يتوالى المشهد القرآني في سورة "الكهف" في جملة من الأسرار التي تتكشَّف رويدًا رويدًا، مع نهاية كل قصة كطبيعة الحال في مسمَّى السورة؛ ذلك الكهف المليء بالأسرار دائمًا والذي آوى إليه: ﴿ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13].
والكهف وإن كان في حياة الناس رمزًا للسر فإنه - كَسُورةٍ قرآنية - قدَّم صورة نموذجية لِما ينبغى أن تكون عليه الحقيقة، فكانت السورة بحق ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [الكهف: 65]، نستعين بها على فهم حقائق الحياة النموذجية من خلال كهوف وأسرار، اختلف فيها عِلم الأرض عن علم السماء.
هذا التباين بين علم الأرض وعلم السماء ظهر جليًّا في موضوعنا - بيت القصيد - وهى رحلة العبد الصالح الخضِر - عليه السلام - مع موسى - عليه السلام - حيث كان رمزًا لعِلم السماء، وموسى رمزًا لعلم الأرض.
لقد كانت جملة المشاهد التي مررنا عليها كثيرًا في ثنايا القصة هي ثلاثية السفينة والغلام والجدار، وقد جاء العبد الصالح لينطلق في حركة الحياة، ومعه موسى عليه السلام يراقب ويشاهد، كما كان كذلك يعترض ويعاتِب، ولا يستطيع مع أفعال العبد الصالح صبرًا، بل كان يعترض وَفْقًا للعلم الظاهر الذي خفِي عليه العلم الباطن، وما أرسل الله العبد الصالح لموسى إلا ليكشف له عن كهوف الحياة، وما ينطوي فيها من أسرار، لا يعرفها إلا من ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ [الأنعام: 103].
لقد كشف حادث السفينة عن فساد الملِك أو الحاكم، وكشف حادثُ الغلام عن فساد النَّشء أو الأسرة، كما كشف حادث الجدارِ عن فساد المجتمع أو الرعية؛ أي إنَّ ثلاثية السفينة والغلام والجدار كانت رموزًا لفساد عمَّ وطمَّ؛ فكان العبد الصالح ﴿ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ [الكهف: 82]، ليُصلح هذا الفساد، وإن كان أهل الأرض من تعوُّدهم حسبوا أنه وضعٌ طبعي، فألِفوا معه حركة تلك الحياة دون أن يحرِّكوا ساكنًا.
السفينة كانت لقوم ضعفاء شرفاء، كذلك الغلام كان أبواه من هؤلاء الضعفاء الشرفاء، الذين سيصطدمون يومًا مع عُتاة جبارين أقوياء، هم أهل القرية البخلاء.
والغلام الذي قتله الخضِر كان يحمل في طبيعته خُبثَ فئةِ الظالمين الأقوياء، كحال ذلك الملك الظالم: الرمز الأكبر لكل جبار عنيد؛ فكانت الثلاثية اصطدامًا بين فئتين: فئة ضعيفة مسكينة، وفئة قوية متجبِّرة، وجاء العبد الصالح: ﴿ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [الكهف: 65]؛ ليكشف سر الله إلى الأرض بضرورة عم السكوت على كل ظالم، والضرب بيد من حديد على كل متكبر جبار.
إن الإصلاح الاجتماعي الذي قدَّمه لنا العبد الصالح، كان مراد الله في الأرض، ولقد ختم القصة وأوضح الهدف في أن كل شيء تمَّ كان بمراد الله: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: 82].
ولكننا نستطيع أن نخرج بثلاث وسائل ناجعة يمكن الاستعانة بها عند تنفيذ أيِّ مشروع إصلاحي:
1- استعمال الكيد للوصول إلى الهدف المشروع :
إننا نؤكد أن الهدف المنشود يجب أن يكون مشروعًا أولاً قبل اللجوء إلى الحيلة واستعمال الكيد، والكيد هو التدبير في خفاءٍ، وقد عرفنا: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]، ولكنَّ كيد الله فوق كل كيد: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [الطارق: 15 - 17]، وما كان كيد العبد الصالح واستخدامه الحيلة في خرق السفينة إلا ليفرَّ هؤلاء النفر المساكين الذين يعملون في البحر من ذلك الملِك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبًا.
وتأمَّل معي - عزيزي القارئ - أليس هذا الكيد - الذي هو من تدبير الله في القصة كلِّها – مشابهًا لمرحلة مبكرة في قصة سيدنا موسى في طفولته، والذي غفل عن إدراك المغزى بطبيعته البشرية مع العبد الصالح عندما قام بخرق السفينة، ففي مرحلة الطفولة لجأت أم موسى إلى الكيد واستعمال الحيلة بوحي من الله: ﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]، ما أجملَ كيدَ الله! والوضع مشابه وموسى وهو طفل؛ حيث كان في عرض البحر ضعيفًا كهؤلاء المساكين الذين يعملون في البحر، وقد ألقته أمه كيدًا في البحر خوفًا من الفرعون الظالم، وكذلك قام العبد الصالح بخرق السفينة لينجو المساكين من الملك الظالم، وكل ذلك بكيد الله، وعلم الله، وتقدير الله؛ ليشرح الخضر - عليه السلام - في القصة الفرق الشاسع بين علم الأرض وعلم الكون، كما تأمل معي – عزيزي القارئ – الكيد الذي لجأ إليه سيدنا يوسف - عليه السلام -: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ﴾ [يوسف: 76]، ويوسف هنا ألهمه الله ذلك الكيد ليصل إلى الهدف المشروع بأن يأوي إليه أخاه في مصر، حتى تتكشف أسرار قصَّته، الرؤيا التي رآها، وتتضح خيوطها عند نهاية الأحداث، حيث يسدل الستار في مصر، يسجد ليوسف إخوته، والأبوانِ على سرير الملك بجوار يوسف: ﴿ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [يوسف: 100].
ولتعلم قارئي الكريم: إنْ هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار، هي يدُ المدبِّر المهيمن العزيز الغفار.
2- المبادرة في درء المفاسد:
والمفسدة هنا كانت هذا الغلام الذي: ﴿ كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ [الكهف: 80]، وحكمة الله فسرها العبد الصالح بأن الله سيعوض الأبوين ولدًا آخر: ﴿ خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 81]، وتأمل معي - عزيزي القارئ - الوضع المشابه لموسى عندما دخل مدينة في مصر: ﴿ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [القصص: 15]، وسارت القصة وانتهت بقتل موسى واحدًا من أهل مصر، ليأتي الناصح الأمين الذي يطلب من موسى الخروج قائلاً له: ﴿ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، وخرج موسى بالفعل وبدأ مرحلة جديدة في حياته في أهل مدين، وعوَّضه الله خيرًا في المكان الجديد، وفى زمن آخر جديد.
إن موسى لم يستطيع صبرًا مع حادثة قتل الغلام، وهذا الأمر إذا رآه أيٌّ منا يرفضه كذلك؛ لأنه - ببساطة - قتلَ نفسًا زكية بغير نفس، ولكن تقرير العبد الصالح أن هناك تدبيرًا خفيًّا من الله، ودرء هذه المفسدة - والمتمثلة في الغلام - هو إصلاحٌ اجتماعي لحال الأبوين؛ لتبرز الحقيقة بعد هذا الظاهر الذي لا يفهمه البشر في صورة تعويض إلهي بغلام آخر يخفض لأبويه جناح الذل من الرحمة؛ ليتغير حال النشء والأسرة عما قريب بتدبير الله المطلوب.
3- المبادرة في جلب المصلحة والعمل الصالح:
وهنا ننتقل إلى الدرس الثالث في الإصلاح الاجتماعي، وخلاصته أن العمل الصالح لا يذهب ولا يضيع، ففي القرية التي استطعم موسى والخضِرُ أهلَها فأبوا أن يضيفوهما؛ كان الاثنان بمثابة غريبين دخلا إلى قرية، وهما في حالة جوع شديد، أبسط الأشياء أنَّ القوم كرام، إذا دخل غريب القرية أطعموه ولو لم يكن جائعًا، أو على الأقل عرَضوا عليه الطعام، فإذا كان جائعًا وجب عليهم إطعامه، ولكن أهل هذه القرية التي دخلها موسى والعبد الصالح قابلوهما بلُؤْم ونَذالة؛ ذلك أن موسى والعبد الصالح كانا جائعين وغريبين طلبا الطعام من أهل القرية، ولم يطلبا طعامًا فاخرًا، أو مائدة تحوى عشرات الأصناف، ولكنهما طلبا لُقمة تقيم أَوْدَهما، وتسكت جوعهما، فماذا فعل أهل القرية؟ أبوا، رفضوا أن يطعموهما حتى هذه اللُّقمة الصغيرة، وإذا بالعبد الصالح يجد جدارًا متهدمًا في القرية فيبنيه ويجمِّله ويجدده، ولم يُطِقْ موسى صبرًا، هؤلاء الناس رفضوا إعطاءنا لقمة ونحن جائعان، وأنت تقوم بهذا العمل لهم مجانًا تقدم لهم خدمة، تبني لهم جدارًا متهدمًا جزاءً على هذا اللؤم، وهذه النذالة، وتأتي الحقيقة المستورة لتبين لموسى - عليه السلام - الحكمة في بناء الجدار؛ فهذا الجدار لم يكن خيرًا لأهل القرية الذين تخلَّوْا عن مبادئ الشهامة، بل كان خيرًا لأبناء رجل صالح يُخشى عليهم من أهل القرية الذين لا يرعَوْن عهدًا، ولا يطعمون جائعًا؛ ولأنهم يفعلون ذلك لا يطعمون الجائع، ولا ينفقون شيئًا في سبيل الله، فقد منع الله - سبحانه وتعالى - عنهم الخير، وأبقاه لأولاد رجل كان صالحًا وتوفاه الله؛ ذلك أن العمل الصالح للأبِ يبقى لأولاده في الدنيا وينفعهم.
وتأمَّل قارئي الكريم .. أليس في حياة موسى السابقة موقفٌ مشابهٌ قدم فيه عمل الخير، وجلَب المصلحة للناس، ولم يفكر في الأجر الذي عاتب عليه العبد الصالح عندما بنى الجدار ولم يتخذ عليه أجرًا، لقد رفع موسى- وكان معروفًا بالقوة والمنَعة - الحجَرَ عن بئر مدين، وسقى الغنم لابنتي العبد الصالح في سورة: "القصص" وأغلب المفسرين يقولون: إنهما ابنتا سيِّدنا شعيب - عليه السلام - ولكن اتضح فيما بعد - وبعد فترة ليست بالطويلة - أنَّ في عمل الخير هذا الخيرَ العميم لسيدنا موسى؛ حيث تقاضى أجره الذي لم يطلبه من تقرير كلام سيدنا شعيب بالزواج من إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حججٍ، فسبحان مقدِّر الأقدار، وعالم الأسرار!
وما نحن إلا كالواقفين وراء الأستار، لا يُكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار، وكأنَّنا نردِّد ما قاله النبي المختار: ((لو صبَر أخي موسى....))، نعَم، لو صبر لعلمنا الكثير مما تُخفيه كهوف الحياة التي تواري الحقائق عنا.
ولقد تعلَّمنا من هذه القصة تلك الخلاصة: أن على الإنسان ألا يغترَّ بظواهر الأشياء، وأن يعلم أن هناك حقائق مخفية، وليعلم كل إنسان أنَّ كلَّ قدر قد يقع عليه - ليس له فيه اختيار - فيه حكمة.
والحكمة ليست دائمًا ظاهرة، ولقد حاول العبد الصالح، الخضر - عليه السلام - الإصلاح وَفْقَ علم الله وتقديره: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: 82].
ونحن هنا .. نتأمل ونتعلم...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري