السبت، 25 يونيو 2011

أباطيلُ أنمِّقُها وأكاذيبُ ألفِّقُها

عندما استلم الأمير عضد الدولة البويهي حكم بغداد سنة 367 للهجرة في زمن الخليفة العباسي المطيع لله، نقم على إبراهيم بن هلال الصابي (الصابئ) فحبسه. فسئل فيه وعُرِّف بفضله، فقال: إن عمل كتاباً في مآثرنا وتاريخنا أطلقته! فشرع في محبسه يسطِّر كتاب (التاجي في أخبار بني بويه). فدخل عليه السجن أحد أصدقائه وهو يكتب ذاك الكتاب فسأله ماذا يفعل، فقال: (أباطيلُ أنمِّقُها وأكاذيبُ ألفِّقُها).
ولا أدري إن كانت تلك شجاعة منه أن يعترف لصاحبه أنه كان ينمق الأباطيل ويلفق الأكاذيب إرضاء لعضد الدولة ودفاعا عن نفسه لينجو من السجن، أم كانت يقظة ضمير في لحظة صفاء. لكنه على كل الأحوال اعترف بالذنب. ومن سوء حظه أن كلامه وصل إلى عضد الدولة فأمر بقتله برميه تحت أقدام الفيلة. فتوسط له بعض الناس فعفا عنه وأمر بنفيه من البلد.
والصابي أخذ هذا اللقب لأنه كان صابئياً مقيماً على دينه بين ظهراني المسلمين، فلا إكراه في الدين. وقد عُرف عنه التحلي بخصال المسلمين، فكان يصوم رمضان موافقة لهم وحسن عشرة منه، كما حفظ القرآن حفظا جعله يستشهد بآياته في أقواله وكتاباته. وقد اشتهر بكتابة الرسائل الرسمية بمدينة بغداد في القرن الرابع الهجري، حتى إنه وُصف بصاحب الرسائل، ويبدو أن صِلاته الوثيقة بالخلفاء والأمراء جعلته موضع ثقة الدولة فتقلد ديوان الرسائل. وقد عُرفت رسائله برصانة وبراعة أسلوبها.
مقولة الصابي قرأتها منذ أكثر من ثلث قرن من الزمان، لكن ذاكرتي استدعتها وأنا أشاهد التلفاز وأرى الفظائع التي تُرتكب بحق الإنسانية ثم يخرج علينا من يسمون أنفسهم صحفيين أو محللين أو متخصصين في العلاقات الدولية ليشوهوا الوقائع ويزيفوا الحقائق ويحرّفوا الأحداث، فيصبح الضحية مجرماً، والطفل الذي تم تعذيبه حتى الموت عميلاً ! فلئن فعل الصابي ما فعل لينجو من السجن فما حجة من يلفق الأكاذيب وينمق الأباطيل وهو حر طليق؟ لكن الصابي اعترف بفعلته فهل يأتي اليوم الذي يعترف فيه هؤلاء بأنهم كانوا يفعلون ذلك لينالوا الأعطيات؟
في مقابل هذا الزبد الذي يذهب جفاء يتحدث القرآن عن نوع آخر من البشر اتعظوا بعبارة واحدة من موسى عليه السلام حين قال لهم: (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ، وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى). لقد جاؤوا إلى فرعون وهم يطمعون بالأجر الوفير (أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ؟ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فإذا بهم عندما يتبين لهم الحق (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فجاءهم التهديد (فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) فما كان ذلك ليوهن عزيمتهم (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا). فذهبت قصتهم تحكي حكمة الحق وتوضح الحقيقة والميزان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري