محسّنة على أن تكون جديرة بمواجهة إيران التي تطرق أبواب الغرب للخروج من التبعية، وطلباً للشراكة في المجالين الإقليمي والدولي.
بعبارة أخرى يمكن القول إنّ الشباب الثوريين الذين ضحّوا ويضحّون بأرواحهم من أجل التغيير الجذري، سيكون عليهم إذا ما أرادوا فعلاً أن تكلل ثوراتهم بالنجاح، أن يحرّضوا نظراءهم على الثورة في البلدان الثرية، وأن يتجاوزوا في حركتهم السقف الذي ترسمه الفضائيات العربية، وأن يطردوا القواعد الأميركية، ويطالبوا بالشراكة مع الغرب على الصعيد الدولي. وبالتالي، عليهم أن يطالبوا بأن تصبح بلدانهم شريكاً، لا تابعاً ثانوياً في العلاقات الدولية. وفي هذه الحالة فقط، يمكن العرب أن يراكموا الثروة وأن يغيّروا وجه عالمهم رأساً على عقب. وفي هذه الحالة، وفيها وحدها، يمكن أن تكتسب تضحيات الشباب الذين سقطوا في ساحات الحرية والتغيير قيمتها الحقيقية ومعناها التام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري