سفينة الاتحاد الاوروبي ستصطدم بجيل الجليد لا محالة، ولهذا بدأ قادته يتساقطون في الماء. أيام قليلة ويرحل رئيس وزراء كل من اليونان وإيطاليا.
لكن في الوقت الذي يتبدل فيه الساسة، يصر قادة الاتحاد الأوروبي على أن شيئا واحدا سيظل خالدا ولن يتبدل، إنه اليورو، فلا ينفض سامرهم في أي قمة دون أن يرددوا طقسا متكررا: ستفعل أوروبا كل ما في وسعها للحفاظ على العملة الموحدة". غير أن هذه اللازمة تخفي التباسا خطيرا.
لأسباب تتعلق بالكرامة الوطنية والخوف والأيديولوجيا والمستقبل السياسي، يجد قادة أوروبا من العسير عليهم الإقرار بأن اليورو جزء كبير من الأزمة.
ولهذا تجدهم يسوقون مبررات أخرى لتفسير الأزمة من قبيل: "الدول الأعضاء لم تلتزم بالقواعد، الدول الأعضاء كذبت، أوروبا بحاجة إلى بنى سياسية جديدة، خطة الإنقاذ ليست كبيرة بما يكفي، الأسواق غير عقلانية، الناس يثورون... إلخ".
ثمة قدر من الحقيقة في كل هذه المبررات، لكنها لا تضع أصبعها على الحقيقة. المشكلة هي أنه بعد عقد تقريبا من إنشاء منطقة اليورو، اتضح دون لبس أنها ولدت بعيب خلقي ناجم عن توحيد أقطار مختلفة ذات مستويات اقتصادية متباينة وهياكل سياسية غير متجانسة.
اليورو ساعد في خلق أزمة أوروبا ومدها بأسباب الحياة. أولا هو السبب في انحدار معدلات الفائدة في دول أوروبا الجنوبية، ما شجع دولا كإيطاليا واليونان على الاستدانة دون ضابط.
بسبب اليورو، جرد بلد كاليونان وغيرها من الخيارات التقليدية التي كانت تستخدمها لاحتواء التضخم، عبر خفض قيمة العملة.
اليوم تفرض دول أوروبا على إيطاليا واليونان ودول جنوب القارة خيارات بديلة، خفض الأجور وتسريح العمالة بأعداد هائلة.
لقد كشفت الأزمة المالية العالمية عن عورات اليورو وعيوبه. فعندما ظهر لأول مرة في 2009 أن اليونان تغط في مشكلات عميقة، حدد الاتحاد الأوروبي لنفسه مهمتين: الأولى العمل على تسوية أزمة اليونان والثانية محاولة إقناع الأسواق بأن اليونان حالة معزولة لا شبيه لها في منطقة اليورو، لكنه فشل في كلتا المهمتين.
اليوم تعيش اليونان فوضي اقتصادية وأخرى سياسية ولدت من رحم الأولى، وفي إيطاليا أيضا تتصاعد كلفة الاستدانة بصورة مطردة وهو ما سيؤدي في القريب العاجل إلى انكشفها ماليا. وإذا ما لجأت إيطاليا (سابع أكبر اقتصاد في العالم) إلي صندوق الاستقرار المالي الاوروبي
ليست حالة معزولة
إلى صندوق النقد الدولي، فقد لا تجد أموالا كافية لتلبية احتياجاتها، وستكون حينذاك كالفيل الذي يحاول النجاة من الغرق بحشر نفسه في قارب نجاة صغير.
لقد اكتشفت الأسواق أن اليونان ليست حالة معزولة مهما قال قادة أوروبا، فإيطاليا تحمل كثيرا من أعراض اليونان التي أدخلتها في حالة الشلل الراهنة، من قبيل التهرب الضريبي و الديون السيادية الحكومية الكبيرة ونظام سياسي قائم على المحاباة وعلاقة غير صحية مع الاتحاد الأوروبي.
صحيح أن قطاع الصناعة الإيطالية أقوى من نظيره في اليونان، لكن ترنح رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني يجعل من نظيره اليوناني المنصرف جورج باباندريو يبدو مثل الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن.
اليونان وإيطاليا ليستا المشكلتين الوحيدتين، فإيرلندا والبرتغال سيتعين عليهما اللجوء لصندوق الإنقاذ الأوروبي لا محالة، وقد تتسبب الأزمة الأخيرة في مزيد من زعزعة أوضاعهما. مشكلة إسبانيا بادية للعيان، وفرنسا لم تتمكن منذ السبعينيات من تصويب أوضاع ميزانيتها وتصنيفها الائتماني في دائرة الخطر.
وفي مواجهة هذه المشكلات المعمقة، وجد رافعو لافتة "سنعمل كل ما في وسعنا للحفاظ على اليورو" أنفسهم يدفعون بحلول تتضاءل مصداقيتها شيئا فشيئا. وإذا ما سارت الأمور كما هو مخطط لها (تخفيف عبء الديون وتطبيق خطة التقشف)، تكون اليونان قد خفضت سقف ديونها إلى ما نسبته 120% فقط من إجمالي ناتجها القومي بنهاية العقد الحالي. وهذا هو السيناريو الأكثر تفاؤلا.
وفي الجهة المقابلة وبالرغم من الأدلة الساطعة بأن الديون السيادية الأوروبية تمثل خطرا داهما، فإن إيطاليا ستقنع الأسواق بطريقة ما بالعودة إلى إقراضها بمعدل فائدة 2% وليس 6% أو أكثر، وفي الوقت ذاته سيقوم البنك المركزي الأوروبي بشراء السندات الهالكة من إيطاليا بدون سقف ولمدة زمنية مفتوحة. لكن لا مصداقية لأي من هذين الأمرين.
صحيح أن إلغاء اليورو عملية صعبة وخطيرة، لكن هروب روؤس الأموال والإفلاسات التي ستنجم عن تخلي بعض الدول عن اليورو قد تتسب في انهيارات مصرفية، وقد تتبعها فوضى سياسية واجتماعية عارمة لبعض الوقت.
إن تشكيل حكومة إيطالية جديدة ببرنامج اقتصادي موثوق قد يوفر لأوروبا بعض الوقت لا أكثر. لكن في ضوء العيوب الخلقية لليورو، فإن التعافي سيكون قصيرا ومؤقتا.
البعض يجادل بأن دفن العملة الأوروبية الموحدة سيعني بالضرورة تفكك الاتحاد الأوروبي، لكن الخشية الحقيقية هي من أن تتحول هذه التحذيرات المتكررة إلى واقع بصورة تلقائية.
ولنتذكر أن المنجزات الأوروبية الرئيسية مثل السوق المشتركة وفتح الحدود والتعاون في السياسات الخارجية كلها تحققت وسبقت اليورو وقد تكتب لها الحياة بعد وفاته. وبدلا من المكابرة والإصرار على أن إلغاء اليورو ليس خيارا، يجدر بقادة أوروبا البدء في التخطيط لدفنه.
تعليق
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري