بسم الله الرحمن الرحيم
النار خالدة لا تفنى ولا تبيد، كما قال الطحاوي في عقيدته: " والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان ولا تبيدان " (1)، ونقل ابن حزم اتفاق الأمة على ذلك، فقد جاء في كتابه " الملل والنحل " قوله: " اتفقت فرق الأمة كلها على أن لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها، إلا الجهم بن صفوان ". (2)
وجاء في كتابه " مراتب الإجماع" قوله: "...وأن النار حق، وأنها دار عذاب لا تفنى، ولا يفنى أهلها بلا نهاية " (3).والنصوص الدالة على خلود النار كثيرة، وحسبك أن الله سماها " دار الخلد ".
هذا مذهب أهل السنة والجماعة أن النار خالدة لا تبيد، وأهلها فيها خالدون، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين، أما الكفرة والمشركون فهم فيها خالدون.
القائلون بفناء النار والمخالفون لمذهب أهل الحق في هذه المسألة سبع فرق:
1- الجهمية: القائلون بفناء النار وفناء الجنة أيضاً، وقد حكى الإمام أحمد في آخر كتاب " الرد على الزنادقة " مذهب الجهمية بأن النار والجنة تفنيان، ورد عليهم ذاكراً النصوص الدالة على عدم فنائهما.
2- الخوارج والمعتزلة: يقولون بخلود كل من يدخل النار، ولو كانوا من أهل التوحيد، وسر هذا القول أن الخوارج يكفرون المسلمين بالذنوب، فكل من ارتكب ذنباً، فإنه كافر خالد مخلد في نار جهنم، والمعتزلة يرون أن من ارتكب ذنباً في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا كافر، ويجرون عليه أحكام الإسلام في الدنيا، ولكنه في الآخرة مخلد في نار جهنم، وقد سقنا كثيراً من النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يخرجون من النار.
3- اليهود: الذين يزعمون أنهم يعذبون في النار وقتاً محدوداً، ثم يخلفهم غيرهم فيها، وقد أكذبهم الله في زعمهم، ورد عليهم مقالتهم (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 80 - 81]. (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون*ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) [آل عمران: 23 - 24].
ونقل ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس أنه قال في تفسير آية البقرة: " قال أعداء الله اليهود: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوماُ، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب ".
وذكر ابن حرير عن السدي قوله: " قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا، نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل، فلذلك أمرنا أن نختن، قالوا: فلا يدعون منا في النار أحداً إلا أخرجوه ". (4)
وذكر أيضاً ابن عباس قال: " ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوياً: إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهي إلى شجرة الزقوم ثابتة في أصل الجحيم، وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيها شجرة الزقوم، فزعم أعداء الله أنه خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياماً معدودة ".
قال ابن جرير: "وإنما يعني بذلك يعني بذلك المسير الذي ينتهي في أصل الجحيم، فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل، فلا عذاب وتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله: (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة) [البقرة: 80]. يعنون بذلك الأجل، فقال ابن عباس: " لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب، حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة، قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياماً معدودة، فقد خلا العدد، وأنتم في الأبد، فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون ". (5)
4- قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي، فإنه زعم أن أهلها يعذبون فيها مدة، ثم تنقلب طبائعهم نارية يتلذذون بالنار لموافقتها لطبائعهم، قال ابن حجر في الفتح: "وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة ". (6)
5- قول من زعم أن أهلها يخرجون منها، وتبقى على حالها خالدة لا تبيد.
6- قول أبي هذيل العلاف من أئمة المعتزلة الذاهب إلى أن حياة أهل النار تفنى، ويصيرون جماداً لا يتحركون، ولا يحسون بألم، قال بذلك لأنه يقول بامتناع حوادث لا نهاية لها، فخالف الأدلة الصريحة القطيعة الثبوت بمقاييس عقلية باطلة.
7- قول من قال: إن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الأحاديث، ثم يبقيها شيئاً، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه. (7)
والقول الأخير مال إليه البحر العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -وغفر له، كما ذهب تلميذه العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -.
وقد تتابع العلماء في التأليف لبيان خطأ هذا المذهب، يقول ابن حجر العسقلاني بعد حكايته لهذا القول: "وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول، ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد " (8)، وهذا الكتاب الذي أشار إليه هو "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي المتوفى سنة 756.
وقال صديق حسن خان: "وقد ألف العلامة الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي رسالة سماها: " توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين "، وفي الباب رسالة للسيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير، ورسالة للقاضي العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني، حاصلهما بقاء الجنة والنار وخلود أهلهما فيهما ". (9)
وهنا أمور نحب بيانها:
الأول: أن هذا القول قول باطل وإن ذهب إليه علمان من أعلام الإسلام، فقد علمنا شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم أن حب الحق ينبغي أن يكون مقدماً على حب الرجال. وأدلة بطلانه النصوص الكثيرة الدالة على خلود النار، وهي نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وقد ذكرنا قول من نقل الإجماع على خلود النار.
الثاني: أنه لا يجوز بحال من الأحوال ذم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بسبب هذه المقالة، فقد كفرهما قوم، وفسقهما قوم بسبب ذلك، وكل هذا ليس بصواب، فإنهما مجتهدان مأجوران مثابان، ولو علما الحق في خلاف قولهما لاتبعاه، ودعوى أن المخالف في مثل هذا يكفر قائله يوصل القائلين بهذا إلى تكفير أئمة هذه الأمة الذين لا يُمارى في إمامتهم، فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يذهب إلى أن المسافر إذا لم يجد الماء لا يتيمم ولا يصلي، وقد اتفقت الأمة على خلاف هذا، والإمام مالك كان يرى أن "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست آية من كتاب الله، وقد أجمعت الأمة على أن مابين الدفتين قرآن، وقال أقوام بعدم زيادة الإيمان ونقصانه مع كونه مثبت بالكتاب والسنة صريح فيهما، والإجماع منعقد عليه.
الثالث: ينبغي أن ننبه أن لابن تيمية وابن القيم قولاً بعدم فناء النار، جاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام قوله في إجابة سؤال: " وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وجماع سلف الأمة وأئمتها ". (10)
وإذا كان الأمر كذلك، أي لهما قولان، فلا يجوز أن نجزم بأن القول بفناء النار هو قولهما ما لم يعلم أنه القول الأخير، وإذا لم يعلم القول الأخير فالأولى التوقف في نسبة أحد المذهبين إليهما.
الرابع: الأدلة التي احتج بها شيخ الإسلام وابن القيم على فناء النار، بعضها غير صحيح، والصحيح منها غير صريح، بل يمكن حمله على غير فناء النار، بل على فناء النار التي يكون فيها عصاة الموحدين. وقد ناقش الصنعاني في رسالته التي يرد فيها على ابن تيمية وابن القيم هذه الأدلة، وبين عدم نهوضها على ما ذهبا إليه. وهذه الرسالة هي المسماة " برفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار ". (11)
ومن الذين تعرضوا لهذه المسألة القرطبي في " التذكرة "، فقد ساق النصوص الدالة على خلود الجنة والنار، والمخبرة بأن الموت يذبح بين الجنة والنار ثم يقال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" ثم قال: " هذه الأحاديث مع صحتها في خلود أهل الدارين فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة ". (12)
ورد القرطبي على الذين قالوا بفناء النار، وبين أن الذي يفنى إنما هو النار التي يدخلها عصاة الموحدين، قال: " فمن قال: إنهم يخرجون منها، وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى وتزول، فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول.. وإنما تخلى جهنم وهي الطبقة العلية التي فيها العصاة من أهل التوحيد، وهي التي ينبت على شفيرها الجرجير ". (13)
ونقل القرطبي عن فضل بن صالح المعافري قال: " كنا عند مالك بن أنس ذات يوم، فقال لنا: انصرفوا، فلما كان العشية رجعنا إليه، فقال: إنما قلت لكم انصرفوا، لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في أكل الجرجير، فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم؟ فقلت له: لا بأس به (14). فقال: أستودعك الله، وأقرأ عليك السلام، ذكره الخطيب أبو بكر أحمد - رحمه الله -، وذكر أبو بكر البزار، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: يأتي على النار زمان تخفق الرياح أبوابها، ليس فيها أحد، يعني من الموحدين، هكذا رواه موقوفاً عن عبد الله بن عمرو، وليس فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو مرفوع ". (15)
الاثنين، 28 سبتمبر 2009
النار خالدة لا تبيد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري