- في عصر ملوك الطوائف المليء بالظواهر السلبية والعادات القبيحة، برزت ظاهرة كان لها أبلغ الأثر ليس في سقوط حكم ملوك الطوائف أنفسهم ولكن في سقوط الأندلس كلها، هذه الظاهرة هي ضياع عقيدة الولاء والبراء والتي أخذت أشكالاً عديدة من أهمها استعانة ملوك الطوائف بالمرتزقة النصارى في قتال جيرانهم المسلمين من باقي ملوك الطوائف، وتوسعهم في الاعتماد على التحالف مع الصليبيين ضد المسلمين، وخلال هذه الفترة المظلمة في تاريخ دولة الإسلام في الأندلس، برز العديد من فرسان النصارى الذين كان لهم دور خطير في ساحة الأحداث، من أهمهم وأشهرهم على الإطلاق الفارس الملقب بالسيد الكمبيادور كما تسميه المراجع والمصادر العربية، واسمه الإسباني "رودريجو دي بيبار" وكان فارسًا مغامرًا جريئًا، لا ولاء له ولا عهد، ولا ينضوي تحت راية بعينها، فتارة يقاتل في خدمة الأمراء الإسبان، وتارة في خدمة الأمراء المسلمين، وتارة من أخلص أتباع ألفونسو السادس ملك قشتالة الصليبي وعاهل الإسبان الأكبر في الأندلس، وتارة من ألد أعدائه، بالجملة كان الكمبيادور هذا زعيم عصابة وقاطع طريق، متجردًا من أي اعتبار ديني أو قومي، فالمال والمغنم هو هدفه الوحيد، والقوة والبطش والغدر والخداع سلاحه الذي لم يفارقه طوال حياته.
كانت الأوضاع داخل الأندلس خلال تلك الفترة تسمح ببروز نجم أمثال هؤلاء اللصوص قطاع الطرق، وقد التحق هذا الفارس بخدمة أسرة بني هود ملوك سرقسطة وشرق الأندلس واشترك في الحرب الداخلية التي نشأت بين أمراء بني هود فيما بينهم على الملك فازدادت ثروته وقوته ومكانته في المنطقة، وأيضًا ازدادت وطأته وشره على مسلمي شرق الأندلس، وذلك كله تحت رعاية وسمع وبصر ملوك سرقسطة بني هود، الذين كانوا من ضحايا طغيان الكمبيادور، إذ انقلب عليهم وغدا يعمل لحساب نفسه دون وصاية منهم أو ولاية.
وضع الكمبيادور عينه على مدينة بلنسية حاضرة شرق الأندلس وأهم مدنه، وكانت مقر الملك المخلوع يحيى بن ذي النون الذي كان من قبل ملك طليطلة قبل أن يستولي عليها ألفونسو السادس سنة 478هـ، وكان قبل خروجه من طليطلة قد حمل معه كنوزًا طائلة تخرج عن الحصر، علم بوجودها في بلنسية اللص المغامر الكمبيادور فقرر أن يستولي عليها بأي وسيلة، ووضع من أجل ذلك خطة محكمة بالغة الدهاء تقوم على خداع كل الأطراف المسلمين منهم والصليبيين، بوعود معسولة وعهود مقطوعة، ومن خلال سلسلة محكمة من ألاعيب اللصوص والسرَّاق، استطاع الطاغية الكمبيادور أن يستفرد بالمدينة ويضمن حيادية كل الأطراف الفاعلة في المنطقة من مسلمين وإسبان حتى أحكم قبضته على المدينة، ولم يجد يحيى بن ذي النون الذليل الخانع الذي سبق وأن تجلل بالعار أمام الإسبان في طليطلة، لم يجد بدًا من أن يخضع لنفوذ وقوة الكمبيادور، ودفع له الجزية، ووضع نفسه تحت حمايته، وكان مقدار الجزية السنوية مائة ألف دينار سنويًا، وهو مبلغ طائل بمعايير عصره كان أولى بالذليل يحيى بن ذي النون أن يضعها في قوة حربية يدفع بها عدوان النصارى ومذلة الخضوع إليهم.
كانت الأوضاع الداخلية في مدينة بلنسية شديدة الاضطراب، ذلك أن أهل المدينة بزعامة قاضي بلنسية ابن جحَّاف المعافري قد قرروا تحطيم النير المرهق الذي فرضه الطاغية الكمبادور على المدينة، فكاتب ابن جحاف المرابطين الذين فتحوا مرسية دانية، وطلب منهم نجدة بلنسية من الكمبيادور ومن الحكم الذليل الخانع ليحيى بن ذي النون، وبالفعل أرسل المرابطون سرية مكونة من ثلاثمائة جندي استلمت مقاليد الأمر في بلنسية في رمضان سنة 485هـ، وقامت الجموع الغاضبة بقتل يحيى بن ذي النون، وأصبح ابن جحَّاف حاكمًا على بلنسية، واستعد لمحاربة الكمبيادور وعصابته.
لما وصلت هذه الأنباء الخطيرة للطاغية الكمبيادور أسرع بعصابته الكبيرة وضرب على المدينة حصارًا مرهقًا وصمد المسلمون في بلنسية صمودًا قويًا جعل الطاغية يغير خطته ويلجأ للمفاوضة والصلح شريطة خروج المرابطين من المدينة، وجنح ابن جحَّاف لقبول الصلح وبالفعل خرج المرابطون وانسحب الكمبيادور وهو يضمر النكوث بعهده، والعودة مرة أخرى.
أخذ الكمبيادور يتصل سرًا ببعض الزعماء المحليين الطامعين في الزعامة مثل بني طاهر أمراء مرسية السابقين النازلين ببلنسية، وذلك للتآمر على ابن جحاف، وفي الوقت نفسه أخذ في الإغارة على أطراف بلنسية وتدمير مزارعها وانتساف حقولها للتضييق على أهل المدينة في أقواتهم، واشتد الكمبيادور في مطالبه، وأرهق ابن جحاف بها حتى وصل به الأمر لئن طلب من ابن جحاف أن يسلم كل موارد المدينة وأن يقدم ابنه رهينة بولائه، وعندئذ قرر ابن جحاف محاربة الطاغية وأغلق أبواب المدينة وأرسل إلى المرابطين يستصرخهم.
ضرب الكمبيادور وعصابته التي تبلغ قرابة العشرة آلاف مقاتل حصارًا محكمًا على المدينة وقطع عنها كل وسائل المواصلات والإمدادات، واعتزم أهل بلنسية الصمود حتى الموت، وطال الحصار المرهق حتى بلغ العشرين شهرًا، ونفدت الأقوات كلها حتى أكل الناس الكلاب والقطط والفئران والجيف، وفي ربيع الأول سنة 486هـ عظم البلاء وتضاعف الغلاء واستوى الجوع على الفقراء والأغنياء، وأمر ابن جحاف باقتحام الدور والقصور بحثًا عن القوت المخزون، ومن هول الحصار أكل الناس حشائش الأرض والصبار وعروق السوس، ثم أكلوا لحوم الموتى والجيف من بني آدم وذلك كله والمسلمون لم يتحركوا لنجدة المدينة بما في ذلك المرابطون أكبر قوة إسلامية في الأندلس، حيث تركوا المدينة لمصيرها المحتوم.
وكان الطاغية إذا خرج أحد من أهل المدينة قبض عليه وأحرقه بالنار وعلق جثته على جذوع الأشجار لترويع الناس وبث الفزع في صدورهم، ودخل جمادى الأولى وهلك معظم الناس ولم يبق إلا النذر اليسير، وأجبر الناس ابن جحاف على مفاوضة الطاغية وقبول التسليم، وذلك بشروط أهمها ضمان سلامة السكان وحريتهم الدينية وضمان أملاكهم وأموالهم، وتمت المفاوضة في آخر جمادى الأولى سنة 487هـ، ودخل الطاغية وعصابته المدينة واحتلوا أبراجها خلافًا لشروط المعاهدة.
كان الكمبيادور يتلمظ غيظًا على ابن جحاف الذي تصدى له قرابة العامين، فلما أحكم قبضته على المدينة أمر بالقبض على ابن جحاف وأسرته، وعذبه عذابًا شديدًا ثم أمر بإعدامه حرقًا بمنتهى الوحشية، ولقي هذا القاضي المجاهد مصيره بشجاعة مؤثرة، وقد همَّ الطاغية بتحريق أسرة ابن جحاف لولا أن صرفه عن ذلك بعض خواصه، كما أمر بتحريق جماعة من أعلام بلنسية، وتجبر وطغى واشتد في إرهاق أهل المدينة، ومن الظواهر المؤلمة التي وقعت في هذه النازلة، التفاف مجموعة من الخونة المسلمين حول الطاغية الكمبيادور، معظمهم من الأشرار والسفلة، وقد ارتد عن الإسلام جماعة منهم، وعاثوا في الأرض فسادًا، فقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال، وآذوا أهل المدينة أكثر من النصارى أنفسهم.
الجدير بالذكر أن قبضة الطاغية لم تدم طويلاً على بلنسية إذ أسرع المرابطون بجيش ضخم وحاصروه وحاول ألفونسو السادس إنجاده ولكن المرابطين استعادوا المدينة لدولة الإسلام في شعبان سنة 495هـ.
الجمعة، 4 سبتمبر 2009
حصار بلنسية 487هـ ) حصار الامة (
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري