- كانت هزيمة الجيوش الموحدية في معركة العقاب سنة 609هـ أمام جيوش قشتالة نذيرًا بانهيار قواعد الأندلس الكبرى ودخول حركة الاسترداد الصليبي لمرحلة جديدة، تحركت فيها على ثلاث جبهات، في الشرق ويقودها خايمي الأول ملك أراجون، وفي الوسط ويقودها فرناندو الثالث ملك قشتالة، وفي الغرب ويقودها ألفونسو التاسع ملك ليون، وبينهم اتفاق مرسوم على مناطق نفوذ وحرب كل مملكة.
كانت الجزائر الشرقية أو جزر البليار، وهي ميورقة ومنورقة ويابسة وعدة جزر صغرى أخرى من المراكز الجهادية الإسلامية الشهيرة في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، منها خرجت الأساطيل الأندلسية للإغارة على أوروبا خاصة إيطاليا وفرنسا وكان لمسلمي تلك الجزر صولات وجولات باهرة في الثغور الأوروبية لعهود طويلة أدخلت الرعب والفزع في قلوب الأوروبيين وحتى داخل كرسي البابوية في روما نفسها.
كانت تلك الجزائر الشرقية تقع في دائرة طموحات ملك أراجون خايمي الأول، وكان أبوه بيدرو الثاني من قبل يخطط للاستيلاء عليها، وقد وقعت حادثة أججت العداء الصليبي ضد تلك الجزر، حيث قام والي جزيرة ميورقة أبو يحيى بحملة بحرية استولت على عدة مراكب لتجار إيطاليا وإسبانيا مما أدى لاشتعال الغضب العارم في أوروبا ضد جزيرة ميورقة، وتطوع الآلاف من أهل جنوب إيطاليا للاشتراك في غزو الجزيرة، وقام بابا روما بتشجيع الحملة عليها ومباركتها، وخاطب خايمي الأول في ذلك سنة 626هـ.
دعا خايمي الأول مجلس الكورتيس الأراجوني وعرض عليه مشروع الاستيلاء وطلب منه فرض ضرائب إضافية لتمويل الحملة الصليبية على ميورقة، فوافقوا على الفور، وعرض أكابر الأحبار والرهبان والأعيان والكبراء الاشتراك في تلك الحملة، وفي شوال سنة 626هـ خرج الأسطول الأراجوني يحمل قوات ضخمة من إيطاليا وأسبانيا والمتطوعة وغيرهم وكان والي الجزيرة أبو يحيى رجلاً حازمًا بصيرًا بفنون القتال، فاستعد للدفاع عن جزيرته، خاصة بعد أو صلته أخبار الحملة الضخمة المشتركة المتجهة إلى سواحله غير أنه وفي أثناء التجهيز والتحضير لمواجهة العدو الصليبي فوجئ بمؤامرة تستهدف خلعه وقتله دبرها بعض أعيان الجزيرة، فقبض عليهم ثم أمر بإعدامهم وهذا وإن كان حزمًا منه إلا إنه ليس من الحكمة في هذا الوقت العصيب، حتى لا تنفر عشائرهم وقبائلهم وتأتي بما لا يحمد عقباه والعدو على الأبواب، ولعل ذلك من كمال حكمة التشريع الذي نهى فيه عن إقامة الحدود وقت الحرب وبأرض العدو، والمهم أن الإرجاف والتوتر قد زاد في المدينة جدًا، وظهر السخط والغضب علانية.
في تلك الأجواء المضطربة ظهرت سفن العدو الصليبي في مياه جزيرة ميورقة، فبادر الوالي أبو يحيى بالصفح عن خصومه واسترضى الغاضبين، وتعاهد الجميع على الدفاع عن بلدهم ولكن السفن الصليبية استطاعت خلال تلك الفترة أن تدخل ميناء ميورقة ليلاً ورست على ساحلها، ولم تستطع الحاملة المكلفة بردها أن تفعل شيئًا.
نزلت قوة مختارة من الفرسان الصليبيين بقيادة الأخوين دي مونكادا وهما من أشهر فرسان إسبانيا وقتها، وتحصنت بإحدى التلال القريبة من الميناء، وهناك وقعت أول معركة بين المسلمين والصليبيين، انهزم فيها العدو الصليبي هزيمة شديدة، أبيدت خلالها معظم القوات، وقتل عدد من الأشراف والقادة، وفي مقدمتهم الأخوان دي مونكادا، فاضطرم الصليبيون غيظًا وحقدًا وصمموا على الانتقام.
ضرب الصليبيون حصارًا شديدًا على ميورقة، وأخذوا يضربونها بمختلف الآلات وبشدة، ودافع المسلمون دفاعًا مجيدًا عن مدينتهم، وخرجت مجموعة فدائية من المسلمين لقطع مصدر المياه عن الجيش الصليبي، فقبض عليهم الصليبيون وقطعوا رؤوسهم وألقوها داخل المدينة، ومع شدة الحصار بدأ اليأس والجوع يعصف بالمدينة، ودب الخلاف مرة أخرى بين المدافعين، وتسلل بعضهم خارج المدينة طلبًا للنجاة، وفي نفس الوقت اقترب الصليبيون من الأسوار وحطموا أربعة من الأبراج.
عندها رأى الوالي أبو يحيى أن الوقت قد حان للتفاوض على تسليم المدينة، فعرض أولاً على خايمي الأول مبلغًا طائلاً من المال نظير انسحابه عن المدينة، فرفض خايمي، فعاد وعرض عليه تسليم المدينة على أن يأمن المسلمون على أرواحهم وأموالهم، فرفض أيضًا، وذلك لرغبة الصليبيين الانتقام لآل مونكادا وحقدًا منهم على الإسلام والمسلمين، وعندئذ عول أبو يحيى على الصمود حتى الموت، في حين استعد الصليبيون لاقتحام المدينة، وفي يوم 12 صفر سنة 627هـ ومع أضواء الفجر بدأ الهجوم الشامل على ميورقة، واقتحم الصليبيون أسوار المدينة بعد أن نقبوها، فلقيهم المسلمون بقيادة الوالي الجسور أبي يحيى، ودارت معركة مهولة لم تشهد الجزر الشرقية مثلها من قبل، وكانت أعداد الصليبيين ضخمة، فلم تستمر المعركة سوى يومين سقطت بعدها المدينة، وسقط معها ثلاثون ألف مسلم في مذبحة مروعة تدل على مدى العداء الصليبي ضد المسلمين، وقد وقع الوالي أبو يحيى وولده في الأسر، فأمر خايمي بتعذيب أبي يحيى حتى الموت، فاستمر تحت العذاب خمسة وأربعين يومًا حتى توفي رحمه الله وألحقه بركب الشهداء، أما الولد وكان صبيًا في الثالثة عشرة فقد أخذ أسيرًا وأجبروه على التنصر.
وهكذا سقطت ميورقة بعد أن حكمها المسلمون لأكثر من خمسة قرون، وكان لسقوطها دوي كبير في أوروبا واستقبلوه بمنتهى السعادة والسرور، فلقد زال الكابوس الذي ظل يهدد السواحل الأوروبية لعدة قرون، أما خايمي الأول فقد لقب من ذلك التاريخ بالفاتح.
الجمعة، 4 سبتمبر 2009
حصار ميورقة 627هـ ( حصار الامة )
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري