الأحد، 7 أكتوبر 2012

الإخوان والذاكرة الوطنية

الذاكرة الوطنية لأى أمة من الأمم يصنعها أغلب التيارات الفكرية والسياسية، سواء 
من كان فى السلطة وخاض نيابة عن الأمة معاركها وبطولاتها وأحياناً هزائمها 
وانكساراتها، أو من كان فى المعارضة وشارك فى صناعة هذه الذاكرة بالرأى 
والفكرة وأحياناً المواجهة.
وفى أوروبا صُنعت الذاكرة الوطنية المعاصرة أساساً عبر صراع بين اليسار
، تغير فيه خطاب كلا الطرفين مع الزمن، فاليمين الرأسمالى «وُلد» فى الحكم قاسياً 
ومستغلاً، واليسار «وُلد» فى المعارضة ثوريا وجذريا، وانتهى الأمر بكلا الطرفين 
أن اقتربا من منطقة وسط لم تلغ التباين بينهما، إنما لم تعد رأسمالية القرن 
العشرين مثل رأسمالية القرن الـ19، فقد أصبحت بفضل اليسار الثورى أكثر تفهما 
لمطالب العدالة الاجتماعية، وتغير شكل الطبقة العاملة وحجمها فى نهايات القرن 
الماضى عن الذى تحدثت عنه الكتب الماركسية فى القرن السابق، كما أن اليسار 
الثورى بدوره تحول فى معظمه إلى يسار اجتماعى إصلاحى ينافس اليمين فى 
التفاصيل والسياسات العامة.
والمؤكد أن الذاكرة الوطنية المصرية الحديثة بدأت مع محمد على مؤسس الدولة 
الوطنية، وكانت فى جوهرها نضالاً ضد المحتل الأجنبى منذ ثورة عرابى، مروراً 
بسعد زغلول وثورة 1919، وانتهاء بثورة يوليو وجمال عبدالناصر، وهى كلها 
مشاريع تحرر وطنى صهرت بعض الرموز الإسلامية، خاصة مفكرى النهضة 
كالشيخ رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وآخرين داخلها، وظل الإخوان خارجها منذ 
تأسيس الجماعة عام 1928.
إن نضالات الحركة الوطنية فى الثلاثينيات والأربعينيات كان للإخوان مسار مواز 
لها، وعصر الستينيات و«ما أدراك ما الستينيات» كان الإخوان فى مواجهة مفتوحة 
معه، ونظروا إليه فقط من ثقب الصراع الناصرى الإخوانى، ولم يستطيعوا أن 
يقيّموا تلك الفترة بحد أدنى من الموضوعية.
المؤكد أن الحركة الوطنية المصرية ناضلت من أجل الاستقلال والتحرر الوطنى مع 
حزب الوفد قبل ثورة يوليو، ومع عبدالناصر بعدها، وصحيح أيضا أن الإخوان كانوا 
ضد الاستعمار والاحتلال حتى لو أخطأوا فى إدارتهم السياسية لهذا الملف، وأرسلوا 
كتائب للقتال فى فلسطين وسقط منهم شهداء، لكنهم جميعا بنوا ذاكرة موازية 
تتحدث بإسهاب عن شهداء الإخوان لا شهداء الوطن، وعن تاريخ الجماعة لا تاريخ 
الحركة الوطنية.
إن تاريخ الجماعة منفصل معنوياً وسياسياً عن الذاكرة الوطنية للشعب المصرى، 
ولم يحدث - كما جرى فى المجتمعات التى تقدمت - هذا الانصهار المطلوب بين 
الجانبين حتى يؤسسا نسيجاً واحداً يدعم هذه الذاكرة التى كثيراً ما ضمت أضداداً ومختلفين.
فالمؤكد أن الإخوان كان لديهم رصيد تنظيمى ودعوى ضخم وشاركوا فى الشأن 
العام بقوة وكان لديهم عشرات الآلاف من الأعضاء المنضبطين ومئات الآلاف من 
الأنصار والمتعاطفين، وهو ما أشعرهم فى كثير من الأحيان بالاستغناء عن الآخر حتى لو كانوا شركاء الوطن.
والمؤكد أن ازدواجية الذاكرة الوطنية فيها كثير من الخطورة والمشكلات، فجزء من 
تفاقم الأزمة بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة حماس يرجع لكون الأولى 
اعتمدت على تراث منظمة التحرير الفلسطينية، الذى كانت جماعة الإخوان 
المسلمين وحركة حماس خارجه، وهو ما عنى عملياً أن كلا الطرفين ينهلان من 
إطار تاريخى وسياسى مختلف عن الآخر، رغم أنه يفترض أن يكون واحداً، وهو ما عمق من الحالة الصراعية بين الجانبين.
المؤكد أن الوضع فى مصر مختلف لأن هناك دولة وطنية منذ أكثر من قرنين وجيش 
وطنى وقضاء شبه مستقل وجهاز إدارى ضخم، وأن كل هؤلاء على مشاكلهم حموا 
مصر من مصير كارثى دفعته دول كثيرة فى المنطقة دون عائد أفضل أو بديل.
والمؤكد أن تجارب النجاح تقول لنا إن تصالح التيار الإسلامى مع الذاكرة الوطنية 
لأى أمة من الأمم كان شرطاً لنجاحها وتقدمها، فتصالح الإسلاميين فى تركيا مع 
الجمهورية العلمانية ومؤسسها مصطفى كمال أتاتورك كان وراء نجاح حزب العدالة 
والتنمية الحاكم فى تركيا، ومدهش حين نرى كيف يتحدث قادة الحزب، رغم أنهم 
الآن لم يعودوا مضطرين لذلك، القدر من الاحترام عن مؤسس تركيا الحديثة 
ومحررها من الاحتلال «أتاتورك»، فى حين لايزال كثير من الإسلاميين فى مصر 
والعالم العربى ينعتونه بأسوأ الصفات، رغم أن قيمته الأولى هى أنه بطل تحرر من 
الاحتلال ورمز للحداثة بعيدا عن موقفه من الأحرف العربية أو من الشريعة.
إن تصالح «العدالة والتنمية» مع تاريخ الجمهورية التركية الذى أقصاهم، وبناءه 
تجربة جديدة ضمت «العلمانيين الديمقراطيين» و«الإسلاميين العلمانيين» قد أسس 
لذاكرة جديدة للشعب التركى، وهو ما لم يحدث فى مصر ولا يبدو أنه سيحدث فى 
القريب العاجل.
فقد دخل الإخوان وحلفاؤهم فى معركة مفتوحة مع كل رموز مصر الوطنية
وتصوروا أنهم بحفلات الشتائم التى نالها عبدالناصر مؤخرا فى ذكراه قد انتصروا 
لثأرهم الإخوانى، وهى أمور تصلح فى سجالات قوى الهامش التى تكتفى بالاحتجاج 
والرفض وليس القوى الرئيسية التى ترغب فى بناء أمة عن طريق بناء ذاكرة 
وطنية تضع يدها على عناصر القوة ورسائل النهضة من أجل بناء مصر الجديدة 
وليس تصفية الحسابات مع تاريخ لم يشارك فيه الإخوان لأسباب كثيرة.
فحتى لو اعتبر الإخوان أن إقصاءهم كان فقط مسؤولية النظم السابقة، وأنهم كانوا 
ضحايا وملائكة فى العهدين الملكى والجمهورى على السواء، فإن هذا لا يعفيهم من 
ضرورة العمل على صناعة ذاكرة وطنية لعموم المصريين تعترف بأن ثورة 19 
ثورة عظيمة، وأن حزب الوفد قاد الحركة الوطنية رغم أخطائه، وأن عبدالناصر 
بطل تحرر وطنى، وزعيم اتسم سلوكه الشخصى بالنزاهة والاستقامة النادرة رغم 
أخطائه الكثيرة. ما يقوم به الإخوان هو عكس ما يجب القيام به، والبعض تصور أن 
تركيا الناجحة هى «تجارة وشطارة» وليست مشروعاً متكاملاً لبناء ذاكرة وطنية 
تتصالح فيه مع الماضى الذى أقصى الإسلاميين بصورة أكثر قسوة مما جرى فى مصر.
يكفى فقط أن ننظر كيف يتكلم من فى الحكم فى تركيا من أصدقاء الإخوان عن كمال 
أتاتورك، وكيف يقيّم الإخوان فى مصر عبدالناصر لنكتشف صعوبة حالنا، لأن 
المطلوب هو بناء ذاكرة مشتركة للشعب المصرى لا يشعر فيه كل من هو غير 
إخوانى بأنه مستبعد ومهمش، مثلما شعر الإخوان فى العصور السابقة، لأن الفارق 
هو أن الإخوان وصلوا بالديمقراطية وليس بانقلاب، وأن من شروط الديمقراطية أن 
يعترفوا بأخطائهم، وأن يعيدوا النظر فى موقفهم من تاريخ بلادهم بعدم دعم عزلتهم 
الشعورية عنه، وأن يعرفوا أن البلاد التى صنعت التقدم لم تصفعه فقط على أرضية 
المال والتجارة وإنما بتأسيس ذاكرة وطنية تحاول أن تستوعب تقريبا الجميع دون 
أن تلغى التباين والتنوع فى تاريخ أى أمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري