الجمعة، 4 سبتمبر 2009

صفحات من تاريخ الصمود




  • أمة تحت الحصار هو أصدق وصف وأدق تعبير عن حال أمتنا الإسلامية خاصة في هذه الأيام، والمشاهد المأساوية والمروعة لضحايا القصف الصهيوني لشعب غزة الأبي الصامد والذي أرهقه الحصار العنيف تدمي القلوب وتحزن النفوس، وتلقي اليأس والقنوط في قلوب كثير من المسلمين، وبين مطرقة العدو الغاشم وسندان التجاهل العربي والإسلامي لأهل غزة سقط كثير من الأبرياء والعزل بلا أدنى جريرة سوى أنهم يقولون ربنا الله.
    ومنذ أن حاصر مشركو مكة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في شعب أبي طالب في العام السابع من النبوة، والأمة تتعرض لمواقف مشابهة عبر التاريخ حتى أنه لا يكد يخلو عصر من العصور من أمثال هذه المواقف والنوازل والتي عادة ما تكون زاخرة بالدروس والعبر والفوائد، والأعجب من ذلك أنك قد ترى تطابقًا كبيرًا وتشابهًا فريدًا في هذه المواقف، وردود أفعال الأطراف التي تكون معادلة الحصار تكاد تكون أيضًا متشابهة
    .
    فحصار أهل غزة يشترك في منظومته العدو الصهيوني الغاشم والتواطؤ العربي الفاضح والتجاهل الإسلامي المرير والدعم الغربي الكبير، ووسط ذلك كله يقف أهل غزة شامخين صامدين ضاربين أروع الأمثلة في الصبر والثبات.
    وفي هذه الدراسة التاريخية الصغيرة سنعرض لتاريخ واحدة من دول الإسلام العريقة والتي تعرضت مدنها وأقاليمها لسلسلة متواصلة من الحصار والتضييق الكبير من أعدائها، وهذه الدولة هي دولة الإسلام في الأندلس والتي قامت يوم فتح المسلمين للأندلس سنة 92هـ وظلت قوية ظاهرة تحكم أقاليم الأندلس الشاسعة باسم الخلافة الأموية وكلمة المسلمين واحدة وإمامهم واحد حتى سنة 399هـ، وبعدها تفرقت الكلمة واختلف الناس وظهرت الأطماع وانقسمت دولة الإسلام في الأندلس لاثنين وعشرين دويلة صغيرة، وتفككت عرى دولة الخلافة، ودخل المسلمون في الأندلس عهدًا جديدًا هو الأسوأ، وهو عهد ملوك الطوائف والذي كان السبب الأول في انهيار دولة الإسلام في الأندلس بعد ذلك للآثار الضارة والآفات المزمنة التي أصابت جسد الأمة خلال تلك الفترة.
    وهذه طائفة من أخبار المدن المحاصرة في عهد ملوك الطوائف وما تلاها من عهود ليعلم الناس أن فصول ما جرى وسيجري على أرض غزة قد مرت به الأمة من قبل.
    حصار طليطلة 478هـ
    تتمتع طليطلة بمنزلة خاصة في الأندلس؛ ذلك لأنها كانت عاصمة إسبانيا القديمة وبها مقر حكومتها وقصر زعمائها وكنيستها العظمى، وقد فتحها عبد العزيز بن موسى بن نصير سنة 92هـ، كما أنها تتمتع بموقع جغرافي مميز في واسطة الأندلس تمامًا، وعندما استقبل الناس عهد ملوك الطوائف المشئوم كانت طليطلة مملكة قائمة بذاتها يحكم جنباتها أسرة ذي النون البربرية الأصل، ولم تكن هذه الأسرة ولا رجالها أهلاً لمنصب الرياسة الخطير، شأنها في ذلك شأن سائر ملوك الطوائف، وزادت أسرة ذي النون عليهم أنها كانت معدن الفتنة وبذرة الفرقة في الأندلس وملوك هذه الأسرة دخلوا في حروب مدمرة مع جيرانهم في مملكة سرقسطة ومملكة إشبيلية، دفعت المأمون بن ذي النون لئن يحالف نصارى إسبانيا ويستعين بهم في قتال جيرانه المسلمين، وفي المقابل استعان خصومه أيضًا بالنصارى وهكذا ضاعت قضية الولاء والبراء على أرض الأندلس بسبب المنافسات والخصومات البغيضة بين ملوك الطوائف بعضهم بعضًا.
    وفي الوقت الذي كانت تسير فيه دولة الإسلام في الأندلس نحو الانحدار كان نصارى إسبانيا يشهدون صحوة كبيرة تحت ظل ملكهم القوي ألفونسو السادس الذي استطاع أن يبسط سيطرته على أجزاء واسعة في شمال الأندلس، ويحكم قبضته على مملكة قشتالة القديمة بحيث صار عاهل النصارى الأكبر في شمال الأندلس، وكانت حدود مملكة قشتالة مشتركة مع مملكة طليطلة المسلمة ومتاخمة لها وبالتالي كانت مملكة طليطلة في حكم رباط دولة الإسلام في الأندلس وحاجزها ضد عدوان نصارى إسبانيا، وهذا الجوار كان يقتضي على ملوك طليطلة أسرة ذي النون أن يكونوا في حالة استنفار دائم ومرابطة كاملة استعدادًا لأي هجوم يشنه النصارى، ولكن العكس هو الذي حدث فلقد خضع ملوك طليطلة لنير ألفونسو السادس ودخلوا في معاهدة سلم معه نظير أن يدفعوا له جزية سنوية، وذلك حتى يتفرغوا لقتال جيرانهم المسلمين في سرقسطة وإشبيلية.
    في سنة 468هـ تولى حكم مملكة طليطلة يحيى بن ذي النون، وكان يحيى فتى حدثًا، قليل الخبرة، عديم التجارب، تربى في أحجار النساء والجواري، وكانت مدينة طليطلة تموج بالفتن والاضطرابات بسبب سياسة أسرة ذي النون الخرقاء في مصانعة النصارى ودفع الجزية لهم ومحاربة الجيران المسلمين، وانقسم أهل طليطلة إلى حزبين؛ حزب يصر على خلع أسرة ذي النون ومواجهة عدوان النصارى وعدم الخضوع لألفونسو السادس، وحزب موالي للنصارى ومؤيد لسياسات ذي النون.
    استطاع الحزب المناوئ للنصارى والخانع الذليل يحيى بن ذي النون أن يثور عليه سنة 472هـ ويخلعه من منصبه، ونصبوا عليهم الأمير الشهم عمر بن المتوكل أمير مملكة بطليوس فما كان من يحيى بن ذي النون إلا أن طلب مساعدة ألفونسو السادس في استعادة ملكه السليب، فاهتبل ألفونسو السادس الفرصة، وساعد يحيى على العودة إلى حكم طليطلة سنة 472هـ وفتك النصارى بالحزب المناوئ لهم وليحيى بن ذي النون داخل طليطلة.
    لم يكن يحيى بن ذي النون يعلم أن ألفونسو السادس
    يخطط للوثوب على عاصمة إسبانيا القديمة، وكان ألفونسو إلى جانب خططه الحربية، قد مهد لمشروعه بأعمال السياسة فعقد معاهدة مع المعتمد بن عباد ملك إشبيلية من أهم بنودها أن يترك المعتمد بن عباد الإسبان وألفونسو أحرارًا في أعمالهم ضد طليطلة ولا يعترض مخططاته في احتلالها، وفي نفس الوقت سار معظم ملوك الطوائف على نهج المعتمد بن عباد فسالموا ألفونسو السادس اتقاءً لشره وتعهدوا له بدفع الجزية وتركه حرًا في هجومه على طليطلة.
    بدأ ألفونسو في خطوته الثانية على طريق احتلال طليطلة، إذ قام بشن غارات مدبرة على ضواحي طليطلة وأحوازها ابتداءً من سنة 474هـ بهدف تجريد المدينة من دفاعاتها وثرواتها الزراعية للتضييق على مواردها، وكان يساعد ألفونسو في تلك الحملات المخربة الحزب الموالي للإسبان داخل طليطلة، واستمرت تلك الحملات أربع سنوات كاملة، استنزف فيها الإسبان ثروات وموارد طليطلة وجردوها من وسائل الدفاع وذلك كله تحت سمع وبصر ملوك الطوائف المتخاذلين الذين تغلغل الخوف من الإسبان في قلوبهم فتركوه وشأنه مع طليطلة المسلمة يفعل بأهلها ما يشاء.
    كان مخطط ألفونسو واضحًا بينًا لكل أحد، كما كان موقف ملوك الطوائف أيضًا فاضحًا بعلمه كل عاقل، مما دفع عقلاء المسلمين وعلماءهم لئن يتحركوا قبل فوات الأوان، فنهض القاضي أبو الوليد الباجي كبير علماء الأندلس وطاف الولايات والقواعد الأندلسية منذرًا ومحذرًا من عواقب التفرق والتشرذم، داعيًا ملوك الطوائف وشعوبهم لنجدة طليطلة، مؤكدًا لهم أن سقوط طليطلة إنما هو نذير السقوط النهائي لدولة الإسلام في الأندلس كلها، ولكن جهود العقلاء والعلماء ذهبت كلها سدى وغلبت الأهواء الشخصية وحرص كل ملك على كرسيه وخوفه من زوال ملكه دفعه لمواصلة التجاهل والإغضاء عما يفعله الإسبان بطليطلة، وهكذا تركت المدينة المنكوبة لمصيرها الأليم.
    وفي خريف سنة 477هـ ـ 1084م ضرب ألفونسو السادس حصارًا محكمًا حول طليطلة ثم دخل الشتاء وشحت الأقوات واشتد الأمر بأهل المدينة، وملكهم الخانع الذليل يحيى بن ذي النون لا يملك من أمره شيئًا، وصمد أهل طليطلة صمودًا بطوليًا رغم نفاد المؤن والأقوات، وبرز العديد من رجالات المدينة الذين بذلوا كل ما في وسعهم لإطالة أمد الحصار والمقاومة ليخبو عزم الإسبان، ولكن ألفونسو قد أجمع أمره وأقسم على ألا يغادر المدينة حتى يستولي عليها أو يهلك دون ذلك.
    فنيت الأقوات تمامًا من المدينة واستبد الجوع بالناس حتى أكلوا الميتة والحيوانات حتى تحرج الموقف بالكلية فاتفق يحيى بن ذي النون مع قادة المدينة على أن يرسلوا وفدًا لمفاوضة ألفونسو على الصلح ودفع الجزية له عسى أن يرفع الحصار عنهم، فرفض ألفونسو مجرد لقائهم، فاجتمع معهم وزيره الداهية «سنسدو» وكان يتقن العربية عاش وتربى في إشبيلية، ثم غلب عليه ولاؤه لدينه وقومه فنزح إلى قشتالة والتحق بخدمة ألفونسو، وكان هذا الوزير شديد الدهاء والمكر استطاع أن يلقي اليأس في قلوب قادة الوفد من انسحاب ألفونسو، فحاول قادة الوفد من استخدام ورقة المساعدات الإسلامية من ملوك الطوائف، ولكنهم تعرضوا لصدمة مروعة عندما أُدخلوا في خيمة مجاورة لخيمتهم فوجدوا فيها سفراء ملوك الطوائف وقد كانوا جميعًا يومئذ عند ألفونسو السادس يجددون العهد ويدفعون الجزية السنوية، وعندها فقد زعماء طليطلة أي أمل في نصرة المسلمين وخرجوا من عند ألفونسو يتعثرون في أذيالهم.
    أشرف الحصار على طليطلة على بلوغ السنة، وقد تفاقم الخطب وبلغت الشدة بالمحصورين أقصاها، ولم تفد محاولات المدافعين عن المدينة في إقناع الناس بالصبر والدفاع عن مدينتهم حتى الموت، فلقد استبد لهم الجوع والإرهاق، وفي 1 صفر سنة 478هـ استسلمت المدينة العريقة لمصيرها المحتوم ودخلها ألفونسو السادس دخول الفاتحين الكبار، وكان سقوط المدينة التليدة إيذانًا بانقلاب موازين القوى في الأندلس، إذ صارت الكفة أرجح لصالح نصارى إسبانيا، والعجيب أن ذلك السقوط قد ألهب حماسة نصارى أوروبا واختمرت فكرة الحملات الصليبية عند الباب أوربان الثاني الذي أغرته نجاحات ألفونسو السادس في الأندلس، وقرر محاكاة نفس التجربة في بلاد الشام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري