الجمعة، 12 مارس 2010

البرادعي وإمكانية التغيير في مصر

  • تجنب القضايا الخلافية توسيع قاعدة المؤمنين بالديمقراطية
    يروج البعض في مصر لمقولة راح الكثيرون من الناس يصدقونها ويرددونها، مفادها أن التغيير مستحيل وأن حل مشكلات مصر أصبح مستعصيًا. يخلط هؤلاء بين نوعين من المشكلات، أولهما مشكلة النظام السياسي والتي من تجلياتها مشكلة التوريث، وما يرتبط بها من تحديات تجاوزتها دول صغيرة في عالمنا المعاصر مثل وجود دستور ديمقراطي محترم، وتداول السلطة، وضمان الحريات السياسية. أما النوع الثاني من المشكلات فهو تدهور معظم قطاعات الدولة من تعليم وصحة وإسكان ونقل ومياه وزراعة وصناعة وسياسة خارجية، بجانب تدهور الأخلاقيات والقيم.
    الأولوية –في اعتقادي– هي لإصلاح النوع الأول من المشكلات حتى يمكن أن تأتي حكومة وطنية منتخبة ومسؤولة أمام الشعب تكون قادرة على معالجة النوع الثاني من المشكلات. فهل يمكن للدكتور البرادعي المساعدة في إصلاح النظام السياسي؟
  • الأولوية لإصلاح النظام السياسي
    في اعتقادي الإجابة نعم، إذا استفاد البرادعي، مع القوى الوطنية المصرية، من السنن الكونية التي تمدنا بها تجارب شعوب وأمم أخرى. وأول هذه السنن هو إدراك أن التغيير هو سنة الحياة وأنه إذا لم يتحقق التغيير اليوم فسيتحقق غدا، وأن مصر ليست استثناءً من هذا.
    في مصر التغيير ممكن وفي المدى القصير أيضًا، شريطة أن نتخلى عن الخلط الضار بين النوعين السابق ذكرهما من مشكلات مصر، وأن نضع أمام أعيننا أولوية عليا واحدة هي العمل من أجل إصلاح النظام السياسي. فموقع النظام السياسي في الدولة الحديثة هو موقع القلب في جسم الإنسان، وكما أنه لا يمكن تصور وجود جسم سليم وحيوي دون قلب سليم، فإنه لا دولة حديثة بدون نظام سياسي حديث.
    وثاني هذه السنن هو إدراك أن الاستفادة من الحراك السياسي الحالي لن تتم من خلال تصور إمكانية تحقيق كل شيء وإنما عن طريق النضال من أجل ضمان الحد الأدنى من الضمانات الدستورية والديمقراطية المتعارف عليها.
    وهنا أتصور أن حديث البرادعي عن "إزالة العوائق الدستورية المقيدة للترشح" و"ضمان نزاهة الانتخابات" أمر في غاية الصواب ويتضمن ضمانات حقيقية لعملية سياسية حقيقية، وليس إملاءً لشروط مسبقة، أو انقلابًا على الدستور، لأن مصر لا تمتلك دستورًا ديمقراطيًا في الأساس، بل وقد أعادت التعديلات الأخيرة مصر إلى الوراء.
    كما أنّ الديمقراطية لا تأتي بالكفاح السياسي في إطار المؤسسات القائمة فقط، فمعظم حالات الانتقال جاءت نتيجةً لنضال له ثمن ضد السلطة القائمة لدفعها إمّا إلى التنازل والتفاوض من أجل الانتقال الحقيقي أو لإقصائها نهائيًا وإقامة نظام ديمقراطي.
    ومن هنا فوضع قائمة من المطالب الديمقراطية والضغط من أجلها والعمل على تغيير ميزان القوة داخل المجتمع لدعم هذه المطالب وتوسيع فئة المنادين بالديمقراطية أمور بديهية وقامت بها شعوب أخرى، وذلك على عكس ما يردده بعض المحسوبين على المعارضة.
    وأتصور هنا أن دعوة البرادعي هي خطوة أولى لتحريك الأمور في مصر وجس نبض القوى السياسية في مسألة الانتقال الحقيقي. وأتصور أيضا أن هناك عدة خطوات على البرادعي وعلى كل القوى الجادة العمل من أجلها، على نحو ما هو موضح في السطور التالية.

    التوافق حول قيادة وطنية
  • لدى المصريين اقتناع قوي بضرورة وجود رمز وطني، أو قائد كاريزمي، يقود الجماعة الوطنية نحو أهدافها. ومن هنا فالاتفاق على قيادة سياسية معتدلة ومقبولة من فئات واسعة من الجماهير أمر في غاية الأهمية.
    والمطلوب هنا قيادة تمتلك صوتًا توافقيًا ومهارات للتواصل والحوار، قيادة قادرة على إيصال صوت الديمقراطية إلى فئات واسعة من الشعب وإلى القوى الدولية المختلفة. وهذه سنة كونية أخرى حدثت في أكثر من حالة انتقال كالفلبين وإسبانيا وبولندا وجنوب أفريقيا والتشيك.
  • ولا شك أن الدكتور البرادعي يصلح لأن يقود الجماعة الوطنية في مصر خلال هذه المرحلة الانتقالية. وعلى كل القوى الوطنية الاستفادة من استعداده للمساهمة في إصلاح مصر بدلا من إعانة النظام باستدعاء نظرية المؤامرة أو إقحامه في خلافات هامشية أو إشكاليات أيديولوجية. وفي المقابل يجب أن يتصدى البرادعي لكل محاولات جره إلى تلك الخلافات ويجب أن يقاوم كل ممارسات النظام الترغيبية والترهيبية وأن يحذر من بعض المحطات الفضائية.
    وقد يقول قائل هل البرادعي الذي عاش خارج مصر لفترات طويلة يصلح لمنصب الرئاسة في مصر؟ والجواب هو أنه بجانب أنه أكد أن هدفه الآن هو المساهمة في إحداث التغيير وليس الترشح للرئاسة، فإن البرادعي –وغيره المئات في مصر في اعتقادي– يصلح لرئاسة مصر بعد الانتقال.
    فأنصار الاستمرار يروجون مقولة أن شؤون الحكم تحتاج إلى من يمتلك الخبرة بأوضاع البلاد والعالم، وهذه المقولة ليست حقيقية ولها أهداف أخرى. فالحكم في كل أنحاء الأرض يعتمد اليوم على عدة مقومات ليس من بينها –بالبديهة- الخبرة الطويلة في شؤون الرئاسة.
    وفي دول كثيرة وصل علماء وأدباء بل وزعامات عمالية إلى سُدة الحكم ومواقع وزارية. المهم أن يمتلك المرشح رؤية وطنية محددة لنهضة البلاد، وأن يقتنع اقتناعًا تامًا بإقامة دولة القانون حقيقةً وليس شكلا مع استقلال القضاء ووجود آليات فعالة للرقابة وفصلها تمامًا عن السلطة التنفيذية، وأن يعمل على إقامة دولة المؤسسات والاعتماد على معايير الإنجاز والكفاءة، وإفساح المجال أمام الخبراء والاستشاريين في كافة المجالات.

    الديمقراطية الآن والتنافس لاحقا
  • ومن السنن الكونية اللازمة لنجاح أي تحرك سياسي ديمقراطي تكتل القوى الوطنية وتشكيل بديل معارض "ديمقراطي" يضم كل القوى التي تؤمن بالتداول السلمي على السلطة والحريات السياسية وبعدم الانقلاب على الديمقراطية. وهذا البديل هو تحالف موضوعي يستهدف تحقيق مصلحة وطنية وأولوية مشتركة هي الديمقراطية، ويتوافق أعضاؤه على تأجيل التنافس الأيديولوجي إلى مرحلة لاحقة.
    أي أن هدف التحالف لا يجب أن يدور حول برامج اقتصادية أو اجتماعية محددة وإنما حول وضع إطار سياسي ديمقراطي يُمكّن كل التيارات والقوى السياسية من العمل بحرية وشفافية بعد الانتقال، وذلك على النحو الذي فصّلناه في حديثنا عن الكتلة التاريخية على قاعدة الديمقراطية في اللقاء التاسع عشر لمشروع دراسات الديمقراطية الذي انعقد في أوكسفورد في يوليو الماضي.
    أولويتنا هي تجاوز خلافات المصالح والأيديولوجيات "مؤقتًا" والكف عن انتقاد بعضنا البعض، والتركيز على هدف جامع هو التوافق حول "إجراءات" إقامة نظام سياسي ديمقراطي حقيقي وإنهاء الحكم المطلق.
    وبالطبع ليس مطلوبا "الآن" "الاتفاق" على نواتج هذا النظام أو نوعية السياسات المنشودة، فهذا هو موضع التنافس بعد قيام النظام الديمقراطي، الذي يجب أن يحميه القانون والقضاء، والأهم، ضمير المصريين الذين سيستعيدون ثقتهم في الدولة والنظام والحكومة متى اطمأنوا بأن الدولة دولتهم جميعًا وأن النظام السياسي يعبر عن قيمهم وطموحاتهم وأن الحكومة تعمل من أجل مصالح الفقراء قبل الأغنياء والضعفاء قبل الأقوياء.

    تجنب القضايا الخلافية
    ومن السنن الأخرى هنا تجنب الإشكاليات الخلافية ومشكلات الخارج بقدر الإمكان. وأتصور هنا أن الأوضاع الداخلية في مصر كافية بمفردها لحشد الجماهير في الداخل وراء المطالب الديمقراطية، وأعني هنا قضايا التنمية والعدالة الاجتماعية والتعليم والصحة. أما قضايا الخارج فيجب التعامل معها بحذر، وأعتقد أن ما صرّح به البرادعي حول القضية الفلسطينية واتفاقية كامب ديفد والعلاقة مع أميركا لا يعيبه ولا يضر الحراك السياسي نحو الديمقراطية.
    إن النضال من أجل الديمقراطية استلزم في حالات كثيرة اعتدال الخطاب السياسي مع القوى المؤثرة في الخارج وعدم خلط قضية الديمقراطية في الداخل مع القضايا الإقليمية والدولية.
    فمعاداة القوى الدولية الكبرى كفيل بمفرده بإفساد كل شيء، كما أن الحكمة تقول إن لكل مقام مقال. ولا يجب أن نكون كخرقاء مكة التي كانت تغزل بقوة، مع جواريها، إلى انتصاف النهار ثم تعود فتنقض ما أتعبت نفسها فيه وغزلته من بعد قوة وتجعله أنكاثًا لا فتل فيه. ولا بد من تذكر أن أي حكومة مصرية منتخبة ومسؤولة أمام الشعب ستكون أكثر فعّالية في الدفاع عن مصالح مصر والتعامل بحكمة مع المسائل الخارجية.
    وهنا يجب الاتجاه نحو القوى والمنظمات الدولية لكسب دعمها ورفع دعمها المعنوي لمعارضي الديمقراطية. وبرغم الإزدواجية الأميركية في التعامل مع مسألة الديمقراطية، إلا أنه لا يمكن تصور وقف الدعم المعنوي والمادي للنظام إلا إذا تشكل "بديل ديمقراطي" له في الداخل. أي أنه بدون تكتل معارض "ديمقراطي" و"معتدل"، ستظل مخاوف الأميركيين من وصول بديل يهدد مصالحهم ولو كان ديمقراطيا.

    توسيع قاعدة المؤمنين بالديمقراطية
  • وفي مصر، ليس من الضروري انتظار موافقة ما يطلق عليه "أحزاب المعارضة الرسمية" القائمة اليوم، فالكثير منها تعود على الهرولة وراء يد النظام المانحة للعطايا والمناصب الوهمية، ولا تمارس أيًا من الأدوار التي تقوم بها حركات المعارضة أثناء النضال من أجل الديمقراطية، بل وبعضها صار جزءًا من النظام ويقوم بـ(أو يُستخدم بلا وعي لـ) ضرب كل محاولات التكتل والإصلاح.
    ولهذا فالأهم -في اعتقادي- هو انفتاح البرادعي والجماعة الوطنية على حركات الاحتجاج السلمي مثل حركتي 6 أبريل وكفاية وكل الحركات المعارضة التي تشهدها مصر وسط كافة القطاعات كأساتذة الجامعة والمحامين والمهندسين والأطباء والصحافيين والفنانين والأدباء والمعلمين والمهنيين والمنظمات الحقوقية والعمالية والطلابية وغيرها، بل وعلى كل القوى الإصلاحية داخل النظام نفسه. وقد أفلح الدكتور البرادعي حينما ألمح إلى هذا الأمر في أحد حواراته التلفزيونية.
    إن العمل على توسيع دائرة المعارضين لسياسات الحكومة لتضم مثقفين وأدباء وشعراء وفنانين ورياضيين ومهنيين وغيرهم أمر ضروري، لأن تأثير هؤلاء أكبر بكثير من تأثير النخب السياسية التقليدية. والهدف هو إيجاد رأي عام مناصر للديمقراطية وضاغط من أجلها، وإقناع فئات أوسع بأن جهود الإصلاح ليست قضية القوى القائمة أو الحزب الحاكم فقط وإنما هي قضية كل المصريين، ثم الاستفادة من الحراك السياسي والضغط الشعبي القائم لدفع الحكومة لتقديم مزيد من التنازلات، مع ضبط تحركات الشارع والتأكد من عدم انزلاقها إلى التخريب والعنف، وطمأنة كافة المؤسسات الأمنية والعسكرية التي هي مؤسسات وطنية للدولة وليس للحكومة القائمة.
    وأخيرا، يجب القول إن جزءًا من مسؤولية فشل محاولات التغيير في مصر يعود إلى تحركات بعض المحسوبين على المعارضة. فتكتل المعارضين تحقق في دول كثيرة ويمكن أن يتحقق في مصر إذا اقتنعت القوى السياسية فعلاً بالديمقراطية كأولوية مشتركة، وتوقفت عن استدعاء الخلافات الأيديولوجية والتاريخية بينها أو النظر في نوايا الآخر.
    أكرر ما قلته مرارا من قبل: وقت التنافس على المصالح والأيديولوجيات ليس الآن وإنما بعد قيام النظام الديمقراطي، وشعار المرحلة لا بد أن يكون "الديمقراطية الآن والتنافس لاحقًا". إذا عملنا على تحقيق هذا الشعار ستتغير أمور كثيرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري