الجمعة، 4 سبتمبر 2009

حصار سرقسطة 512هـ ) حصار الامة (

  • على الرغم من أن حادثة سقوط طليطلة سنة 478هـ كانت من الحوادث الهامة والخطيرة والمؤثرة ليس في الأ،دلس وحدها، ولكن في العالم القديم بأسره كما ذكرنا في ثنايا الحديث عنها، إلا إنها أدت لحدوث تداعيات كبيرة وتغييرات جوهرية على ساحة الأحداث في الأندلس؛ إذ عبرت جيوش المرابطين من عدوة المغرب تحت قيادة يوسف بن تاشفين لنجدة دولة الإسلام في الأندلس، وانتصرت على ألفونسو السادس وجيوشه في الزلاقة سنة 479هـ، ثم ما لبثت أن اسقطت دولة ملوك الطوائف الذليلة الخانعة، واستقبلت الأندلس عهدًا جديدًا هو عهد الحكم المرابطي الذي حقق عدة انتصارات هامة على الإسبان أبقت دولة الإسلام في الأندلس على قيد الحياة وأجلت سقوطها لعدة قرون.
    غير أن الأمة الإسلامية ما لبثت تنعم بالأمن والاستقرار مع حكم المرابطين حتى فجعت بنكبة ونازلة عظيمة بفقد قاعدة جديدة من قواعدها العظيمة وهي سرقسطة قاعدة الثغر الأعلى في الأندلس.
    كانت مدينة سرقسطة ـ وقد اشتق اسمها العربي من اسمها الروماني caesarAugust ـ تمثل منذ سقوط دولة الخلافة الأموية مركز الزعامة للأسر العربية والرئاسة المحلية في الثغر الأعلى، وكانت تتمتع بمركز جغرافي فريد جلب عليها كثيرًا من المتاعب والحروب؛ إذ كانت تمثل الحد الفاصل والحاجز الطبيعي بين أراضي المسلمين وأراضي النصارى الإسبان وكان يجاورها العديد من الإمارات الإسبانية منها إمارة برشلونة من الشرق، ومملكة أراجون ونافار من الشمال، ومملكة قشتالة القديمة من الغرب، مما جعلها في موقف حرج كان يتطلب منها أن تكون في حالة استنفار دائم وجمهورية قتالية تحسبًا لعدوان النصارى الذي كان يتربص بالمسلمين الدوائر، ولكن العكس هو الذي حدث، فلقد كان ملوك الطوائف كما أسلفنا نذير شؤم على الإسلام والمسلمين، فلقد اتبع ملوك سرقسطة سياسة نابعة من أخلاقياتهم ودينهم، فلقد ترك ملوك سرقسطة قتال النصارى الإسبان المتربصين بالمسلمين، ودخلوا في حروب مدمرة مع جيرانهم المسلمين من ملوك طليطلة وملوك إشبيلية، ومن أجل أن يتفرغوا لقتال المسلمين هادنوا نصارى إسبانيا ودفعوا لهم الجزية واستعانوا بهم في قتال إخوانهم وجيرانهم المسلمين.
    عندما آل حكم دولة الإسلام في الأندلس إلى المرابطين شعروا ومنذ الساعة الأولى بهذا المركز الدقيق والحساس لمدينة سرقسطة في أتون الإمارات الإسبانية الوثابة التي استطاعت بالفعل أن تنتزع بعض القواعد الشمالية الهامة لسرقسطة مثل المنارة، ووشقة، وبربشتر، فقام المرابطون بفتح سرقسطة سنة 503هـ وأحكموا قبضتهم عليها، فأسرع ألفونسو المحارب ملك أراجون والذي كان أشد ملوك إسبانيا عداوة ومحاربة للمسلمين وأيضًا أكثرهم شجاعة وإقدامًا وإنما لُقب بالمحارب لكثرة محاربته للمسلمين، أسرع ألفونسو وشن حملة عسكرية قوية على سرقسطة ولكن القوات المرابطية ردته على أعقابه وذلك سنة 504هـ.
    ابتداءً من سنة 504هـ حدث نزاع داخلي بين الممالك الصليبية ودخل ألفونسو المحارب في قتال عنيف مع مملكة قشتالة، فأحسن المرابطون استغلال الحدث وشنوا غارات قوية على إمارة برشلونة تحت قيادة البطل الشهم محمد بن الحاج الذي استشهد في القتال سنة 508هـ وخلفه رجل في ولاية سرقسطة كان من طراز ملوك الطوائف، انغمس في اللهو والعبث ومناهدة الشهوات على الرغم من الظروف الحرجة والأخطار المحيطة بسرقسطة من كل مكان، وهذا التراخي والتهاون بمنصب الولاية ومتطلباته وأهلية من يليه جعل الأمة تدفع ثمنًا غاليًا جدًا ليس في سرقسطة وحدها ولكن في مواطن كثيرة.
    تم تعيين والي جديد لسرقسطة بعد رحيل السابق، وكان الوالي الجديد وهو الأمير عبد الله بن مزدلي رجلاً كفؤًا للمنصب، شعر بخطورة الوضع وتربص القوى الإسبانية بمدينته فأخذ في تحصينها وشحن الجنود والأقوات فيها، ثم خرج على رأس قواته لشن هجمات استباقية على نصارى إسبانيا لبث الرهبة والفزع في قلوبهم، وليعرفهم أن رجلاً جديدًا قد نزل الساحة لقتالهم لعلهم يرتدعون، بيد أن هذه التحركات كلها لم تفد في ردع الإسبان عن مواصلة مشاريعهم ضد سرقسطة، بل أدى لتطوير سير القتال لزاوية أخرى وأصبحت حملة صليبية كاملة وبالمعنى الحقيقي لوصف الحملة.
    كان السبب وراء اتساع دائرة العدوان الصليبي على سرقسطة واشتراك الفرنسيين مع الإسبان فيه أن أصداء الحروب الصليبية المتتالية التي شنها ألفونسو المحارب ضد مسلمي الأندلس قد عبرت جبال البرانس وبلغت كرسي البابوية في قلب أوروبا، مما حدا ببابا روما لئن يبارك هذه الحروب ويطفي عليها صبغة الحروب الصليبية، وهذه الدعوة والمباركة المشئومة جاءت في وقت كانت أوروبا فيه تضطرم بروح صليبية قوية للنجاحات التي حققها الصليبيون في بيت المقدس قبل عشرين سنة (491هـ)، فعبرت حملة قوية من فرنسا للاشتراك مع الإسبان في محاربة مسلمي سرقسطة وذلك سنة 51هـ، ثم اجتمع أساقفة فرنسا وإسبانيا في العام التالي 512هـ، وقرروا إرسال حملة ثانية لمساعدة ألفونسو المحارب على فتح سرقسطة، وقد انضم في هذه الحملة الكثير من الأساقفة والرهبان والقساوسة، حتى أصبح الصليبيون قوة ضخمة متعددة الجنسيات وتحظى بمباركة ودعم بابا روما رأس الصليبية العالمية بدأ الإسبان والفرنسيون في حصار سرقسطة ابتداءً من صفر سنة 512هـ وقذفوها بالمنجنيق لدك أسوارها العالية، والعجيب أن الذي كان يشرف على آلات الحصار وتشغيلها طائفة من الفرنسيين ممن اشتركوا في حصار بيت المقدس واقتحامه سنة 491هـ، ورغم ضراوة القصف الصليبي وشدة محاصرته لسرقسطة إلا إن أهلها ظلوا صامدين حتى طال الحصار لسبعة شهور وبدأ اليأس يدب في قلوب الصليبيين وبدأت مؤنهم في النفاد حتى أصبحوا على وشك رفع الحصار، لولا أن شجعهم الأساقفة وخاصة أسقف مدينة «وشقة» الذي وضع كنوز كنائسه تحت تصرف الحملة لشراء المؤن والأقوات.
    في هذا الظرف الدقيق والوضع العصيب وقع بقدر الله عز وجل وحده وفاة الوالي القدير عبد الله بن مزدلي فاضطرب أهل المدينة وارتبكت دفاعات البلد، وحاروا فيمن يولونه عليهم ولم يجسر أحد على تحمل هذه المسئولية في هذه الأوضاع العصيبة، فخرج وفد من أكابر علماء سرقسطة لطلب النجدة من الأمير تميم بن يوسف بن تاشفين وكان واليًا على شرق الأندلس ومقره في بلنسية، وبالفعل التقوا معه وشرحوا له أوضاع المدينة وضخامة الهجوم الصليبي عليها، وبالفعل أعد الأمير تميم جيشًا مرابطيًا قويًا وسار به لمناجزة الصليبيين واستبشر أهل سرقسطة خيرًا وأصروا على الصمود والثبات.
    وبالفعل وصل المرابطون بجيش كبير تحت قيادة الأمير تميم إلى سرقسطة وعسكر في حصن قريب منها وهناك حدث ما لم يكن في الحسبان أبدًا، ذلك أن المرابطين وقفوا مكانهم لم يتحركوا لنجدة المحاصرين في سرقسطة، وقد أصيب أميرهم تميم بن يوسف بالجبن والفزع من ضخامة الجيوش الصليبية المتحدة من فرنسا وإسبانيا، وداخله الخوف الشديد من قتالهم، وكان الأمير تميم ليس أهلاً لقيادة الجيوش فهو قليل الخبرة القتالية، وإنما قادها لمنزلته الأميرية فهو ابن البطل الكبير أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، مما جعله يحجم عن القيام بعمل مشرف يحفظ به ماء وجهه وهيبة المرابطين العسكرية، ويتجنب به لوم التاريخ والأجيال.
    وقد شعر أهل سرقسطة بتقاعس المرابطين عن لقاء الصليبيين، وترددهم في الصدام معهم فأرسلوا للأمير تميم قائد المرابطين رسالة مؤثرة مليئة بالعبارات المبكية ولكن بصياغة حازمة وأبيه يناشدونه فيها بالتقدم لنجدة المحاصرين وقد كتبها قاضي سرقسطة ثابت بن عبد الله في شهر شعبان سنة 512هـ جاء في بعض أجزائها ما يلي: «وما كان إلا أن وصلت، وصل الله برك بتقواه، على مقربة من هذه الخضرة، ونحن نأمل منك بحول الله أسباب النصرة، بتلك العساكر التي أقر العيون بهاؤها، وسر النفوس زهاؤها، فسرعان ما انثنيت وما انتهيت، وارعويت وما أدنيت خايبًا عن اللقاء، ناكصًا على عقبيك عن الأعداء، فما أوليتنا غناء، بل زدتنا بلاء، وعلى الداء داء، بل أدواء، بل أذللت الإسلام والمسلمين، واجترأت فضيحة الدنيا والدين، فما هذا الجبن والفزع، وما هذا الهلع والجزع، بل ما هذا العار والضيع، أتحسبون يا معشر المرابطون وإخواننا في ذات الله، إن سبق على سرقسطة القدر، بما يتوقع من المكروه والحذر، أنكم تبلغون بعدها ريقًا وتجدون في سائر بلاد الأندلس عصمها الله مسلكًا من النجاة أو طريقًا، كلا والله ليسوا منكم الكفار عنها جلاء وفرارًا، فسرقسطة حرسها الله هي السد الذي إن فتق، فتقت بعده أسداد، والبلد الذي إن استبيح لأعداء الله استبيحت له أقطار وبلاد، فالمنية ولا الدنية، والنار ولا العار فأين النفوس الأبية، وأين الأنفة والحمية، وأين الهمم المرابطية؟ ولن يسعك عند الله، ولا عند المؤمنين، عذر في التأخر والارعواء من مناجزة الكفار والأعداء، وكتابنا هذا أيها الأمير الأجل، اعتذار تقوم لنا به الحجة في جميع البلاد وعند سائر العباد، إلا وأنتم المطالبون عند الله بدمائنا وأموالنا والمسئولون عن نسائنا وأطفالنا لإحجامكم عن أعدائنا وتثبطكم عن إجابة دعائنا، ومهما تأخرتم عن نصرتنا، فالله ولي الثأر لنا منكم، وعند الله لنا لطف خفي، ويغنينا الله عنكم وهو الحميد الغني» وهذه الرسالة لا تحتاج منا إلى تعليق فسطورها وفيض آلامها وأحزانها أبلغ من أي كلام أو وصف.
    وهكذا تركت سرقسطة لمصيرها، وتطاول عليها الحصار، وعصف الجوع بأكباد أهلها، وعانوا ضروبًا مروعة من العنت والمشقة، وبدأت الأمراض والأوبئة تفتك بسكان المدينة، ويأسوا من إجابة صريخهم وتقطعت بهم السبل واضطروا في النهاية لطلب التسليم وذلك في 3 رمضان سنة 512هـ، ولكن بشروط معقولة إذ خرجوا من المدينة بأموالهم وعيالهم، وقد خاف ألفونسو المحارب من انهيار عمران المدينة بهجرة أهلها منها فأذن لهم بالبقاء في المدينة وممارسة كافة شعائرهم وسائر حرياتهم الدينية.
    وهكذا سقطت سرقسطة بعد سقوط طليطلة، وتفارط عقد دولة الإسلام في شمال شرق الأندلس، ومثل سقوطها أول ضربة كبيرة حقيقية نالت دولة المرابطين وضعضعت هيبتهم العسكرية وهزت أركانها، وفتحت الباب أمام إسبانيا النصرانية لئن تنمو لديها روح قوية من التحدي والعدوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري