الأحد، 20 سبتمبر 2009

معجزة القرآن


  • معجزة القرآن
    مقدمة
    من رحمة الله بعباده أنه لم يشأ أن يعذبهم حتى يرسل إليهم رسولاً من أنفسهم؛ يرشدهم إلى طريق الهداية وصراطه المستقيم, ويحذِّرهم طرق الغواية وعذابه الأليم؛ {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
    ولما كان بعض الناس يجحدون ويكفرون بالرسل عليهم السلام, فقد أيَّد الله الرسل بالمعجزات الباهرات التي تدلُّ على صدق نبوَّتهم ورسالتهم التي أرسلهم الله بها, وتُرغِم الكافرين المعاندين على الإيمان، وكانت معجزة كل نبي من جنس ما اشتهر به قومه؛ فقوم موسى اشتُهِروا بالسحر فكانت معجزة موسى العصا التي تلقف ما صنعوا, وكذلك قوم عيسى اشتهروا بالطبِّ فكانت معجزة عيسى إبراء الأكمه وإحياء الموتى، وغير ذلك.
    فكان كل رسول يؤيَّد بمعجزة حسِّيَّة تناسب خصوصيَّة رسالته ومحدوديَّتها زمانًا ومكانًا وقومًا؛ فتقيم الحجة وتشهد بصدق الرسول، فإذا ما ضعفت تأثير تلك المعجزة وانقضى زمن تلك الرسالة أرسل الله رسولاً جديدًا وأيَّده بمعجزة جديدة، حتى إذا جاءت رسالة سيِّد المرسلين كانت رسالة عامَّة خاتمة، وكان لا بُدَّ من معجزة تُلائم طبيعتها؛ فتتعدَّد -مثلاً- وجوه إعجازها؛ لتُقيم الحجة على الخلق كافَّة، وتستمرُّ وتتجدَّد على مرِّ الأيام لتظلَّ شاهدة على الأجيال المتلاحقة بصدق الرسول وربانيَّة رسالته.
    ولذا لم تكن هذه المعجزة حسِّيَّة كمعجزات الأنبياء من قبله ؛ لأن المعجزة المادِّيَّة لا تؤدِّي هذا الدور ولا تَصْلُح لهذه المهمَّة، وإنما كانت هذه المعجزة الخالدة هي القرآن، الذي تحدَّى به الرسول العرب، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان، قال : "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
    [1]. وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته في القرآن الكريم، بل المراد أنَّ القرآن الكريم هو المعجزة التي اخْتُصَّ بها دون غيره من الأنبياء.
    وكما أشرنا فإن معجزة القرآن الكريم تتميَّز عن سائر معجزات الأنبياء السابقين بدوامها واستمراريتها على مرِّ العصور، في حين أن المعجزات والبراهين التي كانت للأنبياء السابقين قد انقرض زمانها في حياتهم، ولم يبقَ منها إلاَّ الخبر عنها؛ ولعلَّ ما يُوَضِّح حقيقة ذلك قوله : "فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
    ".
    والقرآن الكريم معجزٌ من وجوه متعدِّدة؛ منها جهة اللفظ، وجهة النظم والبلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، ومعنى إعجاز القرآن: إعجاز الناس أن يأتوا بمثله؛ أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الإتيان بمثله.
    والقرآن الكريم هو كلام الله تعالى المنزَّل على نبيِّه محمد ، المتعبَّد بتلاوته، وهو قطعي الثبوت لتواتر نقله، ولوعد الله بحفظه، وهو وحي أُنزل على رسول الله عن طريق ملَك الوحي جبريل ، فكان أول ما أوحي إلى النبي {اقْرَأْ} [العلق: 1]، حيث كان في غار حراء يتعبَّد لله تعالى على الحنيفيَّة، وهي دين إبراهيم
    [2].
    والمقصود من الإعجاز في القرآن أمران؛ الأوَّل: إثبات أن هذا القرآن حقٌّ منزَّل من عند الله تعالى. والثاني: إثبات صدق نبوَّة سيِّدنا محمد ، وأنه رسول الله حقًّا الذي أيَّده بهذه المعجزة الخالدة.
    ولا ريب أن المعجزة تتمثَّل في ضعف القدرة البشريَّة على مزاولتها ومجاراتها والإتيان بمثلها أو جزء منها، على شدَّة الإنسان واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدُّمه، وقد تكلَّم كثير من العلماء حول إعجاز القرآن الكريم، فأورد الجاحظ أنَّ إعجاز القرآن الكريم يمثَّل في الدرجة العليا من بلاغته، ثم ذَكَر مجموعةٌ من العلماء المتأخرين أن وجه الإعجاز: ما تضمَّنه القرآن الكريم من المزايا الظاهرة والبدائع الرائقة، في الفواتح والمقاصد والخواتيم في كل سورة وفي مبادئ الآيات وفواصلها، ويكمن إعجاز القرآن في: فصاحة ألفاظه، وبلاغة المعاني، إضافةً إلى مضرب كل مثل، ومساق كل قصَّة وخبر في الأوامر والنواهي، وأنواع الوعيد، ومحاسن المواعظ والأمثال وغيرها، ثم صورة نظمه؛ فإن كل ما ذكره من العلوم مسوق على أتمِّ نظام وأحسنه وأكمله
    [3].
    هذا، وإذا كانت معجزة كل نبي تكمن في ما نبغ فيه قومه، فإن النبي تحدَّى العرب -أهل الفصاحة والبلاغة- بهذا القرآن الكريم، لكنهم عجزوا عن معارضته، وما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وقد تحدَّاهم على مراحل ثلاث:
    فتحدَّاهم أوَّلاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن كله، وذلك في أسلوب عامٍّ يتناولهم ويتناول غيرهم من الإنس والجن؛ تحدِّيًا يظهر على طاقتهم مجتمعين
    [4]، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
    ولما عجزوا عن ذلك نزل معهم في التحدِّي، فتحدَّاهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].
    ولما لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً نزل معهم في التحدِّي، وتحدَّاهم أن يأتوا بسورة واحدة، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]، ولكنهم عجزوا عن ذلك أيضًا، مع توفُّر دواعي اللسان وقوَّة البيان التي يوقدها حماس القبيلة ويؤجِّجها أَتُّون الحميَّة؛ إذ لم يجدوا مسلكًا لمحاكاته، أو منفذًا لمعارضته، بل جرى على ألسنتهم الحقُّ الذي أخرسهم عفو الخاطر عندما زلزلت آيات القرآن الكريم قلوبهم، كما أُثِرَ ذلك عن الوليد بن المغيرة، وعندما عجزت حيلتهم رمَوْهُ بقول باهت؛ فقالوا: سحر يُؤثر، أو شاعر مجنون، أو أساطير الأولين
    [5].
    ولعلَّ أهمَّ القصص التي تجسِّد لنا محاولات تحدِّي القرآن، ما تجسَّد في قصة لبيد بن أبي ربيعة ، ذلك الشاعر الصنديد، الذي اعترفت العرب جميعًا بشاعريته، فعندما سمع تحدِّي القرآن للناس، ولم يكن قد سمع به، كتب أبياتًا من الشعر وعلَّقها على ستار الكعبة، فرأى ذلك أحدُ المؤمنين، فأخذته عزَّة الإسلام فكتب آيات من القرآن فوضعها بجانبها، وعندما جاء الشاعر العربي لبيد من الغد، شاهد ورقة بجانب شعره، فقرأها فإذا هي بآيات من كتاب الله، فتلفَّت حوله، وتعجَّب عقله، والله ما هذا بقول بشر، وقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". وأقسم أن لا يقول الشعر بعد ذلك أبدًا، حتى جاء في أحد الأيام عمر بن الخطاب أثناء خلافته وقال للبيد: "أنشدني بشيء من الشعر". فقرأ من سورة البقرة وآل عمران، ثم قال: "والله ما كنتُ لأقول الشعر وقد حفظت سورة البقرة وآل عمران"
    [6].
    وقصَّة مُسيلمة الكذَّاب، ذلك المرتدّ عن الإسلام الذي حاول مجارات القرآن، حيث يقول في كتابه الباطل
    [7]:
    "والليل الأضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم".
    "والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس".
    "والفيل، وما أدراك ما الفيل، له جسم كبير، وذيل وبيل، وخرطوم طويل".
    "والشاة وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون؟".
    "يا ضفدع يا بنت الضفدعين، نقي لا تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين... لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قوم يعتدون".
    "والمبديات زرعًا، فالحاصدات حصدًا، فالذاريات قمحًا، فالطاحنات طحنًا، فالخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنًا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ضيفكم فامنعوه، والمعترّ فآووه، والباغي فناوءوه
    ".
    وكما يظهر؛ فهو كلام بشر أجوف، وقد كان أتباعه يعلمون ذلك، حتى قال أحدهم: "... ولكن كذّاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مُضَر"
    [8]!
    هذا، وقد قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية السابقة، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]، قال: "وهذا من الله احتجاج لنبيِّه محمد على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلاَّلهم الذين افتتح بقصصهم قوله جلَّ ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضرباءهم يعني بها, قال الله جلَّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شكٍّ -وهو الريب- مما نزَّلنا على عبدنا محمد من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي, وأني الذي أنزلته إليه, فلم تؤمنوا به ولم تُصَدِّقوه فيما يقول, فأتوا بحجَّة تدفع حجَّته; لأنكم تعلمون أن حجَّة كل ذي نبوَّة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق, ومن حُجَّة محمد r على صدقه وبرهانه على نبوَّته, وأن ما جاء به من عندي, عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله، وإذا عجزتم عن ذلك, وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية, فقد علمتم أن غيركم عمَّا عجزتم عنه من ذلك أعجز، كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوَّته من الآيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي، فيتقرَّر حينئذٍ عندكم أن محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه؛ لأن ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلاً لم يعجزوا وجميعُ خلقه عن الإتيان بمثله,؛ لأن محمدًا لم يُعَدَّ أن يكون بشرًا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان
    [9], فيمكن أن يظنَّ به اقتدار على ما عجزتم عنه, أو يُتَوَهَّم منكم عجز عمَّا اقتدر عليه"[10]، فلمَّا عجزوا عن معارضته مع توفُّر الدواعي لذلك، علمنا أنه ليس بمقدور إنسان أن يأتي بمثله، فهو إذن من خالق البشر الذي هو على كل شيء قدير.
    هذا، وقد أجمع الباحثون في القرآن على إعجازه، فهذا الجاحظ
    [11]، مؤسِّس البيان العربي بلا منازع، في رسالة له بعنوان حجج نبوِّية يقول: "إن محمدًا مخصوص بعلامة، لها في العقل موقع كموقع فلق البحر في العين... ذلك قوله لقريش خاصَّة وللعرب عامَّة مع مَن فيها من الشعراء والخطباء والبلغاء، والحكماء وأصحاب الرأي والمكيدة، والتجارِب والنظر في العامَّة: إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي، وصدقتكم في تكذيبي"[12].
    ومما لا شكَّ فيه أن القرآن الكريم قد حوى من نواحي الإعجاز ما يفوق كل معجزة كونيَّة سابقة ويغني عنها جميعًا، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50، 51]. والإعجاز لسائر الأمم على مرِّ العصور ظلَّ -ولا يزال- في موقف التحدِّي شامخ الأنف، فأسرار الكون التي يكشف عنها العلم الحديث ما هي إلا مظاهر للحقائق العليا التي ينطوي عليها سرُّ هذا الوجود في خالقه ومدبِّره، وهو ما أجمله القرآنُ أو أشار إليه، فصار القرآن بهذا معجزًا للإنسانيَّة كافَّة
    [13].
    [1] البخاري: كتاب فضائل القرآن (69)، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل (4696)، ومسلم: كتاب الإيمان (1)، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد r إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (152).
    [2] انظر: أكرم العمري: الرسالة والرسول ص43، 44.
    [3] انظر: مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب 2/111، 117.
    [4] التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ} (الإسراء: 88)، تعظيمًا لإعجازه؛ لأنه إذا فرض اجتماع الإنس والجن وظاهر بعضهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة كان الفربق الواحد أعجز.
    [5] انظر: إعجاز القرآن، الرابط: http://www.iu.edu.sa/edu/thanawi/2/usultafsir/9.htm#_ftnref2
    [6] انظر: ابن حجر: الإصابة 3/ 24، وابن عبد البر: الاستيعاب 1/415.
    [7] انظر: الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/276.
    [8] الطبري: المصدر السابق 2/276، وابن كثير: البداية والنهاية 6/327.
    [9] ذرابة اللسان: فصاحته، ذَرِبَ الرَّجل إذا فصح لسانه بعد حصره، ولسانٌ ذَرِبٌ: حديدُ الطَّرَف. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ذرب 1/385.
    [10] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 1/373.
    [11] هو أبو عثمان بن بحر بن محبوب الكتاني، المعروف بالجاحظ البصري، ولد سنة 150هـ، وتوفي سنة 255هـ.
    [12] انظر: الجاحظ: الرسائل ص220.
    [13] إعجاز القرآن، الرابط: http://www.iu.edu.sa/edu/thanawi/2/usultafsir/9.htm#_ftnref2
    الإعجاز اللغوي والبياني
    تتعدد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم؛ فمنها الإعجاز اللغوي والبياني، والإعجاز النفسي، والإعجاز التشريعي، والإعجاز التاريخي، والإعجاز العلمي.
    أما الإعجاز اللغوي والبياني فيعلم الناطق باللغة العربيَّة الفرق بين الكلام المنظوم في الأبيات الشعريَّة، ذات التفاعيل المعيَّنة التي تخضع للأبحر العروضيَّة التي اخترعها الخليل بن أحمد الفراهيدي ومن زاد عليه بعده، وبين الكلام المنثور، والأُذُن تستطيع بكل سهولة أن تفرِّق بين النوعين، بَيْدَ أن القرآن الكريم يختلف في نظمه عن النثر والشعر، ولكنه في ذات الوقت يجمع من خصائصهما ما يُحيِّر السامع له.
    ولإعجاز النظم في القرآن الكريم عدَّة مظاهر تتجلَّى فيها
    [14]:
    المظهر الأوَّل: الخصائص المتعلِّقة بالأسلوب، وهي كما يلي
    :
    الخاصَّة الأولى:
    أن أسلوب القرآن يجري على نسق بديع خارج عن المعروف من نظام جميع كلام العرب، ويقوم في طرقه التعبيريَّة على أساس مباين للمألوف من طرائقهم؛ بيان ذلك أن جميع الفنون التعبيريَّة عند العرب لا تعدو أن تكون نظمًا أو نثرًا، وللنظم أعاريض، وأوزان محدَّدة معروفة، وللنثر طرائق من السجع والإرسال وغيرهما مُبَيَّنة ومعروفة، والقرآن ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده، وليس على سنن النثر المعروف في إرساله ولا في تسجيعه، إذ هو لا يلتزم الموازين المعهودة في هذا ولا ذاك، ولكنك مع ذلك تقرأ بضع آيات منه فتشعر بتوقيع موزون ينبعث من تتابع آياته، بل يسري في صياغته، وتآلف كلماته، وتجد في تركيب حروفه تنيسقًا عجيبًا يؤلف اجتماعها إلى بعضها لحنًا مطرِبًا يفرض نفسه على صوت القارئ العربي كيفما قرأ، طالما كانت قراءته صحيحة، ومهما طفتَ بنظرك في جوانب كتاب الله تعالى ومختلف سوره وجدته مطبوعًا على هذا النسق العجيب، فمن أجل ذلك تحيَّر العرب في أمره، إذ عرضوه على موازين الشعر فوجدوه غير خاضع لأحكامه، وقارنوه بفنون النثر فوجدوا غير لاحق بالمعهود من طرائفه، فكان أن انتهى الكافرون منهم إلى أنه السحر، واستيقن المنصفون منهم بأنه تنزيل من رب العالمين.
    والمثال الآتي يوضِّح هذه الحقيقة ويجلِّيها، قال تعالى: {حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 1- 6].
    فهذه الآيات بتأليفها العجيب، ونظمها البديع حينما سمعها عتبة بن أبي ربيعة وكان من أساطين البيان فاستولت على أحاسيسه ومشاعره، وطارت بلُبِّه، ووقف في ذهول وحيرة، ثم عبَّر عن حيرته وذهوله بقوله: "والله لقد سمعت من محمد قولاً ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة... والله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعته نبأ عظيم"
    [15].
    وهذه أيضًا سورة من سوره القصار تتجلَّى فيها هذه الحقيقة أمام العيان، من ينكرها فكأنما ينكر الشمس في وضح النهار، يقول تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 1- 15].
    فلتتأمل هذه الآيات وكلماتها، وكيف صيغت هذه الصياغة العجيبة! وكيف تألَّفت كلماتها وتعانقت جملها! وتأمَّلْ هذا النغم الموسيقي العذب الذي ينبع من هذا التآلف البديع، إنه إذا لامس أوتار القلوب.. اهتزَّت له العواطف، وتحرَّكت له المشاعر، وأسال الدموع من العيون، وخرَّت لعظمته جباه أساطين البيان، أشهد أنه النظم الإلهي الذي لا يقدر على مثله مخلوق، وهذه الحقيقة توجد في سائر كتاب الله لا تتخلَّف في سورة من سوره ولا في آياته، ومن أجل ذلك عجز أساطين البيان عن الإتيان بأقصر من مثله.
    وفي هذا يقول الرافعي: "وذلك أمر متحقَّق بعد في القرآن الكريم؛ يقرأ الإنسان طائفة من آياته، فلا يلبث أن يعرف لها صفة من الحسِّ ترافد ما بعدها وتمدُّه، ولا تزال هذه الصفة في لسانه، ولو استوعب القرآن كله، حتى لا يرى آية قد أدخلت الضيم على أختها، أو نكرت منها، أو أبرزتها عن ظلٍّ هي فيه، أو دفعتها عن ماء هي إليه، ولا يرى ذلك إلا سواء وغاية في الروح والنظم والصفة الحسية، ولا يغتمض في هذا إلا كاذب على دخله ونية، ولا يهجن منه إلا أحمق على جهل وغرارة، ولا يمتري فيه إلا عامِّي أو أعجمي، وكذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون"
    [16].
    الخاصَّة الثانية:
    هي أن التعبير القرآني يظلُّ جاريًّا على نسق واحد من السموِّ في جمال اللفظ، وعمق المعنى، ودقَّة الصياغة، وروعة التعبير، رغم تنقُّله بين موضوعات مختلفة من التشريع والقصص والمواعظ والحجاج والوعد والوعيد، وتلك حقيقة شاقَّة، بل لقد ظلَّت مستحيلة على الزمن لدى فحول علماء العربيَّة والبيان.
    وبيان ذلك أن المعنى الذي يراد عرضه، كلما أكثر عمومًا وأغنى أمثلة وخصائص كان التعبير عنه أيسر، وكانت الألفاظ إليه أسرع، وكلما ضاق المعنى وتحدَّد، ودقَّ وتعمق كان التعبير عنه أشقَّ، وكانت الألفاظ من حوله أقلَّ؛ ولذا كان أكثر الميادِينَ الفكريَّة التي يتسابق فيها أرباب الفصاحة والبيان هي ميادين الفخر والحماسة والموعظة والمدح والهجاء، وكانت أقلّ هذه الميادين اهتمامًا منهم، وحركة بهم ميادين الفلسفة والتشريع ومختلَف العلوم، وذلك هو السرُّ في أنه قلمَّا تجد الشعر يقتحم شيئًا من هذه الميادين الخالية الأخرى.
    ومهما رأيت بليغًا كامل البلاغة والبيان، فإنه لا يمكن أن يتصرَّف بين مختلف الموضوعات والمعاني على مستوى واحد من البيان الرفيع الذي يملكه، بل يختلف كلامه حسب اختلاف الموضوعات التي يطرقها، فربما جاء بالغاية ووقف دونها، غير أنك لا تجد هذا التفاوت في كتاب الله تعالى، فأنت تقرأ آيات منه في الوصف، ثم تنتقل إلى آيات أخرى في القصة، وتقرأ بعد ذلك مقطعًا في التشريع وأحكام الحلال والحرام، فلا تجد الصياغة خلال ذلك إلاَّ في أوج رفيع عجيب من الإشراق والبيان، وتنظر فتجد المعاني كلها لاحقة بها شامخة إليها، ودونك فاقرأ ما شئت من هذا الكتاب المبين متنقلاً بين مختلف معانيه، وموضوعاته لتتأكد من صدق ما أقول، ولتلمس برهانه عن تجربة ونظر
    [17].
    يقول الرافعي في معرض حديثة عن أسلوب القرآن: "لا ترى غير صورة واحدة من الكمال، وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام". ويقول في معرض حديثه عن روح التركيب في أسلوب القرآن: "وهذه الروح لم تُعْرَفْ قطُّ في كلام عربي غير القرآن، وبها انفرد نظمه، وخرج مما يطيقه الناس، ولولاها لم يكن بحيث هو، كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين، إذ نراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة وتأليفها، ثم إلى تأليف هذا النظم، فمن هنا تعلَّق بعضه على بعض، وخرج في معنى تلك الروح صفة واحدة هي صفة إعجازه في جملة التركيب"
    [18].
    الخاصَّة الثالثة:
    أن معانيه مُصاغة بحيث يصلح أن يخاطب بها الناس كلهم على اختلاف مداركهم وثقافتهم وعلى تباعد أزمنتهم وبلدانهم، ومع تطوُّر علومهم واكتشافاتهم.
    خُذْ آية من كتاب الله مما يتعلَّق بمعنًى تتفاوت في مدى فهمه العقول، ثم اقرأها على مسامع خليط من الناس يتفاوتون في المدارك والثقافة، فستجد أن الآية تعطي كلاًّ منهم معناها بقدر ما يفهم، وأنَّ كلاًّ منهم يستفيد منها معنًى وراء الذي انتهى عنده علمه، وفي القرآن الكثير من هذا وذاك فلنعرض أمثلة منه:
    من قبيل الأول قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61]، فهذه تصف كلاًّ من الشمس والقمر بمعنيين لهما سطح قريب يفهمه الناس كلهم، ولها عمق يصل إليه المتأمِّلون والعلماء، ولها جذور بعيدة يفهمها الباحثون والمتخصِّصون، والآية تحمل بصياغتها هذه الدرجات الثلاثة للمعنى، فتعطي طاقته وفهمه؛ فالعامِّي من العرب يفهم منها أن كلاًّ من الشمس والقمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، وإنما غاير في التعبير عنه بالنسبة لكل منهما تنويعًا للفظ، وهو معنًى صحيح تدلُّ عليه الآية. والمتأمِّل من علماء العربيَّة يدرك من وراء ذلك أن الآية تدلُّ على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة فلذلك سماها سراجًا، والقمر يبعث بضياءٍ لا حرارة فيه.
    الخاصَّة الرابعة: وهي ظاهرة التكرار:
    وفي القرآن من هذه الظاهرة نوعان؛ أحدهما: تكرار بعض الألفاظ أو الجمل. وثانيهما: تكرار بعض المعاني، كالأقاصيص والأخبار.
    فالنوع الأوَّل: يأتي على وجه التوكيد، ثم ينطوي بعد ذلك على نكت بلاغية كالتهويل، والإنذار، والتجسيم والتصوير، وللتكرار أثر بالغ في تحقيق هذه الأغراض البلاغية في الكلام، ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1- 3]، وقوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر: 26، 27].
    والنوع الثاني: وهو تكرار بعض القصص والأخبار يأتي لتحقيق غرضين مهمَّين؛ الأول: إيصال حقائق ومعاني الوعد والوعيد إلى النفوس بالطريقة التي تألفها، وهي تكرار هذه الحقائق في صور وأشكال مختلفة من التعبير والأسلوب، ولقد أشار القرآن إلى هذا الغرض بقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41].
    الثاني: إخراج المعنى الواحد في قوالبَ مختلفة من الألفاظ والعبارات، وبأساليب مختلفة تفصيلاً وإجمالاً، الكلام في ذلك حتى يتجلى إعجازه، ويستبين قصور الطاقة البشريَّة عن تقليده أو اللحاق بشَأْوِهِ؛ إذ من المعلوم أن هذا الكتاب إنما تنزل لإقناع العقلاء من الناس بأنه ليس كلام بشر، ولإلزامهم بالشريعة التي فيه، فلا بُدَّ فيه من الوسائل التي تفي بتحقيق الوسيلة إلى كلا الأمرين.
    ومن هنا كان من المحال أن تعثر في القرآن كلِّه على معنًى يتكرَّر في أسلوب واحد من اللفظ، ويدور ضمن قالب واحد من التعبير، بل لا بُدَّ أن تجده في كل مرَّة يلبس ثوبًا جديدًا من الأسلوب، وطريقة التصوير والعرض، بل لا بُدَّ أن تجد التركيز في كل مرَّة منها على جانب معيَّن من جوانب المعنى أو القصة، ولنضرب لك مثالاً على هذا الذي نقول بقصة موسى u؛ إذ إنها أشدُّ القصص في القرآن تكرارًا، فهي من هذه الوجهة تُعطِي فكرة كاملة على هذا التكرار.
    وردت هذه القصة في حوالي ثلاثين موضعًا، ولكنها في كل موضع تلبس أسلوبًا جديدًا وتخرج إخراجًا جديدًا يناسب السياق الذي وردت فيه، وتهدف إلى هدف خاصٍّ لم يُذْكَرْ في مكان آخر، حتى لكأننا أمام قصة جديدة لم نسمع بها من قبل
    .
    الخاصَّة الخامسة:
    وهي تداخل أبحاثه ومواضيعه في معظم الأحيان، فإنَّ من يقرأ هذا الكتاب المبين لا يجد فيه ما يجده في عامَّة المؤلفات والكتب الأخرى من التنسيق والتبويب حسب المواضيع، وتصنيف البحوث مستقلَّة عن بعضها، وإنما يجد عامَّة مواضيعه وأبحاثه لاحقة ببعضها بلا فاصل بينهما، وقد يجدها متداخلة في بعضها في كثير من السور والآيات.
    والحقيقة أن هذه الخاصة في القرآن الكريم، إنما هي مظهر من مظاهر تفرُّده، واستقلاله عن كلِّ ما هو مألوف ومعروف من طرائق البحث والتأليف.
    المظهر الثاني: المفردة القرآنيَّة:
    فإذا تأملت في الكلمات التي تتألف منها الجمل القرآنيَّة رأيتها تمتاز بميزات ثلاثة رئيسية هي:
    1- جمال وقعها في السمع.
    2- اتساقها الكامل مع المعنى.
    3- اتساع دلالتها لما لا تتَّسع له -عادةً- دلالات الكلمات الأخرى من المعاني والمدلولات.
    وقد نجد في تعابير بعض الأدباء والبلغاء كالجاحظ والمتنبي كلمات تتصف ببعض هذه الميزات الثلاثة، أمَّا أن تجتمع كلها معًا وبصورة مطردة لا تتخلَّف أو تشذُّ فذلك ممَّا لم يتوافر إلاَّ في القرآن الكريم. وإليك بعض الأمثلة القرآنيَّة التي توضِّح هذه الظاهرة وتجلِّيها:
    انظر إلى قوله تعالى في وصف كلٍّ من الليل والصبح: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17، 18]. ألا تشم رائحة المعنى واضحًا من كل هاتين الكلمتين: عَسْعَسَ، وتَنَفَّسَ؟ ألا تشعر أن الكلمة تبعث في خيالك صورة المعنى محسوسًا مجسَّمًا دون حاجة للرجوع إلى قواميس اللغة؟ وهل في مقدورك أنْ تُصَوِّر إقبال الليل، وتمدُّده في الآفاق المترامية بكلمة أدقَّ وأدلَّ من "عَسْعَسَ"؟ وهل تستطيع أن تُصَوِّر انفلات الضحى من مخبأ الليل وسجنه بكلمة أروع من "تَنَفَّسَ"؟
    اقرأ أيضًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38]، وادرس الأداء الفني الذي قامت به لفظة "اثَّاقَلْتُمْ" بكل ما تكوَّنت به من حروف، ومن صورة ترتيب هذه الحروف، ومن حركة التشديد على الحرف اللثوي "الثاء" والمدّ بعده، ثم مجيء القاف الذي هو أحد حروف القلقلة، ثم التاء المهموسة، والميم التي تنطبق عليها الشفتان، ويخرج صوتها من الأنف، ألاَ تجد نظام الحروف، وصورة أداء الكلمة ذاتها أوحت إليك بالمعنى، قبل أن يَرِدَ عليك المعنى من جهة المعاجم؟ ألا تلحظ في خيالك ذلك الجسم المثَّاقِل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط في أيديهم في ثقل؟ ألاَّ تحسُّ أنَّ البطء في تلفُّظ الكلمة ذاتها يوحي بالحركة البطيئة التي تكون من المثاقل؟
    جرِّب أن تبدِّل المفردة القرآنيَّة، وتُحِلّ محلها لفظة "تثاقلتم" ألاَّ تحسُّ أن شيئًا من الخفَّة والسرعة، بل والنشاط أوحت به "تثاقلتم" بسبب رصف حروفها، وزوال الشدَّة، وسبق التاء قبل الثاء؟
    إذن فالبلاغة تتمُّ في استعمال "اثَّاقَلْتُمْ" للمعنى المراد، ولا تكون في "تثاقلتم".
    المظهر الثالث: الجملة القرآنيَّة وصياغتها:
    فدراسة الجملة القرآنيَّة تتَّصل اتِّصالاً مباشرًا بدراسة المفردة القرآنيَّة؛ لأن هذه أساس الجملة ومنها تركيبها، وإذا كان علماء البلاغة يجعلون البلاغة درجات، فإنهم مُقِرُّون دون جدل أن صياغة العبارة القرآنيَّة في الطرف الأعلى من البلاغة الذي هو الإعجاز ذاته، وللإعجاز فيها وجوه كثيرة.
    فمنها: ما تجده من التلاؤم والاتساق الكاملين بين كلماتها، وبين ملاحق حركاتها، وسكناتها، فالجملة في القرآن تجدها دائمًا مؤلَّفة من كلمات وحروف، وأصوات يستريح لتألُّفها السمع والصوت والمنطق، ويتكوَّن من تضامِّها نسق جميل ينطوي على إيقاع رائع، ما كان لِيَتِمَّ لو نقصت من الجملة كلمة أو حرف أو اختلف ترتيب ما بينها بشكل من الأشكال.
    اقرأ قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11، 12]. وتأمَّل تناسق الكلمات في كل جملة منها، ثم دقِّق نظرك، وتأمَّل تآلف الحروف الرخوة مع الشديدة، والمهموسة مع المجهورة وغيرها، ثم تمعَّن في تأليف وتعاطف الحركات والسكنات والمدود اللاحقة ببعضها، فإنك إذا تأملت في ذلك، علمت أن هذا الجملة القرآنيَّة إنما صُبَّتْ من الكلمات والحروف والحركات في مقدار، وأن ذلك إنما قُدِّرَ تقديرًا بعلم اللطيف الخبير، وهيهات للمقاييس البشريَّة أن تضبط الكلام بهذه القوالب الدقيقة.
    ومنها: أنك تجد الجملة القرآنيَّة تدلُّ بأقصر عبارة على أوسع معنى تامٍّ متكامل لا يكاد الإنسان يستطيع التعبير عنه إلاَّ بأسطر وجمل كثيرة، دون أن تجد فيه اختصارًا مخلاًّ، أو ضعفًا في الأدلَّة، اقرأ قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ثمَّ تأمَّل كيف جمع الله بهذا الكلام كلَّ خلق عظيم؛ لأن في أخذ العفو صلة القاطعين والصفح عن الظالمين.
    واقرأ قوله تعالى مخاطبًا آدم : {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} [طه: 118، 119]، ثم تأمَّلْ كيف جمع الله بهذا الكلام أصول معايش الإنسان كلها من طعام وشراب وملبس، ومأوى!!
    واقرأ قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، وتأمَّل كيف جمعت هذه الآية الكريمة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين! أمَّا الأمرين فَهُمَا: "أَرْضِعِيهِ"، و"أَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ"، وأمَّا النهيان فهما: "لا تَخَافِي"، و"لا تَحْزَنِي"، وأمَّا الخبران فهما: "أَوْحَيْنَا" و"خِفْتِ"، وأما البشارتان فهما: "إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ" و"جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ".
    وتأمَّل سورة الكوثر وهي أقصر سورة في القرآن؛ إذ هي ثلاثة آيات قصار، كيف تضمَّنت -على قلَّة آياتها- الأخبار عن مُغَيَّبَيْن: أحدهما: الإخبار عن الكوثر -نهر في الجنة- وعظمته وسعته وكثرة أوانيه، والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وكان عند نزولها ذا مال وولد، ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده، وانقطع نسله.
    ومنها: إخراج المعنى المجرَّد في مظهر الأمر المحسوس الملموس، ثم بثِّ الرُّوح والحركة في هذا المظهر نفسه، ومكمنُ الإعجاز في ذلك أنَّ الألفاظ ليست إلاَّ حروفًا جامدة ذات دلالة لُغويَّة على ما أُنِيط بها من المعاني، فمن العسير جدًّا أن تصبح هذه الألفاظ وسيلة لصبِّ المعاني الفكريَّة المجرَّدة في قوالب من الشخوص والأجرام والمحسوسات، تتحرَّك في داخل الخيال كأنها قصة تمرُّ أحداثها على مسرح يفيض بالحياة والحركة المشاهدة الملموسة
    .
    استمع} إلى القرآن الكريم وهو يُصَوِّر لك قيام الكون على أساس من النظام الرتيب والتنسيق البديع الذي لا يتخلَّف، ولا يلحقه الفساد، فيقول: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. إنه يُصَوِّر لك هذا المعنى في مظهر من الحركة المحسوسة الدائرة بين عينيك، وكأنك أمام آلات تتحرك بسرعة دائبة في نظام مستمرٍّ يعيها ويُصَوِّرها الشعور والخيال.
    هذا، وقد اعترف نصارى العصر الحديث بعظمة القرآن، وسجَّلوا في ذلك شهاداتهم التي تنطق بالحقِّ؛ فها هو ذا الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي، بعد أن كلفته وزارتا الخارجيَّة والمعارف الفرنسيَّة بترجمة اثنين وستِّين سورة من السور الطوال التي لا تكرار فيها، ففعل، ثم اعترف بعظمة القرآن الكريم، وقال في مقدمة ترجمته الصادرة 1926م: "أمَّا أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جلَّ وعلا؛ فإن الأسلوب الذي ينطوي على كُنْهِ الخالق الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلاَّ إلهًا، والحقُّ الواقع أن أكثر الكُتَّاب شكًّا وارتيابًا قد خضعوا لسلطان تأثيره"
    [19].
    [14] في مظاهر إعجاز النظم في القرآن الكريم انظر محمود شيخون: إعجاز النظم في القرآن الكريم، والمحمدي عبد العزيز الحناوي: دراسات حول الإعجاز البياني في القرآن، وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ): إعجاز القرآن البياني.
    [15] ابن هشام: السيرة النبوية 2/131.
    [16] مصطفى صادق الرافعي: إعجاز القرآن ص275.
    [17] انظر البوطي: روائع القرآن.
    [18] إعجاز القرآن ص274، وتاريخ الأدب العربي ص241.
    [19] نقلاً عن: الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم، جمع وإعداد علي بن نايف الشحود، ص1015.
    الإعجاز النفسي
    يفتح القرآن الكريم للمؤمن آفاقًا بعيدة لاستشراف الحقِّ والخير، إذا سلك العبد سبيل الهداية ومجاهدة النفس، بإلزامها بالمعروف وتجنيبها للمنكر؛ فقد عَلَّم اللهُ تعالى عباده المؤمنين أن يدرسوا أنفسهم، ويحللوا دوافع سلوكهم، ويتبصروا في خطوات النفس، ويستشرفوا نوايا أعمالها، وكانت آيات القرآن الكريم، تتابع في رسم منحنيات النفس، ومكامن القوَّة ومواطن الضعف فيها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ولمَّا كانت الخواطر التي تبعث على ارتكاب الجريمة تبدأ بتسويل من النفس لتطويع المجرم، قال تعالى على لسان يوسف u: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
    والمتأمِّل في قصة يوسف u يجد تحليلاً دقيقًا لكوامن الغَيْرَة والحسد في نفوس إخوة يوسف، ويجد عواطف الأبوة والرحمة والحبِّ والأمل بالله وعدم اليأس من روحه في نفس يعقوب، ويجد تحليلاً لشخصيَّة بعض النساء ممن ينتمين لطبقة الحكَّام في مصر في ذاك الوقت، ويُعَدِّد القرآن الكريم مجموعة من القصص الكثيرة التي تكشف عن دوافع النفس الأمَّارة، ولعلَّ أوَّل قصة في التاريخ الإنساني تبرز فيها النفس الأمَّارة، قصة هابيل وقابيل ابني آدم، فقال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ المائدة: 30].
    ومِن ثَمَّ فالقرآن في تعريف الإنسان بذاته يرتكز على الصراحة والحقِّ، فيكشف عن جوانب سلبيَّة كما يكشف عن جوانب إيجابيَّة، ويوضِّح أنَّ جوانب السلب والإيجاب تتعايش داخل النفس، وقد يطغى جانب على آخر ويطغى بقوَّته عليه، ويبقى الجانب الآخر في أغوار الإنسان، فقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]، ووضح أنَّ الطغيان يجرُّ الإنسان إلى الكفر والرغبة في الاستغناء عن الله، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وكَاشَفَ القرآنُ الإنسانَ بحقيقة وجوده، ومصدر متاعبه وصِرَاعاته في هذه الحياة، وأنه مخلوق للمكابدة والتعب والنَّصَب، فقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد : 4]؛ فالدنيا دار ابتلاء وتمحيص
    [20].
    والقرآن يملك على الإنسان نفسه بالوسيلة الوحيدة التي تقهر تفوُّقه في الجدل، أي بتقديم الدليل المفحم لكل شبهة، وتسليط البرهان القاهر على كلِّ حجة؛ لذا فقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]؛ فالنكوص عن الإيمان بعد قراءة القرآن يُعْتَبَرُ كفرًا عن تجاهلٍ لا عن جهل، ومن تقصير لا عن قصور، وأسلوب القرآن في إخراج الجدل من النفوس، واستلال الجفوة من الناس، وإلقائه الصواب في الفكر أَوْفَى على الغاية في هذا المضمار؛ فحديث القرآن للسامعين يمزج بين إيقاظ العقل والضمير معًا، وكما استطاع القرآن الكريم أنْ ينزع الجدل من الإنسان، استطاع كذلك أنْ يتغلَّب على مشاعر الملل فيه، وأمدَّه بنشاط لا ينفد؛ فالجدل غير الملل، فهذا تحرُّك ذهني قد يُجسِّد الأوهام، ويحوِّلها إلى حقائق، وذلك موات عاطفي قد يجمِّد المشاعر، فما تكاد تتأثَّر بأخطر الحقائق.
    والقرآن الكريم في تحدُّثه للنفس الإنسانيَّة حارب هذا الملل، وأقصاه عنها إقصاءً، وعمل على تجديد حياتها بين الحين والآخر، حتى إنه ليمكِّنها أن تستقبل في كلِّ يوم ميلادًا جديدًا، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، وإحداث الذكر هو تجديد معنويات الإنسان كلما صَدِئَتْ على طُولِ التعب ومسِّ الذهول؛ فالقرآن يخترق أسوار الغفلة، ويصل إلى صميم القلب، ثم يوقفه راغبًا أو راهبًا بإزاء ما يريد، والشعور بالرغبة والرهبة والرقَّة، يغمر الإنسان حينما يستمع لقصص الآخرين، ثم يتبعها فيض من المواعظ والحِكَمِ والمعاني والعبر تقشعرُّ منه الجلود
    [21].
    ولا ريب أن القرآن الكريم يرتفع عن الفلسفات الأخلاقيَّة النابعة عن بعض أولئك الذين يَرَوْنَ الأخلاق من منظور ضيِّق، أو نفعي، أو قطري؛ إنه يربي النفس البشرية بكافة توجُّهاتها وتطلُّعاتها وانتماءاتها، فلا يتوقَّف عند منظور قوم بعينهم، فمعيار مهمٌّ من معاييره أن يرتقي بالنفس البشريَّة ارتقاءً أخلاقيًّا يتوافق مع ما أُعدَّت له من إعمار الأرض، فلن يُكوِّن الإنسان حضارة قويَّة مستمرَّة إلاَّ إذا كانت قاعدتها نفسًا إنسانيَّة قويمة!
    على أنَّ ثمة إعجاز آخر للقرآن في النفس البشريَّة السويَّة، يكمن في هدايتها للحقِّ وطريق الخير، ودونما كثير توضيح أو تعليل، وإنْ كان صاحبها من أشدِّ الناس عداوة للإسلام
    .
    وقد كان من أوضح الأمثلة على ذلك ما تجسَّد في قصَّة إسلام عمر بن الخطاب حيث جاء متوشِّحًا سيفه ليقتل رسول الإسلام ، وما إن سمع بعض آيات القرآن الكريم حتى استسلم لها، فألقى سلاحه مصدِّقًا ومبايعًا، عن يقين بأنَّ هذه الكلمات ليست من قول البشر.
    ففي قصة إسلامه يروي ابن إسحاق أنَّ عمر خرج يومًا متوشِّحًا سيفه يُريد رسول الله ورهطًا من أصحابه، قد ذُكِرُوا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، فلقيه نعيم بن عبد الله، وكان قد أسلم وأخفى إسلامه، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرَّق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسبَّ آلهتها، فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرَّتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: أختك فاطمة وزوجها سعيد بن زيد، فقد -والله- أسلما وتابعا محمدًا على دينه فعليك بهما.
    وكانت فاطمة بنت الخطاب أخت عمر قد أسلمت هي وزوجها سعيد، وأخفيا إسلامهما عن عمر، وكان خبَّاب بن الأرتِّ يختلف إليهما يقرئهما القرآن.
    فرجع عمر عامدًا إلى أخته وزوجها، وكان عندهما خبَّاب بن الأرتِّ ومعه صحيفة فيها: "طه" يقرئهما إيَّاها، فلمَّا سمعوا حسَّ عُمَرَ تَغَيَّب خبَّاب في مخدع لهم، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فَخِذَها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خبَّاب عليهما، فلمَّا دخل قال: ما هذه الهَيْنَمَة التي سمعتُ؟ قالا له: ما سمعتَ شيئًا. قال: بلى، والله لقد أُخْبِرْتُ أنكما تابعتما محمدًا على دينه. وبطش بخَتَنِه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتَكُفَّه عن زوجها، فضربها فشجَّها، فلمَّا فعل ذلك قالت له أخته وخَتَنه: نعم، لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. وهنا قال عمر لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا؛ أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فلم تُعْطِهِ إيَّاها حتى اغتسل، فقرأ صدرًا منها وفيه: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلاَ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1 – 8].
    فقال عمر: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!! وانطلق من فوره إلى البيت الذي اجتمع فيه المصطفى بأصحابه، فبايعه، وأعزَّ الله الإسلام بعمر، وقد كان من أشدِّ قريش عداوة للإسلام وحربًا للرسول
    [22].
    ومثل ذلك أيضًا ما حدث بعد بيعة العقبة، حيث ندب الرسول r صاحبه مصعب بن عمير ليذهب مع أصحاب العقبة إلى المدينة، ليُقرئهم القرآن ويُعَلِّمهم الإسلام، فنزل هناك على أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي، فحدث أن خرجا يومًا إلى حيِّ بني عبد الأشهل رجاءً في أن يسلم بعض القوم، فما سمع كبيرا الحي: سعد بن معاذ وأُسَيْد بن حُضَيْر بقدوم مصعب وأسعد، ضاقا بهما وأنكرا موضعهما من الحيِّ، قال سعد بن معاذ لصاحبه أسيد بن حضير: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين فازجرهما وانْهَهُمَا عن أنْ يأتيا دارينا؛ فإنه لولا أنَّ أسعد بن زرارة مِنِّي حيث عَلِمْتَ، كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدمًا.
    فما كان من أسيد بن حضير إلاَّ أن التقط حربته ومضى إلى صاحبي رسول الله فزجرهما متواعدًا: ما جاء بكما إلينا تُسَفِّهَان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بنفسيكما حاجة
    .
    فقال له مصعب بن عمير: أَوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قَبِلْتَهُ، وإنْ كرهته كُفَّ عنك ما تكره؟
    فرَكَزَ أُسَيْد حربته واتَّكأ عليها يُصغي إلى ما يتلو مصعبٌ من القرآن، وما هي إلاَّ بُرهة حتى أعلن إسلامه بعد قوله: "ما أحسن هذا وأجمله"!!
    بل إنه عاد إلى سعد بن معاذ، وما زال به حتى صحبه إلى ابن خالته أسعد بن زرارة، فبادره سعد سائلاً في غضب وإنكار: يا أبا أُمَامَة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا منِّي، أتغشانا في دارنا بما نَكْرَهُ؟!
    ولم يُجِبْ أبو أمامة، بل أشار على صاحبه مصعب الذي استهلَّ سعد بن معاذ حتى يسمع منه، ثم تلا آيات من معجزة المصطفى، نفذت إلى قلب ابن معاذ فمزّقت عنه حُجُب الغفلة وغشاوة الضلال، وأعلن هو الآخر إسلامه.
    بل إنه أيضًا لم يكتفِ بذلك، وإنما عاد إلى قومه فسألهم: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ أجابوا جميعًا: سيِّدنا، وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة
    .
    فقال لهم: فإنَّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى في حيِّ بني عبد الأشهل رجل أو امرأة إلاَّ أسلم
    [23]!
    وفي الصحيحين عن جبير بن مُطْعِمٍ، قال: سمعت رسول الله يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا -أو قال: قراءة- منه. وفي بعض ألفاظه: فلمَّا سمعته قرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] خلتُ أن فؤادي قد انصدع
    [24]. وكان جبير -لمَّا سمع هذا بعدُ- مشركًا على دين قومه، وقد علَّق ابن كثير على ذلك فقال: "وناهيك بمن تؤثِّر قراءته في المشرك المصرِّ على الكفر"[25]!
    فهل فَرَضَ القرآنُ إعجازه على نفوس هؤلاء لتَتَغَيَّر من النقيض إلى النقيض، فتستنير بصائرهم فيؤمنوا بمعجزة المصطفى بمجرَّد سماعهم آيات منها، دون غيرهم ممن لجُّوا في العناد والتكذيب؟
    والحقيقة أن القرآن لم يفرض إعجازه في النفس على هؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان به فحسب، بل فرضه كذلك على مَنْ ظلُّوا على سفههم وشركهم، عنادًا وتمسُّكًا بدين الآباء، ونضالاً عن أوضاع دينيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة لم يكونوا يريدون لها أن تتغيَّر، وسنشير في نهاية هذا المبحث كيف أنَّ مِن طواغيت قريش وصناديد الوثنيَّة العتاة مَن كانوا يتسلَّلون في أوائل عصر المبعث خفية عن قومهم ليسمعوا آيات هذا القرآن دون أن يملكوا إرادتهم!!
    [20] أكرم العمري: الرسالة والرسول ص51-54.
    [21] محمد الغزالي: نظرات في القرآن ص104-110.
    [22] ابن هشام: السيرة النبوية 2/187-190.
    [23] ابن هشام: السيرة النبوية 2/283.
    [24] البخاري: كتاب التفسير (68)، باب تفسير سورة "والطور" (4573)، ومسلم: كتاب الصلاة (4)، باب القراءة في الصبح (463).
    [25] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/63.
    الإعجاز التشريعي
    اشتمل القرآن على لون آخر من الإعجاز، يمكن تحدِّي الأمم جميعًا به، وإن لم يعرفوا العربيَّة؛ لأنه يتعلَّق بمحتواه ومضمونه، وهو الإعجاز الإصلاحي أو التشريعي، الذي تضمَّن أعظم التعاليم، وأقوم المناهج؛ لهداية البشريَّة إلى التي هي أقوم، في تزكية الفرد، وإسعاد الأسرة، وتوجيه المجتمع، وبناء الدولة، وإقامة العَلاقات الدُّوَلِيَّة على أمتن الدعائم[26].
    ومن المعلوم أن القرآن الكريم المصدر الأوَّل من مصادر الشريعة الإسلاميَّة، ونصوص القرآن الكريم جميعها قطعيَّة في ورودها وثبوتها ونقلها عن الرسول إلينا، وقد تناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدوَّن، وتلقِّيًا من الحفَّاظ أجيالاً عن أجيال في عدَّة قرون، وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ منذ أربعةَ عَشَرَ قرنًا.
    وقد جاء القرآن الكريم بتقرير المزايا العامَّة للإسلام من التكاليف الشخصيَّة من حيث الواجبات والمحظورات على النحو التالي:
    1- أن الإسلام دين وسط جامع لحقوق الرُّوح والجسد، ومصالح الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
    2- كون غايته الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة بتزكية النفس بالإيمان الصحيح، ومعرفة الله والعمل الصالح، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، لا بمجرَّد الاعتقاد والاتِّكال، ولا بالشفاعات وخوارق الأعمال، وهو ما يدلل ربط القرآن الكريم بين الإيمان والعمل في ندائه للمؤمنين.
    3- كونه يسرًا لا حَرَجَ فيه، ولا عسر ولا إرهاق ولا إعنات، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. ومن فروع هذا الأصل أن الواجب الذي يشقُّ على المكلَّف أداؤه، ويحرجه، يسقط عنه إلى بدل أو مطلقًا كالمريض الذي يُرْجَى برؤه والذي لا يرجى برؤه، ومثله الشيخ الهرم، فالأوَّل يسقط عنه الصيام ويقضيه كالمسافر، والثاني لا يقضي بل يُكَفِّر بإطعام مسكين فديةً عن كلِّ يوم إذا قدر.
    4- منع الغلوّ في الدين، وإبطال جعله تعذيبًا للنفس بإباحة الطيبات والزينة بدون إسراف، ولا كبرياء، فقال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-33]، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77]، فنهى عن الغلوِّ في العبادة وعن ترك الطيبات وعن الرهبانيَّة.
    5- انقسام التكليف إلى عزائم ورُخَصٍ، وكان ابن عباس يرجِّح جانب الرخص، وابن عمر يرجح العزائم، والناس درجات في التقصير والتشمير والاعتدال، فيوافق البدوي الساذج، والفيلسوف الحكيم، وما بينهما من الطبقات، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32].
    6- راعى القرآن الكريم درجات البشر في العقل والفهم وعلوِّ الهمَّة وضعفها، فالقطعي منها هو العامُّ، وغير القطعي تتفاوت فيه الأفهام، فيأخذ كلُّ أحد منه بما أدَّاه إليه اجتهاده، كما فعل عندما نزلت آية البقرة في الخمر والميسر الدالَّة على تحريمهما، دلالة ظنِّيَّة فتركها بعضهم دون بعض، وأقرَّ كلاًّ على اجتهاده إلى أن نزلت آيتا المائدة بالتحريم القطعي؛ لذا قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، فالفرائض الدينيَّة العامَّة، والمحرَّمات الدينيَّة العامَّة لا يثبتان إلاَّ بنصٍّ قطعي يفهمه كلُّ أحد، والأوَّل مذهب الحنفيَّة، والثاني وهو التحريم مذهب السلف، والآيات الظنِّيَّة الدلالة فهي موكولة إلى اجتهاد من تثبت عنده في العبادات والأعمال الشخصيَّة، وإلى اجتهاد أولي الأمر في الأحكام القضائيَّة والأمور السياسيَّة.
    7- أن القرآن الكريم يُرْسِي مبدأ معاملة الناس بظواهرهم وجعل البواطن موكولة إلى الله تعالى، فليس لأحدٍ من الحكَّام ولا الرؤساء الرسميين ولا لخليفة المسلمين أن يُعاقب أحدًا ولا أن يُحاسبه على ما يُضمر في قلبه أو يعتقد، وإنما العقوبات على المخالفات العمليَّة المتعلِّقة بحقوق الناس ومصالحهم.
    8- أن مدار العبادات كلها على اتباع ما جاء به النبي في الظاهر؛ فليس لأحد فيها رأي شخصي ولا رياسة، ومدارها في الباطن على الإخلاص لله تعالى وصحَّة النيَّة.
    وكل واحدة من النقاط السابقة جديرة بأن تُجعل مقصدًا خاصًّا من مقاصد الوحي، ويُستدلُّ بها على أنه من الله تعالى، قرآنًا معجزًا في أحكامه التشريعيَّة جالبًا مصالح العباد معه
    [27].
    هذا، وإن إعجاز تشريع القرآن الكريم لم يتوقَّف عند الأحوال والنواحي الشخصيَّة فقط، وإنما تعدَّى ذلك إلى السياسة بمفهومها الإسلامي العامِّ، فالحكم الإسلامي للأئمة، متَّخذًا مبدأ الشورى تُكَأَة في تنفيذه، والإمام الأعظم، أو الخليفة منفِّذ لشرع الله تعالى في الأرض، فقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى} [الشورى: 38]، وبيَّن الإسلام أن هناك طائفة لا يمكن الفكاك منها، بل واجب على الخليفة أن يستشيرهم، وهم أولو الأمر، أو أهل الحلِّ والعقد والرأي الحصيف، في مصالحها الذين تثق بهم الأُمَّة، وتتبعهم فيما يُقَرِّرُونه، حيث قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83]؛ فقاعدة أهل الحلِّ والعقد هي أعظم إصلاح سياسي للبشر قرَّرها القرآن في عصر كانت فيه جميع الأمم مرهقة بحكومات استبداديَّة استعبدتها في أمور دينها ودُنْيَاها، وكان أوَّل منفذٍ لها رسول الله r فلم يكن يقطع أمرًا من أمور السياسة والإدارة العامَّة للأُمَّة إلا باستشارة أهل الرأي والمكانة في الأُمَّة؛ ليكون قدوةً لمن بعده.
    ثم لم يُهمل القرآن الكريم الإرشاد إلى الإصلاح المالي، فأوضح القرآن في مجموعة من القواعد المرشدة أن المال في حقيقته فتنة للبشر، واختبار لهم في حياتهم الدنيويَّة، فهو الوسيلة القويَّة إلى الإصلاح والإفساد، والخير والشر، والبرِّ والفجور، فقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} [آل عمران: 186]، فأوضح الله تعالى السبل الرشيدة في إنفاق المال، فمن الآيات ما أوضحت ارتباط السعادة والفلاح بإنفاق المال، والشقاء بمنعه، ما هو للترهيب وما هو للترغيب، وجمع بين الترغيب والترهيب، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، فمَنْعُ إنفاقِ المال سبيلٌ من سُبُل التهلكة، ثم ذمَّ الله تعالى طغيان المال وغروره وصدّه عن الحقِّ والخير، وقد قال تعالى حكاية عن أبي لهب -لعنه الله-: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1-3]. وكان أبو جهل وأبو لهب وغيرهما من أغنياء قريش الذين عادَوُا النبي r واستكبروا عن اتباعه، واستخدموا المال في الصدِّ عن سبيل الله، لكنَّ الله تعالى بَيَّنَ لهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]
    [28].
    ولم يتوقَّف القرآن عند الجانب النظري في محاربة الأمراض المتعلِّقة بالمال، وإنما تعدَّى ذلك للجانب العملي، فقد أشار القرآن الكريم إلى وجوب الزكاة وهي تُطلق على الحصَّة المقدَّرة من المال التي فرضها الله للمستحقِّين، كما تطلق على نفس إخراج هذه الحصَّة، وسمِّيت زكاة؛ لأنها تَزيد في المال الذي أُخرجت منه، وتوفره في المعنى، فنفس المتَصَدِّق بهذا العمل تزكو، وماله يزكو، ويزيد في المعنى
    [29].
    وجاءت كتب الفقه الإسلامي مليئة بالمباحث التشريعية المتعلِّقة بالزكاة والصدقة، والأقوال الاجتهاديَّة المبيِّنة لذلك، ولعلَّ أكبر دليل على أهمِّيَّة الزكاة هو ورودها في القرآن الكريم اثنين وثلاثين مرَّة، اقترنت بالصلاة في سبع وعشرين موضعًا منها، ومن السور القرآنية التي تبين مدى عناية الله بالزكاة سورة التوبة، فقد بَيَّن مطلع السورة الكريمة في قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
    ولعلَّ ممَّا سبق ذكره يستنبط الدارس أنَّ القرآن الكريم جاء بمعجزة أخرى تضبط أحوال البشر، وتنير لهم طريق معاملاتهم واحتياجاتهم، وإن لم نَخُضْ فيها كثيرًا؛ لتشعُّبها وكثرة تفريعاتها، وتعلُّقها بكلِّ صغيرة وكبيرة للإنسان، أَلاَ وهي معجزة القرآن الكريم في التشريع الذي أضحى بشموله وكماله وسموِّه نموذجًا يستحيل رؤيته في شريعة أخرى.
    [26] انظر: القرضاوي: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص36.
    [27] محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي ص283-287.
    [28] محمد رشيد رضا : الوحي المحمدي 299-305.
    [29] انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 25/8.
    الإعجاز التاريخي
    اهتمَّ القرآن الكريم بسرد تاريخ الأمم السابقة، إمعانًا في عجزه لمن يريدون تحديه، فالقرآن الكريم يُخبر عن حيوات أناس عاشوا من آلاف السنين بصورة موثَّقة من ربِّ السموات والأرض الذي يسمع ويرى كل شيء ، ومهما بلغ المؤرِّخون من الوصول للأدلَّة المادِّيَّة والمعنويَّة على تاريخ بعينه، فإنهم لن يصلوا إلى الدقَّة الكاملة التي صوَّر الله بها تعالى أحوال الأمم السابقة، وما طرأ عليهم من نعيم أو عذاب، ومِنْ تقدُّم حضاري أو خسف من عند الله تعالى، وقد نوَّع القرآن الكريم عرض تاريخ الأمم السابقة وسمَّاها قصصًا، منوِّهًا للناحية النفسيَّة التي تتملَّك القارئ أو السامع لقصَّة من القصص، وموضِّحًا أن الحكمة من هذه القصص أكبر أثرًا، وأشمل حكمة من مجرَّد التسلية، وملء الفراغ؛ لذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
    فالإعجاز التاريخي ما ذكره السيوطي وهو: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيَّبات وما لم يكن، فوجد كما ورد وما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة ممَّا كان لا يُعْلَمُ منه القصَّة الواحدة إلاَّ الفذّ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلُّم ذلك، فيورده على وجهه، ويأتي به على نصِّه، وهو أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب
    [30].
    فالإنسان هو الإنسان من مائة قرن خَلَتْ إلى مائة قرن يلدها المستقبل المنظور أو أكثر، لن تتغيَّر طبيعته، ولن يتبدَّل جوهره؛ فقد يتغيَّر تعبيره عمَّا يهوى، وقد تتبدَّل مظاهر إشباعه لما يُريد، ولكنه هو هو، لذلك فقد حفظ القرآن قصص الأوَّلين مع أنبيائهم، وجدَّد على الناس ذكرها بعد ما طوت الليالي أصحابها؛ ليداوي بها عللاً متشابهة، وقد كثرت القصص لتحصي جملة كبيرة من الأمراض الاجتماعيَّة، وتستأصل جرثومتها بصنوف العبر وشتَّى النذر؛ إنَّ الحضارات المندثرة كجثث الموتى قد يُشَرِّحُها مِبْضَع الطبيب ليتعرَّف أسباب هلاكها، وليضيف بهذه المعرفة حصانة جديدة إلى علم الطبِّ، تتوقَّى بها الإنسانيَّة ما تجهل من متاعب وآلام، والمجتمعات التي طواها الماضي وهمدت تحت الثرى يجب إذا نضبت الحياة منها أن نتعرَّف كيف عاشت؟ وكيف تصادقت وتخاصمت؟ وهل تلاقت على جدٍّ أو مجون، واستجابت للحق أو للباطل؟ فالقرآن وهو يحكي أنباء الأوَّلين، يحوِّلها إلى دواء سائل عامٍّ، ثم يسكب من قطراته على نفوس المعاندين، يبغي شفاءها دون نظر إلى تراخي القرون واختلاف المخاطبين؛ فتشابُه الأحوال، واستواء المواقف، هو الذي سوَّغ هذه النقلة البعيدة، وجعل العبرة تنقذف من خلال هذا القصص المطَّرد، ثم ترجع حلقات الرواية لتتماسك من جديد، وتقرع الأسماع بقصَّة نوح، فتترك محمدًا وقومه في تأمُّل مستمرٍّ، وحينما يصل القارئ إلى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36]، يعلم أنَّ أمر الانتفاع بهذه القصَّة هو ممَّا يصل الماضي بالحاضر؛ لذا قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]. فهذا التاريخ المحكم في قصَّة من جملة قصص القرآن الكريم تُدَلِّل على أنَّ القرآن الكريم معجز في توثيقه التاريخي، ويُبنى عليها فائدة تقوم على تأديب النفوس، وسياسة الجماعات، والمحاورات النابضة التي أثبتها هي معالم خالدة؛ لضبط الحقيقة، وتوليد العبرة منها
    [31].
    ومن الأمثلة الواضحة على وجود الإعجاز التاريخي في القرآن ذِكْرُ اسم هامان في القرآن الكريم متَّصلاً باسم فرعون موسى وكشخصٍ من المقرَّبين إليه، قال تعالى على لسان فرعون: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]. وتُخَالِف صورة هامان في القرآن الكريم الصورة التي ظهر بها في أحد كتب العهد القديم (كتب اليهود المقدسة)، حيث ظهر كمساعد لملك بابل (في العراق)، وأوقع الضرر الكبير بالإسرائيليين، وقد حدث هذا بعد سيدنا موسى بحوالي ألف ومائة سنة. وقد أثبتت الاكتشافات الفرعونية صحَّة ما جاء به القرآن الكريم؛ فمن خلال الكتابات والنقوش الهيروغليفيَّة تمَّ التعرف على معلومة مهمَّة جدًّا، وهي أنَّ اسم هامان ورد فعلاً في الكتابات المصريَّة القديمة، بل ظهرت وظيفته وأنه كان رئيس عمال الحجارة.
    أَطلق القرآن لقب "مَلِك" على حاكم مصر في عهد يوسف
    [32]، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ...} [يوسف: 43]، بينما أطلقت التوراة على نفس الحاكم لقب فرعون، والسبب في عدم إطلاق القرآن لقب (فرعون) على حاكم في مصر في عهد سيدنا يوسف أن لقب برعو -وهو أصل لقب فرعون- لم يكن يطلق على حاكم مصر نفسه في ذلك العصر، بل كان يعني (القصر الملكي)، ولم يبدأ إطلاق هذا اللقب على حاكم مصر إلاَّ بعد عصر يوسف بما لا يقل عن مائتي سنة، وهكذا ففي العصر الذي عاش فيه موسى كان لقب (فرعون) يُطْلَقُ على حاكم مصر، وبذلك يتجلَّى الإعجاز التاريخي للقرآن الكريم الذي كان دقيقًا حين لم يستخدم لقب (فرعون) إلاَّ مع حاكم مصر في عهد سيدنا موسى، في حين عمَّمت التوراة استخدام لقب فرعون على حاكم مصر في عصر كلٍّ من إبراهيم ويوسف وموسى، رغم أنَّ المصريين لم يستخدموه للدلالة على حاكم مصر في الزمن الذي عاش فيه كلٌّ من إبراهيم ويوسف.
    وتؤكِّد الآثار التاريخية صحَّة ما جاء في القرآن الكريم بتطابق اكتشافاتها مع ما جاء فيه، فإنَّ تلك الآثار تشكِّك في مصداقيَّة التوراة حين تتعارض اكتشافاتها مع بعض النصوص التوراتيَّة، وهذان مثلان آخران على مخالفة النصوص التوراتيَّة لمَا جاءت به الاكتشافات التاريخيَّة: ورد في التوراة على لسان موسى u وهو يخاطب بني إسرائيل: (إن الرب أخرجكم من كور الحديد من مصر)، وقد أثبت علم الآثار أن المصريين لم يعرفوا صهر الحديد إلاَّ بعد موسى بما لا يقلُّ عن سبعمائة سنة
    [33]!!
    والإعجاز التاريخي للقرآن الكريم لم يتوقَّف عند الزمن الماضي، لكنه اخترق حاجب الزمن، وكمثال على ذلك؛ أنبأ القرآنُ الكريم الرسولَ عن أحداث في الزمن المستقبلي بالنسبة له ولأصحابه، وهو ما بَيَّنَه الله تعالى في سورة الروم، حيث قال تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1-5]، وأصل الحادثة أن فارس -وهم أهل أوثان- غلبت الروم -وهم أهل كتاب- فشمت كُفَّار مكَّة في النبي وصحبه، فأنزل الله الآيات السابقة تحدِّيًا للعرب وبشرى للمؤمنين؛ لأن طائفة الإيمان ستنتصر، لكن الذي يعنينا أنَّ القرآن الكريم أخبر عن حدث غيبي مهمٍّ، لم يستطع أحد -في ذلك العصر- أن يُغَيِّر منه في شيء، أو يُكَذِّبه في شيء، وهو لون من ألوان الإعجاز الزمني الذي جاء به القرآن الكريم؛ متحدِّيًا به كل معاند له، أو جاحد لحقيقته.
    [30] جلال الدين السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 1/375.
    [31] انظر: محمد الغزالي: نظرات في القرآن ص95-98.
    [32] في سورة يوسف الآيات 43، 50، 54، 72.
    [33] الرابط: http://blogs.albawaba.com/almogbil/65424/2007/08/28/73942
    الإعجاز العلمي
    جاء القرآن الكريم بنوع آخر من أنواع الإعجاز، وهو الإعجاز العلمي، وهو نوع لم يتكلَّم عنه العلماء المسلمون قديمًا؛ إذ كان جلُّ اهتمامهم يدور حول إعجاز القرآن الكريم من ناحية بلاغته، ونظمه، وتاريخه، ولغته، فلم يتطرَّقوا لمسألة إعجازه العلمي، والمقصود بذلك اشتمال القرآن الكريم على ألوان من النظريَّات العلميَّة التطبيقيَّة التي تحيَّرَ كثيرٌ من العلماء في وجودها واكتشافها، وفيما سيصل إليه العلماء من اكتشافات علميَّة في المستقبل.
    ولكنَّ إعجاز القرآن الكريم العلمي لا يتوقف في اشتماله على النظريات العلميَّة التي تتجدَّد وتتبدَّل، وتكون ثمرة للجهد البشري في البحث والنظر، وإنما في حثِّه على التفكير، فهو يحثُّ الإنسان على النظر في الكون وتدبُّره، ولا يشلُّ حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بل يرفع القرآن الكريم مكانة المسلم بفضيلة العلم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. ثم إن القرآن الكريم يُثير في الإنسان الحسَّ العلمي للتفكير والفهم والتعقُّل، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266]. وهناك عشرات من الآيات القرآنيَّة التي تدعو الإنسان للتأمُّل والتفكُّر والتعقُّل في الكون الذي هو كتاب الله المنظور؛ ليستنبط منه ما يُفِيده في حياته، ويُعَمِّق الشعور بالإيمان بالله تعالى
    [34].
    ومع هذا فإن القرآن الكريم اشتمل على إشارات علميَّة سِيقَتْ مَسَاقِ الهداية؛ فالتلقيح في النبات ذاتي وخلطي، والذاتي ما اشتملت زهرته على عضوي التذكير والتأنيث، والخلطي: هو ما كان عضو التذكير منفصلاً عن عضو التأنيث كالنخيل، فيكون التلقيح بالنقل، ومن وسائل ذلك الرياح، وهو ما أورده تعالى بقوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]. و"الأوكسجين" ضروري لتنفُّس الإنسان، ويقلُّ في طبقات الجوِّ العليا، فكُلَّما ارتفع الإنسان في أجواء السماء أحسَّ بضيق الصدر، وصعوبة التنفُّس، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. وقد ساد الاعتقاد بأنَّ الذرَّة هي الجزء الذي لا يَقْبَل التجزئة، وفي القرآن الكريم: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]، فأصغر من الذرَّة هي الأجزاء الناتجة عن تحطيمها
    [35].
    ومن الأمثلة العلميَّة التي ذُكرت في كتاب الله تعالى، والتي أَثْبَتَ صحَّتها العلم الحديث بالأدلَّة العلمية: (تمدُّد الكون)، فقد وصف القرآن الكريم -الذي أُنْزِلَ قبل أربعةَ عَشَرَ قرنًا في وقت كان فيه علم الفلك في طوره البدائي- نظرية تمدُّد الكون، فقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، وكلمة السماء التي ذكرتها الآية السابقة، مذكورة في مواطن عِدَّة من القرآن الكريم، بمعنى الكون والفضاء.
    وهذه الآية القرآنيَّة كشفت أنَّ الكون يتوسَّع، أو يتمدَّد وهي نفس النتيجة التي خلص إليها العلم في أيامنا هذه، فحتى فجر القرن العشرين كانت النظرة العلميَّة الوحيدة السائدة في هذا العالم، أنَّ الكون له طبيعة ثابتة وهو موجود منذ الأزل، لكنَّ الأبحاث والملاحظات والحسابات التي أُجْرِيَتْ بواسطة التقنيات الحديثة كشفت أن الكون في الحقيقة له بداية وأنه يتمدَّد بانتظام، ففي بداية القرن العشرين أثبت عالم الفيزياء الروسي والمتخصص بالعلوم الكونيَّة البلجيكي جورج لوميتر نظريًّا بأن الكون في حركة دائمة وأنه يتمدَّد، وقد أثبت هذه الحقيقة عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل عام 1929م، فأثبت أن النجوم والمجرات تتحرَّك بعيدًا عن بعضها البعض بشكل دائم، وهذا يعني أنَّ الكون الذي يتحرَّك فيه كل شيء بشكل دائم بعيدًا عن بعضه البعض - هو كون متمدِّد بشكل دائم
    [36].
    [34] انظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص264.
    [35] مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص265.
    [36] هارون يحيى: المعجزات القرآنية ص12، 13.
    شبهات وردود
    ليست قضية إثارة الشبهات حول القرآن الكريم بالقضيَّة الجديدة، وإنما هي قديمة قِدَم نزول القرآن على رسول الله r؛ حيث طعن المشركون في مكة في القرآن وأثاروا حوله الشبهات، في محاولة للنيل منه والتهوين من شأنه.
    وقد سجَّل القرآن الكريم تلك التُّرَّهَات والأباطيل ودحضها وأقام الحجَّة على مَنْ تَوَلَّوْا كبرها، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 4، 5]، وقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43].
    ورغم ما رَمَوْا به القرآنَ إلاَّ أن المشركين -قبل غيرهم- كان يُدركون حقيقة افتراءاتهم وأباطيلهم تلك، وإن كانوا لا يبوحون بذلك إلاَّ في مجالسهم الخاصَّة، وقد ذكر ابن حجر عن سعيد بن المسيب أنَّ أبا سفيان وأبا جهل والأخنس اجتمعوا ليلاً يسمعون القرآن سرًّا... فذكر القصَّة، وفيها أن الأخنس أتى أبا سفيان فقال: ما تقول؟ قال: أعرف وأُنكر. قال أبو سفيان: فما تقول أنت؟ قال: أراه الحقَّ
    [37].
    وكان من هذه الشبهات أيضًا ما أثاره اليهود في المدينة، والتي ما زال يتردَّد صداه في عصرنا هذا، وهو التشكيك في ظاهرة النسخ في القرآن الكريم، فكانوا يقولون: ألا تَرَوْنَ إلى محمد، يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ثم يرجع عنه غدًا، ما هذا القرآن إلاَّ كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام ينقض بعضه بعضًا. فأنزل الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]، وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 101، 102]
    [38].
    والحقيقة أن استنكار اليهود للنسخ لا مبرِّر له سوى الحسد، والخشية من التناقض مع ما يلزمهم من القول بالنسخ، وهو التسليم بنسخ الإسلام لليهوديَّة والنصرانيَّة، وإلاَّ فإن ظاهرة النسخ ليس هناك ما يمنع وقوعها عقلاً، فضلاً عن ثبوت وقوعها في الشرائع السابقة؛ ففي تفسير الآية السابقة يوضِّح الطبري فيقول: "ما نبدلِّ من حكم آية فنغيِّره، أو نترك تبديله فنقرِّه بحاله، نأتِ بخير منها لكم -من حكم الآية التي نسخنا فغيَّرنا حكمها- إمَّا في العاجل لخفَّته عليكم، من أجل أنه وَضْعُ فَرْضٍ كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نُسخ ذلك فوُضع عنهم، فكان ذلك خيرًا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم، وإمَّا في الآجل لعظم ثوابه، من أجل مشقَّة حمله وثقل عبئه على الأبدان؛ كالذي كان عليهم من صيام أيَّام معدودات في السنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات، غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر، لفضل مشقَّته على مكلّفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الأبدان أشقَّ، فهو خير من الأول في الآجل؛ لفضل ثوابه وعظم أجره، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات؛ فذلك معنى قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106]؛ لأنه إمَّا بخير منها في العاجل لخفَّته على مَن كلّفه، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره، أو يكون مثلها في المشقَّة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله -تعالى ذكره- فرض الصلاة شطر بيت المقدس، إلى فرضها شطر المسجد الحرام
    [39].
    حتى قال: "وهذا الخبر وإن كان من الله خطابًا لنبيِّه محمد على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جلَّ ثناؤه تكذيبٌ لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوَّة عيسى، وأنكروا محمدًا لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غيَّر الله من حكم التوراة؛ فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرَهم بما شاء ونهيَهم عمَّا شاء، ونسخَ ما شاء، وإقرارَ ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه"
    [40].
    وقال ابن كثير: "وفي هذا المقام ردٌّ عظيم وبيانٌ بليغٌ لكُفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إمَّا عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفرًا، وإمَّا نقلاً كما تخرَّصه آخرون منهم افتراءً وإفكًا"
    [41].
    ثم قال ذاكرًا أمثلة لنسخ بعض الأحكام التي وقعت في الشرائع المتقدِّمة: "الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدلُّ على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدِّمة وشرائعه الماضية، كما أحلَّ لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرَّم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حِلّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه، وقد حُرِّمَ ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأشياء كثيرة يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه.

    وما يُجَاب به عن هذه الأدلَّة بأجوبة لفظيَّة، فلا تُصْرَف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهورًا من البشارة بمحمد والأمر باتِّباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته عليه والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلاَّ على شريعته، وسواءٌ قيل إن الشرائع المتقدِّمة مُغَيَّاة إلى بعثته ، فلا يُسَمَّى ذلك نسخًا كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب اتِّباعه معيَّن؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدًا بالله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بيَّن تعالى جواز النسخ؛ ردًّا على اليهود -عليهم لعائن الله- حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 106، 107]، فكما أنَّ له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} [الأعراف: 54]
    [42].
    وهؤلاء اليهود هم سلف المستشرقين المعاصرين، الذين ردَّدوا شبهات أسلافهم وزادوا عليها، ولقد تنوَّعت شبهاتهم وتعدَّدت، حتى إنه ما من موضوع من موضوعات علوم القرآن إلاَّ أثاروا حوله الشبهات، ففي الوحي شبهات، وفي أسلوب القرآن شبهات، وفي جمعه شبهات، وفي قراءاته شبهات، وفي تفسيره شبهات... ومَن يقرأ الموسوعة البريطانية يجد تلك الشبهات مبثوثة في ثناياها، وقد قام الأستاذ الدكتور فضل عباس بتتبُّع هذه الشبهات والطعون في هذه الموسوعة، ونقضها ونقدها بالحجَّة والمنطق، في كتابه العظيم "قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية نقد مطاعن ورد شبهات"
    [43].
    وسنكتفي هنا بشبهتهم حول أسلوب القرآن الكريم؛ حيث زعم المستشرقون أن أسلوب القرآن المدني تغيَّر عن الأسلوب المكي بتأثير اليهود أو لمراعاتهم.
    ولا ريبَ أن هذا القول يمثِّل قمَّة السذاجة؛ فإذا كان الأسلوب المدني في القرآن قد اختلف عن الأسلوب المكي فيه، فليس هذا بسبب اليهود، وإنما بسبب تغيُّر الموضوعات والحاجة إلى تغيير الأسلوب ليُنَاسب عرضها؛ فالموضوعات في العهد المكي كانت تدور حول الدعوة إلى الله، وإثبات التوحيد والرسالة واليوم الآخر وتفصيلاته؛ من ذكر القيامة وأهوالها، والجنة ونعيمها والنار وعذابها، كما أكثر القرآن من مجادلة المشركين بالبراهين العقليَّة، ولفت أنظارهم إلى آيات الله في الكون والنفُّس، كما تناول الأسس العامَّة للتشريع بإجمال، وفضح جرائم المشركين المنافية للتوحيد والإنسانيَّة، وأكثر من ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة تسلية للنبي وأصحابه الذين عانوا من الظلم والاضطهاد، لذلك تميَّز أسلوب العرض بقصر الآيات وكثرة الفواصل، وقوَّة جرسها، وشدَّة قرعها على المسامع، وصعقها للقلوب، مع كثرة وُرُودِ القسم المصاحب للموضوعات.
    أما موضوعات العهد المدني فاختلفت، وتبعًا له اختلف أسلوب عرضها، فقد عني العهد المدني بتفصيل التشريعات، من عبادات ومعاملات وأنظمة وحدود، وأحكام الأسرة وقسمة المواريث، والعَلاقات الدُّوَلِيَّة في الحرب والسلم، لذلك تميَّزت الآيات بطويل المقاطع؛ ليتم بسط الأحكام وتفصيلها خلافًا للأسلوب
    المكي، وكذلك تناولت الآيات مخاطبة أهل الكتابين ودعوتهم للإسلام، وحيث إنهم أهل دين رباني فقد اقتضى الأمر اختلاف أسلوب مخاطبتهم عن أسلوب مخاطبة أهل الأوثان، كما واجههم بكشف التحريفات وإقامة الحجة عليهم. كذلك تناولت آيات كثيرة الحديث عن المنافقين وكشفت خططهم ومؤامراتهم، بل خصَّصت سورة كاملة تقريبًا للحديث عنهم، وطبيعي أن يختلف أسلوب مخاطبة المشركين عن أسلوب مخاطبة أهل الكتاب عن أسلوب مخاطبة المنافقين؛ فتغيُّر الأسلوب اقتضاه الموضوع لا الأشخاص، لكن ينبغي ملاحظة أن فصاحة القرآن وبلاغته وتأثيره على القلوب وإقناعه للعقول لم يتغيَّر، فدرجته في العهد المدني لا تختلف عنها في العهد المكي
    [44].
    وخلاصة الأمر أنَّ القرآن الكريم معجزة خالدة لرسولنا محمد ، لا نظير لها إلى قيام الساعة، وهو كلام الله الذي أنزله رحمةً للعالمين، وشفاءً لصدور المؤمنين، ونذيرًا للألدَّاء المعاندين، وفيه دستور كامل للدولة الإسلاميَّة، ومنهج كامل ينظم حياة الفرد والمجتمع،
    ويضبط به جماح الشهوات والأهواء، ويصنع من الإنسانيَّة مجتمعًا طاهرًا منظَّمًا تعمُّه الرحمة والتكافل، ولا يزال القرآن -المعجزة الخالدة- يمدُّنا بأنواع من العلوم، ويفجِّر لنا كنوز المعرفة، ويحيي عقولنا بإثارة الفكر، وفوق كل هذا فهو نور يهدينا إلى سواء السبيل، ويقودنا إلى جنات النعيم المقيم.
    [37] ابن حجر: الإصابة 1/38.
    [38] انظر الواحدي: الوجيز ص123، وابن حجر: العجاب في بيان الأسباب 1/348.
    [39] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 2/482، 483.
    [40] السابق نفسه 2/488.
    [41] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/378.
    [42] المصدر السابق 1/379.
    [43] انظر مقال عبد الرحمن هوساوي، الرابط: http://www.alriyadh.com/2006/11/03/article198736.html
    [44] المصدر السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري