الثلاثاء، 21 يونيو 2011

ميلاد من رحِمِ الضَعْــــفِ

كُنْتُ قَدْ نِمْتُ عَنْ نَفْسِي وَنَسِيتُهَا أَرْبَعِينَ عاماً...

حَـبَّةً.. أَلْقوني تَحْتَ تُرْبَةِ الْقَهْرِ وَالضَّعْفِ، فَتَعَلَّمْتُ لُغَةَ الصَّمْتِ وَالْهُدُوءِ والسَّكِينَةِ، وَدَخَلْتُ فِي سُبَاتٍ شَتَوِيٍّ دَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً..

دَفَنْتُ رَأْسِي تَحْتَ التُّرَابِ، فَمَا أَبْصَرْتُ شَمْساً وَلا قَمَراً، أَطْبَقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِرُطُوبَتِهَا وَظُلْمَتِهَا، وَبَقِيتُ أَتَنَفَّسُ مَا يُمِدُّنِي بِالحَيَاةِ، وَأَهَبُ مَا بِي مِنْ غِذَاءٍ لِيَحْيَا الغَيْرُ..

أَقْنَعُونِي أَنَّ تُرْبَتِي هِيَ كُلُّ عَالَمِي، وَأَنَّ الصَّمْتَ هُوَ قِمَّةُ الفَضِيلَةِ، وَأَنَّ الخُنُوعَ هُوَ الرِّضَا وَالإِيمَانُ !

وَكَانَتِ الأَيَّامُ تَتَوَالَى، وَظُلْمَةُ الأَرْضِ تَتَرَاكَمُ وَتَتَزَايَدُ، وَذَرَّاتُهَا تُثْقِلُ عَلَيَّ بِضَغْطٍ وَقَسْوَةٍ، وَحُرِمْتُ قَطْرَ السَّمَاءِ لِسِنِينَ طَوِيلَةٍ، حَتَّى كَادَتْ قِشْرَتِي تَمُوتُ، وَبَدَأَتْ أَنْسِجَتِي بِالضُّمُورِ، فَانْحَنَيْتُ عَلَى نَفْسِي، وَغُصْتُ فِي دَاخِلِي..

فَجْأَةً.. أَبْصَرْتُ وِلادَةَ بُرْعُمٍ أَخْضَرَ، وُلِدَ مِنْ أَلَمِي لا مِنْ رَحِمِي، فَتَجَلَّى بِدَاخِلِي، وَكَأَنَّهُ بُسْتَانُ زَهْرٍ قَدْ أَشْرَقَتْ جَنَبَاتُهُ، وَامْتَلأَ فَضَاؤُهُ عِطْراً وَسِحْراً، وَازْدَانَ بِنَهَرٍ وَرَوَافِدَ..

فَحَنَوْتُ عَلَى بُرْعُمِي، وَسَـقَيْتُهُ مِنْ مَاءِ رُوحِي، حتَّى أَبْصَرَ نُورَ السَّمـَاءِ، وَمَضَى لِيَعْلُوَ وَيَعْلُوَ، مُقَاوِماً شَدَّ الأَرْضِ وَجَذْبَهَا.

وَهُـنَا اسْتَيْقَظْتُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَاسْتَيْقَظَتْ مَعِي كُلُّ الهِمَمِ.. نَظَرْتُ وَرَائِي.. فَرَأَيْتُ أَنِّي دُفِنْتُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لأُبْعَثَ خَلْقاً جَدِيداً مُحَمَّلاً بِحِمْلِ أَرْبَعِينَ رَجُلاً مِنَ الْعَزْمِ وَالأَمَلِ..

وَكُنْتُ كُلَّمَا عَصَفَتْ بِغُصْنِي رِيَاحُ الْيَأْسِ، تَذَكَّرْتُ خَيْرَ الأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدَ المُرْسَلِينَ، وَكَيْفَ تَسَلَّمَ زِمَامَ قِيَادَةِ الأُمَّةِ وَهُوَ فِي الأَرْبَعِين.

إِنَّهَا الأَرْبَعُون، وَفِيهَا أَرَى كَمَالَ القُوَّةِ وَالعَقْلِ، لَوْ فَهِمْنَا دَوْرَنَا..

إِنَّهَا الأَرْبَعُون، طَرِيقُ التَّوْبَةِ وَالصَّلاحِ، وَالأَمَلِ وَالفَلاحِ، لَوْ أَرَدْنَا فَوْزاً وَنَجَاحاً..

وَاللهُ أَصْدَقُ القَائِلِينَ:

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري