الاثنين، 1 يونيو 2009

شهادة الإنجيل على أن عيسى عبد الله و رسوله وكلمته ألقاها ألى مريم وروح منه

شهادة الإنجيل على أن عيسى عبدالله ورسوله

وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
استفتاح:
إن الحمدلله ، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}.
وبعد:
فلا شك ولا ريب عند كل مسلم أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتاباً مقدساً على عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام، وقد سمى الله هذا الكتاب الإنجيل كما قال تعالى في سورة المائدة في القرآن الكريم: {وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.
في هاتين الآيتين دليل واضح على أن الله أنزل كتابه الإنجيل على عيسى بن مريم مصدقاً لما سبقه من التوراة، وأن عيسى عليه السلام جاء مصدقاً لما في التوراة وأنزل الله عليه الإنجيل كذلك مصدقاً لما جاء في التوراة، ثم والإنجيل نزل من الله هدى ونوراً وموعظة للمتقين، وقد أمر الله النصارى أن يحكموا بما أنزل الله فيه، ولا شك أنهم لو حكموا بما أُنزِل فيه لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوه، وذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاء بكتاب مصدق لما سبقه من التوراة، والإنجيل، فالكتب الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن كلها من الله، وكل كتاب يصدق الكتاب الذي جاء قبله.
والقرآن -بحمد الله- قد تهيأ له من أسباب الحفظ ما لم يتهيأ للتوراة، والإنجيل، ثم هو الكتاب الخاتم، لذلك كان ما فيه مهيمناً على ما سبقه؛ فهو المرجع عند الخلاف، وهو الحكم الفصل لأنه كلمة الله الختامية إلى الناس كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} الآية.
ولا شك أن الإنجيل والتوراة قد نالهما كثير من التحريف والتبديل بقصد من منافقي الديانتين، أو بغير قصد منهم، والقرآن -بحمد الله- هو كلمة الفصل، فقد جاء مكذباً اليهود فيما ادعوه، وكتبوه في التوراة من أن الله استراح في اليوم السابع من عمله الذي عمل خالقاً.. فقال تعالى في القرآن:
{
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب}.
وهذا هو اللائق بالله سبحانه وتعالى أنه لا يصيبه تعب ولا نصب: {
إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}..
وكذلك كذب النصارى فيما ادعوه، وكتبوه في الإنجيل أن عيسى -عليه السلام- هو ابن الله نسباً، وجزءاً، وأن اليهود قبضوا عليه، وصلبوه، وبصقوا في وجهه، وصفعوه على قفاه، وسمروا رجليه بالمسامير في خشبة الصليب، وسقوه خلاً قبل أن يموت، وكتبوا كل ذلك في الإنجيل المقدس عندهم، ولا شك أن هذا كذب، وضلال محض، فإن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته، أنجاه الله، ورفعه إلى السماء حياً، ولم يمكن منه أعداءه اليهود الذين سعوا في قتله، بل قال الله تعالى في القرآن الكريم بياناً لإجراء اليهود، وتعديداً لظلمهم وفجورهم: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله،
وما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبه لهم}.
وهذه الآية القرآنية قاضية أن ما زعمه النصارى في إنجيلهم من أن عيسى صلب كذب محض، وإضافة إلى الإنجيل
المنزل ما ليس منه.
وهناك طريقان للتدليل على أن الأناجيل التي بأيدي النصارى اليوم فيها كثير من المحَرَّفِ المكذوب، والخطأ الذي ربما وقع باجتهاد، وحسن قصد:
1- تناقض نصين بعضهما مع بعض تناقضاً كلياً يستحيل معه الجمع بينهما.
2- مخالفة صريح القرآن الكريم، وهو كتاب الله الحاكم على كل كتاب قبله.
ولا شك في أن الإنجيل الذي بيد النصارى اليوم فيه كثير من الهدى، والنور الذي يصدق القرآن الكريم، ولو أن النصارى أقاموا ما بقي في هذا الكتاب من الهدى والنور لاهتدوا إلى الحق، وآمنوا بالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
هذه الرسالة:
وعملنا في هذه الرسالة الموجهة لهم، ولكل مسلم، هو إبراز وإظهار الحق الموجود في الإنجيل الذي لو أخذوا به هدوا إلى الصراط المستقيم، ومن ذلك أساس المعتقد: (بشرية عيسى عليه السلام)، وأنه عبدالله حقاً ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروح منه، كما جاء بذلك الكتاب العزيز القرآن، ونطق بذلك سيد المرسلين، وإمام المتقين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أولى الناس بعيسى بن مريم، وأحق الناس بموالاته، ونصره وتأييده، لأن عيسى هو الرسول المبشر الأخير به، وليس بينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي.
ثم تبين ما في هذه الأناجيل من الاختلاف، والاضطراب، والتناقض لتبيين أن كل ما فيها ليس هو كلمة الله، وأنه المنزل المعصوم الذي لا يجوز خلافه، بل في الأناجيل التي بأيديهم ما هو ملفق مكذوب، أو منتحل قد أخطأ فيه من كتبه، وأضافه إلى كلام الله سبحانه وتعالى.
والخلاصة أن التوراة، والإنجيل ما زال فيهما كثير من الهدى، والنور الذي بقي، لم تنله يد التحريف، والتبديل، وقد أبقاه الله حجة على أهل الكتاب، ولو طبقوه لاهتدى كل منهم إلى الحق؛ فاليهود لو طبقوا التوراة، وأقاموها لآمنوا أولاً بعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام الذي جاء مصدقاً لما في التوراة، عاملاً به، مؤيداً بالمعجزات من الله، والبينات الدالة على صدقه، وأمانته، ولكنهم اختلفوا في شأنه، فمنهم من آمن بعيسى، ومنهم من كفر به كما قال تعالى عنه:
{
ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأبرئ الأكمه، والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين، ومصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون، إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله}.
وقال أيضاً:
{يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}.
فاليهود الذين آمنوا بعيسى هم الذين اتبعوا الحق، وعملوا بما جاءهم في التوراة؛ وكذلك لو أن النصارى أقاموا الإنجيل وما أوصاهم به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لآمنوا بالقرآن، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوه، ولكن كان منهم من عرف الحق وآمن، وكان منهم من كفر فأيد الله أهل الإيمان منهم على أهل الكفر ثم بعث الله عبده ورسوله محمداً وسلطه على الكفار من أهل الكتاب فغلبوهم، وهزموهم، وأزال الله دولتهم كما قال سبحانه وتعالى:
{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} (القصص:54).
وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن كثيراً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} (البقرة:146).
ولا شك أن معرفة اليهود والنصارى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه إنما كانت بما عندهم في التوراة والإنجيل من صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والبشارة به على لسان موسى، ولسان عيسى عليهما الصلاة والسلام كما قال تعالى لموسى:
{ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}.. الآيات (الأعراف).
وكل ذلك يدل بما لا شك فيه على أن التوراة، والإنجيل أو ما يسميه النصارى (بالعهد القديم، والعهد الجديد) قد بقي فيهما من الهدى والنور، والحق ما تقوم به الحجة على أتباعهما، وما لو طبقوه لاتبعوا الحق كله، وآمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء مصدقاً لما معهم، ومؤيداً بالبينات من ربه، وسائراً في طريق الأنبياء الذين أرسلوا إليهم.
وقد عقد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فصلاً مطولاً في هذا الموضوع في كتابه العظيم (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) بين أقوال الناس في حقيقة التوراة والإنجيل الآن فقال:
"والصحيح أن هذه التوراة، والإنجيل الذي بأيدي أهل الكتاب، فيه ما هو حكم الله، وإن كان قد بدل، وغيّر بعض ألفاظهما لقوله تعالى:
{يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا، سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم عن مواضعه} (المائدة:41).
إلى قوله: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} (المائدة:43).
فعلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس، بعد مجيء (بختنصر) (رداً على من يقول أن التوراة بقيت صحيحة إلى دخول بختنصر البيت المقدس وإحراقه) وبعد مبعث المسيح، وبعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فيها حكم الله.
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قيل إنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه، فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك، فإن هذا غير معلوم لدينا، وهو أيضاً متعذر، بل يمكن تغيير كثير من النسخ، وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك، ومع هذا فكثير من نسخ التوراة، والإنجيل متفقة في الغالب، إنما يختلف في اليسير من ألفاظها، فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ممكن لا يمكن أحداً أن يجزم بنفيه، ولا يقدر أحد من اليهود، والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ، إذا هذا لا سبيل لأحد إلى علمه، والإختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب كما قال تعالى:
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9).
وذلك أن اليهود قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى عهده، وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها، وعندهم نسخ كثيرة من التوراة، وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة، ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ، وتبديلها، ولو كان هذا ممكناً لكان ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها، وكذلك في الإنجيل قال تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} (المائدة:47).
فعلم أن في هذا الإنجيل حكماً أنزله الله تعالى، لكن الحكم هو من باب الأمر، والنهي، وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الإخبار، وهو الذي وقع فيه التبديل لفظاً، وأما الأحكام التي وردت في التوراة، فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها" (الجواب الصحيح ج1-368،369)، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل التوراة أن يحكموا بما أنزل الله فيها كما قال تعالى:
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.
وكذلك قال سبحانه وتعالى:
{وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.
وقال تعالى أيضاً: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم..}.
ولا شك أن أهل التوراة لو حكموا بالتوراة حقاً في العقيدة، والشريعة لآمنوا بعيسى بن مريم -عليه السلام- لأن الأمر به موجود في التوراة، وقد جاء عيسى -عليه السلام- مصدقاً، وعاملاً بما فيها ثم ناسخاً لبعض أحكامها، والنسخ موجود في كل الشرائع حتى في شريعة النبي الواحد الذي قد يبيح حكماً في وقت ما من رسالته، ثم ينزل نسخه بعد مدة، وكذلك لو أقام النصارى ما أنزل إليهم من ربهم في الإنجيل، وما أمروا أن يحكموا به من التوراة لأوصلهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقه، واتباعه، فقد جاء مكملاً لما جاء به الأنبياء قبله، ومبشراً به منهم، ولا يتصور أن يأمر الله أهل الكتابين أن يحكموا بما أنزل إليهم والتوراة وجميع ما فيها مكذوب، بل لا بد وأن يكون فيهما الحجة، والحق كما قال الله سبحانه وتعالى لما جاءت اليهود لتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن يهودية، ويهودي زنيا قال: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} فحكم الله بالرجم باق في التوراة، وقد قرأه عبدالله بن سلام بمحضر من رسول الله.
وبالرغم من وقوع التحريف، ففي بعض التوراة، والإنجيل -كما أسلفنا- إلا أنه ممكن الاستدلال عليه، ومعرفته، وذلك لأنه أولاً قليل بالنسبة إلى ما لم يبدل، ثم إن ما لم يبدل قد جاء بنصوص واضحة صريحة يؤيد بعضها بعضاً ويكشف ما سواه مما دخله التحريف، والتغيير، ثم إن القرآن بحمد الله حاكم، وشاهد، ومهيمن، على ما جاء قبله من الكتب كما قال تعالى:
{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير}.
وقال تعالى أيضاً: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه}.
قول شيخ الإسلام ابن تيمية أن المحرف من التوراة والإنجيل قليل يمكن معرفته:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- جواباً لمن قال:
"إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة، والإنجيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، لم يعلم الحق من الباطل، فسقط الاحتجاج بهما، ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب، فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما، والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما، واستشهد بهما في مواضع؟ (يقول شيخ الإسلام) وجواب ذلك: أن ما وقع من التبديل قليل، والأكثر لم يبدل، والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة بينة بالمقصود تبين غلط ما خالفها، ولها شواهد، ونظائر متعددة، يصدق بعضها بعضاً، بخلاف المبدل فإنه ألفاظ قليلة، وسائر نصوص الكتب يناقضها، وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا وقع في سنن أبي داود، والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة، وكان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين ضعف تلك، بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط، وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها" (الجواب الصحيح ج1-378).
عملنا في هذه الرسالة:
والذي فعلناه في هذه الرسالة المباركة -إن شاء الله تعالى- هو استخراج النصوص الدالة على عقيدة التوحيد من الإنجيل، وأن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لم يكن إلا عبدالله ورسوله، وأنه خُلِق بكلمة الله (كن) كما كان شأن آدم كما قال تعالى في القرآن الكريم: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}، وأن هذه الكلمة حملها الملك (روح القدس) الذي ينزل على الأنبياء، وأنه نفخ في مريم فخلق الله من هذه النفخة عيسى -عليه السلام- كما قال تعالى:
{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً}.. الآيات.
ففي نصوص الإنجيل الموجودة الآن ما يؤيد هذه العقيدة الصحيحة بل في نصوص الإنجيل هذه العقيدة الصحيحة، وأن عيسى ما هو إلا عبد أنعم الله عليه وجعله مثلاً لبني إسرائيل كما قال تعالى: {
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل}.
وقد عنيت باستخراج هذه النصوص من الإنجيل الذي بأيدي النصارى الآن، وذكرت ما يؤيد ذلك من القرآن الكريم الذي جاء يصدق ما جاء في الإنجيل الحق.
هدفنا في هذه الرسالة:
1- أن تزداد إيماناً بأن الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق من ربه، وأنه جاء بأخبار من أخبار الرسل ما كان يقرؤها، ولا اطلع عليها، وقد جاء بها كما جاءت في الكتب السابقة تماماً، وهذا من أعظم الأدلة على أنه رسول الله حقاً، وصدقاً، فإن هذا لا يُعرف من رجل أمي لم يقرأ، ولم يكتب، فلم يبق طريق يعلم به إلا الوحي.
2- دعوة أهل الكتاب أن يراجعوا الحق، ويقيموا التوراة، والإنجيل، وما جاءهم على لسان أنبيائهم الصادقين -عليهم السلام- ولا يحيدوا عنه فيزداد غضب الله عليهم، ويستمروا في درب الغواية، والضلال.
3- تقديم سلاح وحجة بأيدي المؤمنين يدافعون به عن معتقدهم، ويقيمون به الحجة على من كفر من اليهود، والنصارى، ويوقنون بأن ما جاءهم من الله في القرآن هو الحق الذي لم يشب، الذي تكفل الله بحفظه، وأنهم على الهدى الذي ارتضاه الله لعباده الصالحين، وأنهم أولى الناس بموسى، وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وأن أمتهم هي الأمة المهتدية التي أنعم الله عليها، وأن تمتلئ قلوبهم محبة لله، وإيماناً، واطمئناناً للإسلام، وهم يدعون في صلاتهم:
{اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} اليهود مغضوب عليهم، والنصارى الضالون وأهل الإسلام هم الذين أنعم الله عليهم.
والحمدلله أولاً وأخيراً.

الباب الأول
الأدلة من الإنجيل على أن عيسى رسول الله
وليس هو الله، أو ابن الله

1-
عيسى يعلّم إبليس أنه لا سجود إلا لله، وأن الله هو الرب وحده سبحانه وتعالى:
في إنجيل متى فقرة 4:
(
ثم صعد الروح بيسوع إلى البرية، ليجرّب من قبل إبليس، وبعدما صام أربعين نهاراً، وأربعين ليلة، جاع أخيراً، فتقدم إليه المجرب وقال له: "إن كنت ابن الله، فقل لهذه الحجارة أن تتحول إلى خبز!" فأجابه قائلاً: "قد كتب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله!" ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على حافة سطح الهيكل، وقال له: "إن كنت ابن الله، فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه قد كتب: يوصي ملائكته بك، فيحملونك على أيديهم لكي لا تصطدم قدمك بحجر!" فقال له يسوع: "وقد كتب أيضاً لا تجرب الرب إلهك!".
ثم أخذه إبليس أيضاً إلى قمة جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم وعظمتها، وقال له: "أعطيك هذه كلها إن جثوت وسجدت لي!" فقال له يسوع: "اذهب يا شيطان! فقد كتب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد!".
فتركه إبليس، وإذا بعض الملائكة جاءوا وأخذوا يخدمونه).
وفي هذا النص من الأدلة على عبودية المسيح لله ما يلي:
1- أن روح القدس (وهو ملاك الرب الذي ينزل بالوحي من الله للأنبياء) أصعد عيسى إلى البرية ليمرنه ويجربه على عصيان إبليس والرد عليه، ويعرفه بأساليبه في الغواية ليحذرها، ويستحيل لو كان عيسى هو الله أو أنه الله كما تدعي النصارى أن يأخذه الملاك ليعلمه!! كيف يتقي شر الشيطان، فهل يحتاج خالق للسماوات والأرض إلى تعليم؟!
2- صام عيسى أربعين يوماً وليلة وجاع.. فهل الرب يصوم ويجوع!! أم أن الرب الإله لا بد وأن يكون غنياً عن كل ما سواه.. قال تعالى في القرآن في بيان بطلان كون عيسى وأمه إلهين: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان
الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} فمن يحتاج إلى الطعام لا يكون إلهاً ورباً وخالقاً، لأن الإله الرب لا بد وأن يكون غنياً عن كل ما سواه، ولا شك أن من يأكل من البشر ويشرب ويبول ويتغوط.. فهل يوصف الإله بذلك؟ أليس لمن يقول بألوهية المسيح وربوبيته من عقل يميزون بين الرب الإله الخالق المنزه عن كل نقص وبين الإنسان المحتاج الفقير العاجز؟؟
3- تقدم الشيطان
إليه ليجربه بقوله له: إن كنت ابن الله حقاً اقلب هذه الأحجار إلى خبز.. أي لتأكل منها بعدما جعت، ورد عيسى عليه بأنه (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله). ومعنى أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان أي أن الحياة الحقيقية ليست بما يحيي الجسد فقط، وإنما الحياة الحقيقية بما يحيي الروح فمن آمن بالله وعمل بكلماته فهو الحي حقيقة، وأما الكافر الذي يعيش لبطنه فقط فهو ميت في ظاهر حي كما قال تعالى في القرآن: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} أي لا يستوي هذا وهذا.. فمن كان ميتاً أي بالكفر فأحيينا أي بالإيمان وجعلنا له نوراً أي هداية وشريعة يعرف بها الحلال من الحرام والحق من الباطل، والهدى من الضلال، والشرك من التوحيد، والصلاح من الفساد، ليس يستوي هذا ومن هو ضال لا يهتدي يعيش للدنيا فقط ولا يميز بين شرك وتوحيد، وهدي وضلال، وخير وشر.
معنى ابن الله كما ورد في النص:
4- ألفاظ ابن الله التي جاءت في الأناجيل والكتب المقدسة عند النصارى من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم فإن هذه اللفظة (ابن الله) استخدمت في عيسى، وفي أتباعه، وفي كل مؤمن بالله غير كافر به.. وقد ادعاها كل من اليهود والنصارى جميعاً كما قال تعالى في القرآن: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}.
وهذه الكلمة تحتمل معنيين: بنوة الهداية، والإيمان، والتشريف، وهو ما يسمونه بالبنوة الروحية، ويقال في مقابلها: أبناء الشيطان، وأبناء الأفاعي كما جاء في الإنجيل في وصف اليهود: (يا أبناء الأفاعي)، والكل يعلم أنهم ليسوا أبناء الأفاعي من النسب، ولا الشيطان من الصلب، وإنما نسبوا إلى الأفاعي لمكرهم وخطرهم، وسمومهم، وإلى الشيطان لتلبيسهم، وكذبهم.
والنسبة إلى الله بالأبناء للهداية، والتوفيق، والعمل بشريعة الله، والسير على هداه، والإستضاءة بنوره المنزل على عباده المرسلين.
والمعنى الثاني نبوة النسب، والإبن الذي هو قطعة من أبيه، وبضعة منه.
ولا شك عند كل ذي لب، وإيمان، وبصيرة، وتمييز بين الخالق، والمخلوق أن المعنى الثاني منتف عن الله سبحانه وتعالى، فليس بين الله وأحد من خلقه بنوة نسب قط، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وإذا كانت هذه اللفظة: (ابن الله) دائرة في المعنى بين بنوة الشريف، والإيمان، والتقديس، والمحبة.. وبين بنوة النسب، والولادة، والجزئية، فتكون هذه اللفظة هنا من المتشابه الذي يجب أن يحمل على المحكم الذي لا يتغير معناه، واللفظ المحكم هو ما لا يكون معناه إلا واحداً، ولا يختلف أهل اللسان فيه، ولا أهل العقل حول حقيقة معناه.
ونحن نورد هنا عشرات من الأدلة من الإنجيل نفسه أن لفظ (ابن الله) الوارد في الأناجيل، وفي كتب رسل المسيح -عليه السلام- ما أريد بها إلا بنوة التشريف، والتقديس، والرفعة، والمحبة، وأنها لا تنتمي إلى بنوة النسب، والولادة بأي حال تعالى الله عما يقول الجاهلون الكافرون الضالون علواً كبيراً.
فقول إبليس المتكرر.. (إن كنت ابن الله) هو من هذا الباب. ومن ذلك قول عيسى لتلاميذه:- (وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، ويضطهدونكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات) (متى 6/45).
وقوله عليه السلام: (فعندما تصلي فادخل غرفتك، وأغلق عليك بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي يرى في الخفاء هو يكافئك) (متى 6/7).
ومثل هذا كثير جداً من الكلام المنسوب إلى المسيح عليه السلام، وكله شاهد أنه كان يستعمل اسم (الأب) في التعبير عن الله بمعنى المربي، والذي يكلأ عباده المؤمنين وليس بمعنى أبوة النسب،
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
5-
قول إبليس لعيسى: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل لأنه قد كتب: يوصي ملائكته بك فيحملونك على أيديهم لكي لا تصطدم قدمك بحجر"!! فقال عيسى: (وقد كتب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك)!! .
في هذا النص إقرار عيسى لإبليس على النص السابق من كلام الله، وأنه هو المقصود به، وإذا كان هو المقصود بذلك، فكيف يكون هو ابن الله أو الله كما يدعون ويزعمون أن صفاته وأعماله هي صفات الرب وأعماله ثم يقال عنه: (يوصي ملائكته بك)!!
فهل يحتاج الإله الرب أن يُوَصَّى عليه، وأن يكون الملائكة حفظٌ له، وحماية له ألا يصطدم قدمه بحجر!!، وهل يكون من يحتاج أن تحميه الملائكة من السقوط إلا عبداً محتاجاً ذليلاً فقيراً؟!!
6- قول عيسى –عليه السلام- رداً على إبليس وقد كتب أيضاً: "لا تجرب الرب إلهك"!!
فهذا من أعظم الأدلة على أن عيسى يعتقد أن الله سبحانه وتعالى هو ربه، وهو إلهه وأنه لا يحسن به أن يجربه بمعنى أن يطلب منه شيئاً لينظر أيقدر عليه أم لا؟ فإذا كان عيسى –عليه السلام- هو الله كما يزعمون فمن يجرب؟! هل يجرب أباه؟! فينظر أيحميه من الحجارة أم لا؟ أم يجرب نفسه فينظر هل يستطيع إذا قفز من فوق الهيكل أن يحمي نفسه من السقوط أم لا؟ تباً لعقول تقرأ ولا تفقه!!.
هل هناك أصرح من هذا الدليل في أن عيسى -عليه السلام- يتبرأ من الحول، والقوة، ويجعل الله وحده هو صاحب الحول، والقوة، وأنه هو وحده ربه وإلهه.
7- دعوة إبليس للمسيح -عليه السلام- أن يسجد له!! وقوله له بعد أن أراه من فوق جبل عال جداً جميع ممالك العالم، وعظمتها: "أعطيك هذه كلها إذا جثوت، وسجدت لي"! وقول عيسى عليه السلام رداً عليه: (اذهب يا شيطان، وقد كتب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد) فيه من الأدلة على فساد معتقد النصارى في ألوهية المسيح وربوبيته الشيء الكثير فمن ذلك:-
أ- عرض إبليس عليه ممالك الدنيا، وإيراءه إياها، واطلاعه عليها، ولو كان عيسى هو الله، أو ابن الله لقال له: أنا مالكها، وخالقها، وهي لي، وتحت تصرفي؟ بل ما كان لإبليس أن يتجرأ أصلاً ليقول للإله، أعطيك هذه إن سجدت لي!!..
ب- عجباً أن يأمر إبليس خالق السماوات والأرض أن يسجد له!! ألا يستحي النصارى وهم يقرأون هذا الكلام!! ألا يستحون أن من يعتقدون فيه الألوهية، والربوبية أن يصحبه إبليس، ويعرض عليه السجود له مقابل أن يملكه الدنيا.
ج- لو كان عيسى هو الله أو ابن الله لما كان رده على عرض إبليس هذا أن يقول: لا قد نزل في كتب الأنبياء السابقين: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد".
هل هناك أصرح من هذا في أن عيسى دعا إلى عبادة لله خالق السماوات، والأرض، وأن عيسى لا يعبد إلا الله، ولا يسجد إلا له سبحانه وتعالى.
يكفي هذا الدليل لكل من يريد بصيرة في الدين أن عيسى عليه السلام جاء ليقول كما قال الله عنه: {وقال المسيح يا بني إسرائيل: اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}.
د- يأس الشيطان من عيسى، وذهابه عنه، وعدم قدرته عليه حق لعصمة الله له تحقيقاً لقول امرأة عمران أم مريم عندما وضعت مريم: {رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم.. وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، وليس من ذرية مريم إلا عيسى عبدالله ورسوله، وقد أعاذه الله الشيطان الرجيم صغيراً وكبيراً.
8- وقول الإنجيل: "فتركه إبليس، وإذا بعض الملائكة جاءوا إليه وأخذوا يخدمونه" دليل جديد على عبودية المسيح، فالذي يحتاج إلى الخدمة هو العبد الفقير المحتاج، وهم جاءوه، ولم يستدعهم، وهذا مما يدل على أن الله أرسلهم إليه، وهم كانوا يخدمونه، ولم يأتوا ليعبدوه، والرب سبحانه وتعالى تعبده الملائكة، ولا تخدمه، لأنه الحي القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره، فالملائكة تحتاجه، وهي فقيرة إليه، وأما هو فغني عن الجميع سبحانه وتعالى.
2- عيسى عليه السلام يبشر في بلدته الناصرة التي تطرده وترفضه:
ذكر إنجيل لوقا أن عيسى عليه الصلاة والسلام بدأ (معموديته) على يد يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا عليهما السلام)، وأنه بينما كان يصلي (هكذا) انفتحت السماء، وهبط عليه روح القدس متخذاً هيئة جسمية مثل حمامة، وانطلق صوت من السماء يقول: "أنت ابني الحبيب بك سررت كل سرور" (لوقا 3/21).
وبالرغم من أن هذا كله حكاية، وليس كلاماً منزلاً من الله سبحانه وتعالى كما نرى، ولا هو مروي، أو منقول من قول عيسى -عليه السلام-، ومعلوم أن لوقا كاتب هذا الإنجيل لم يكن أيضاً تلميذاً للمسيح عليه السلام..، بالرغم من كل هذا فإن هذا النص يدل دلالة قطعية على أن عيسى لم يكن إلا رسولاً نزل عليه الوحي، وليس هو ابن الله نسباً، أو ذاتاً، أو أقنوماً كما ادعت النصارى بعد ذلك، وهذه هي الأدلة:-
1- ذكره أن عيسى تعمد.. والرب لا يَتَعَمَّدُ (أي يؤهل ليدخل في خدمة الله وعبادته) فكيف يتعمد الرب؟.. ألعبادة نفسه؟!! أم لعبادة أبيه؟! أم لعبادة ذاته؟!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً..
2- قوله: (بينما كان يصلي)، والرب لا يصلي لأحد، لأنه هو المعبود سبحانه وتعالى.
3- قوله: (هبط عليه روح القدس مثل حمامة) يدل على أن روح القدس هذا هو الملاك الذي ينزل على الأنبياء، وليس أقنوماً، ولا جزءاً من الله كما ادعت النصارى، وهذا إبطال لقولهم إن الله ثالث ثلاثة لأنه لو كان روح القدس الذي كان مثل حمامة جزءاً من الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-، وكان المسيح جزءاً آخر، وكان الله في السماوات جزءاً ثالثاً، كما تدعي النصارى لكان هذا من أبطل الباطل، لأنه ليس إلا رب واحد، تعالى أن يكون له جزء، كما قال تعالى في القرآن الكريم: {وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين}.
فكيف يدعي النصارى -وهذه مقالتهم في الشرك، والتثليث- أنهم يؤمنون بوحدانية الله سبحانه وتعالى؟!!
4- لو فرضنا أن من روى هذا الإنجيل سمع النداء الذي انطلق من السماء يقول: (أنت ابني الحبيب بك سررت كل سرور). فإن هذا لا يعني بحال أن عيسى بن مريم –عليه السلام- جزء منه، تعالى الله سبحانه وتعالى عما يقولون المبطلون علواً كبيراً وإنما كما يطلقون على الله بأنه الأب فيقولون (أبانا الذي في السماوات)، وكما يذكرون أن عيسى قال لهم مراراً: (أبي، وأبيكم) فلماذا لا يكون معنى البنوة هنا بنوة الرحمة والتعليم والإرسال؟
وبعد هذا النص السابق ساق الإنجيل هذا النص تحت عنوان:

الناصرة ترفض يسوع:
(
وعاد يسوع إلى منطقة الجليل بقدرة الروح، وذاع صيته في القرى المجاورة كلها، وكان يعلم في مجامع اليهود، والجميع يمجدونه، وجاء إلى الناصرة حيث كان قد نشأ، ودخل المجمع كعادته يوم السبت، ووقف ليقرأ، فقدم إليه كتاب النبي أشعياء، فلما فتحه وجد المكان الذي كتب فيه: "روح الرب علي، لأنه مسحني لأبشر الفقراء؛ أرسلني لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعميان بالبصر، لأطلق المسحوقين أحراراً، وأبشر بسنة القبول عند الرب". ثم طوى الكتاب وسلمه إلى الخادم، وجلس، وكانت جميع عيون الحاضرين في المجمع شاخصة إليه، فأخذ يخاطبهم قائلاً: "اليوم تم ما
سمعتم من آيات..". وشهد له جميع الحاضرين، متعجبين من كلام النعمة الخارج من فمه، وتساءلوا: "أليس هذا ابن يوسف؟"، فقال لهم: "لا شك أنكم تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب اشف نفسك! فاصنع هنا في بلدتك ما سمعنا أنه جرى في كفر ناحوم.." ثم أضاف: "الحق أقول لكم: كان في إسرائيل أرامل كثيرات في زمان إيليا، حين أغلقت السماء ثلاث سنين وستة أشهر حتى حدثت مجاعة عظيمة في الأرض كلها؛ ولكن إيليا لم يرسل إلى أية واحدة منهن بل إلى امرأة أرملة في صرفة صيدا، وكان في إسرائيل، في زمان النبي أليشع، كثيرون مصابون بالبرص; ولكن لم يطهر أي واحد منهم، بل نعمان السوري!" فامتلأ جميع من في المجمع غضباً لما سمعوا هذه الأمور، وقاموا يدفعونه إلى خارج المدينة، وساقوه إلى حافة الجبل الذي بنيت عليه مدينتهم ليطرحوه إلى الأسفل، إلا أنه اجتاز من وسطهم، وانصرف) (لوقا 4/14-30).
وفي هذا النص من الأدلة على عبودية المسيح ما يأتي:

1- قوله: (وعاد يسوع إلى منطقة الجليل بقدرة الروح) فيه دليل أنه ليس الله أو ابن الله كما يدعون، وأن له قدرة إلهية من ذات، وهنا يقول بأنه عاد إلى الجليل بقدرة الروح أي أن الملك أعانه ليذهب إلى الجليل، ومن في حاجة إلى الملك لا يكون رباً ولا إلهاً، ولا خالقاً، ولا قادراً بنفسه.
2- قول عيسى -عليه السلام- لمن كان يعلمهم ويعظهم في مجمع الناصرة: (اليوم تم ما قد سمعتم من آيات)، أي أنه تحقق وعد الله الذي جاء
على لسان النبي أشعياء، والنص هو: (روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأبشر الفقراء، وأرسلني لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعميان بالبصر، لأطلق المسجونين أحراراً، وأبشر بسنة القبول للرب)..
هل هناك ما هو أصرح من هذا النص في أن عيسى هو رسول الله الذي بشرت به الأنبياء فالنص يقول: (روح الرب عليّ): أي وحي الله إلى طريق الله روح القدس وانظر فلم يقل روح الرب هي ذاتي، أو أقنومي، أو جزئي، أو نفسي، ومعنى (مسحني لأبشر الفقراء): أي جعلني مسيحياً، والمسيح سواء أريد به من يمسح بالزيت على عادة بني إسرائيل عندما يتنبأ منهم نبي، أو المسيح من المسح وهو المحو للشرك، والكفر، أو غير ذلك فالمعنى على كل حال بمعنى النبوة
والرسالة وليس بمعنى الألوهية والربوبية.
ثم قوله: (أرسلني لأنادي للمأسورين بالإطلاق.. الخ) دليل على أنه نبي مرسل، وليس هو الرب، أو ابنه النازل إلى البشر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
3-
لقد كان رد أبناء بلده (الناصرة) على عيسى -عليه السلام- رداً في منتهى السوء، والقباحة، والإفك، فبدلاً من الاعتراف برسالته، ونبوته إذا بهم يسبونه في عرضه، ويتهمونه أنه (ابن زنا)!!!
حاشاه -عليه الصلاة والسلام- فيقول له هؤلاء المجرمون: (أليس هذا ابن يوسف؟) يوسف النجار الذي كما ذكر خطيباً لمريم –عليها السلام- قبل أن ينزل عليها ملاك الرب، ويبشرها بعيسى عليه السلام كما جاء في القرآن الكريم: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال إنما رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً}..
وهؤلاء المجرمون من اليهود أبناء بلدته الذين جاءوا ليستمعوا إلى مواعظه في الهيكل ردوا عليه هذا الرد عندما قال لهم: (إنه مسيح الرب الذي جاء ليفتح الله به آذاناً صماً، وقلوباً عمياً، ويفك أسر المأسورين من معاصيهم، والذين قيدهم الشيطان بخطاياهم، ويبشرهم بمغفرة الذنوب) لقد كان ردهم على هذه الدعوة الكريمة أن قالوا: (أليس هذا ابن يوسف؟) متهمين إياه.. ولما قالوا له هذا القول الفاجر الآثم، وأنكروا عصمته، وعصمة أمه، وأنكروا نبوته بعد أن شاعت في كل بلدان اليهودية، عند ذلك ردّ عليهم قائلاً: (لا كرامة لنبي في بلده)!!، (وما من نبي يقبل في بلده)!! (لا يكون النبي بلا كرامة إلا في بلدته وبيته) (إنجيل متى 13/58) .
ثم بين لهم أن أهله، وأولى الناس به من يقبلونه، ويؤمنون برسالته، وأخبرهم أن نبي الله إيليا لم يشفع وقت المجاعة إلا إلى أرملة غير إسرائيلية، وأن أليشع لم يشفع في شفاء مريض إلا مريضاً سورياً غير إسرائيلي..: (نعمان السوري)، وأخبرهم أن رحمة الله برسالة عيسى قد لا تصيب إلا من هم خارج بني إسرائيل، وأن ما يمكن أن يجريه الله على يديه من خير قد يحوزه غير أبناء بلده (الناصرة) التي كفرت به!! ولما سمع أبناء بلده هذا الكلام كان من شأنهم أن أخرجوه منها، (وساقوه إلى حافة الجبل الذي بنيت عليه مدينتهم ليطرحوه إلى أسفل).
وكل هذا النص شواهد أنه لم يقل إني إله، وإنما قال لهم فقط: إنني نبي، ولا كرامة لنبي في بلده، فلماذا لم يقل لهم: (أنا ربكم وخالقكم)..؟
وهل كان يليق بالرب أن يقول له أهل بلدته (هكذا)؟! أنت ابن زنا.. وهل ينزل الرب سبحانه وتعالى من السماء ليقول له البشر الذي خلقهم ورزقهم: (ألست ابن يوسف النجار؟).. سبحانك ربنا لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك، وأعتذر لك حتى ترضى من ذكر هذا الكفر، وسبحانك لا أحد أصبر على أذى منك وحدك!!. يدّعون لك الولد، وأنت ترزقهم، وتعافيهم، لا إله إلا أنت، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك!! وتعاليت عما يقول المجرمون الظالمون علواً كبيراً.
4- وهل ينزل الرب من عليائه سبحانه وتعالى ليقبض عليه أهل بلدته (هكذا)، ثم (يدفعونه إلى خارج المدينة، ويسوقونه إلى حافة الجبل ليطرحوه).. هل من يفعل به هكذا يكون رباً إلهاً خالقاً للسماوات والأرض؟! وهل يليق بالرب ذلك؟!
3- معجزات عيسى عليه السلام لا تدل إلا على أنه نبي مرسل مؤيد بالمعجزات:
لا يوجد في الأناجيل كلها رغم ما نالها من التحريف، والخطأ نص واحد يقول فيه عيسى عليه السلام أنه الله، أو أنه ابن الله بنوة نسب، وولادة، وجزء (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً).
أو أن ذاته ذات الله، وفعله فعله، أو أن مشيئته مساوية لمشيئة الرب، أو أنه خالق، أو رازق أو مصور، بل الموجود على العكس من ذلك تماماً، ولو كان عيسى إلهاً، ورباً، وخالقاً، ورازقاً كما يدعي الضالون لأظهر ذلك، وقاله إذ أن مثل ذلك هو الاعتقاد.. ألا نرى إلى قول الله سبحانه وتعالى في القرآن وهو يذكر عن نفسه جل وعلا أنه هو الخالق، والرازق، والبارئ، والمصور، والذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وأن له كان صفات المجد، والألوهية، والربوبية لا ينازعه أحد، ولا يشاركه مشارك، وليس لأحد معه من الأمر شيء، بل لا يملك أحد من كل خلقه ملائكة، وإنساً، وجناً، لنفسه من أمره خيراً، ولا شراً إلا بمشيئة الرب الواحد سبحانه وتعالى.
وعيسى -عليه السلام- لم يدّع شيئاً من ذلك قط، ولا خلع على نفسه قط صفة من صفات الألوهية، والربوبية، بل تكلم بضد ذلك تماماً ذكر أنه عبد يصلي، ولا مشيئة له مع مشيئة من أرسله، وأظهر دائماً من الضعف، والعجز، والخوف، والتبرء من الحول، والطول ما يظهر لكل ذي عينين أنه عبدالله ورسوله، وليس ابن الله، أو الله، أو أن له شركة مع الله في شيء من صفاته قط، وعامة ما روته الأناجيل، وتمسك به الضالون في إدعاء ربوبية المسيح -عليه السلام- بعض المعجزات والبركات، والكرامات التي أظهرها الله على يديه كإحياء بعض الموتى، وشفاء من لهم آفات وعاهات دائمة يعجز الطب عنها، وإخراج بعض الأرواح الشريرة، والشياطين التي تتلبس بعض الناس، وقد أفاضت الأناجيل بخاصة في قضية تخليص بعض الناس التي تلبست بهم الشياطين، علماً بأن هذا الأمر يجري على يد أناس بسطاء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ذكر عن بعض سادة هذه الأمة الإسلامية كالإمام أحمد بن حنبل أن الشياطين كانت تخرج ممن تلبست به بمن يأمرها بإسمه دون أن يتكلف عناء الذهاب إلى المريض بنفسه، أو حتى نقله إليه، وهناك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أخرج آلافاً من هذه الشياطين من جسوم المرضى، والذين يؤذنهم، ويصرعونهم.. وأما إحياء الموتى فقد كان على يد كثير من الأنبياء قبل عيسى -عليه السلام- كما جاء في قتيل بني إسرائيل على عهد موسى، وطيور إبراهيم، وأما شفاء الأمراض المستعصية فهي معجزة لهذا النبي الكريم، وقد جاء وصفه في القرآن: {وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً}، فعيسى رسول مبارك، ومن بركته ما أجرى الله على يديه من الخير والبركة للناس في الدنيا كشفاء من شفي من المرض، والخير والبركة في الآخرة كالدعوة إلى الإيمان، والتوحيد، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى.. وكل هذه المعجزات، والكرامات قد جرى أمثالها على يد كثير الأنبياء، والمرسلين، وخيار الصالحين، ولا يعني مطلقاً أن فاعلها هو الرب الإله خالق السماوات والأرض.
وهذه نماذج مما جاء في الإنجيل عن معجزاته -عليه السلام- والبركات التي أجراها الله على يديه:
أ- يسوع يطرد روحاً نجساً:
(ونزل إلى كفر ناحوم، وهي مدينة بمنطقة الجليل، وأخذ يعلم الشعب أيام السبت، فذهلوا من تعليمه، لأن كلمته كانت ذات سلطة، وكان في المجمع رجل يسكنه روح شيطان نجس، فصرخ بصوت عال: "آه! ما شأنك بنا يا يسوع الناصري؟ أجئت لتهلكنا؟ أنا أعرف من أنت: أنت قدوس الله". فزجره يسوع قائلاً: "إخرس، واخرج منه". وإذ طرحه الشيطان في الوسط، خرج منه، ولم يصبه بأذى، فاستولت الدهشة على الجميع، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم: "أي كلمة هي هذه؟ فإنه بسلطة وبقدرة يأمر الأرواح النجسة فتخرج!" وذاع صيته في كل مكان من المنطقة المجاورة) (ومثل هذا العمل يقوم به اليوم وأمس ألوف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يدعي لهم أحد نبوة، ولا ألوهية أو ربوبية).
ب- يسوع يشفي الله على يديه كثيرين:
(ثم غادر المجمع، ودخل بيت سمعان، وكانت حماة سمعان تعاني حمى شديدة، فطلبوا إليه إعانتها، فوقف بجانب فراشها، وزجر الحمى، فذهبت عنها، فوقفت في الحال، وأخذت تخدمهم، ولما غربت الشمس، أخذ جميع الذين كان عندهم مرضى مصابون بعلل مختلفة يحضرونهم إليه، فوضع يديه على كل واحد منهم، وشفاهم، وخرجت أيضاً شياطين من كثيرين، وهي تصرخ قائلة: "أنت ابن الله"، فكان يزجرهم، ولا يدعهم يتكلمون، إذ عرفوا أنه المسيح.
ولما طلع النهار خرج، وذهب إلى مكان مقفر، فبحثت الجموع عنه حتى وجدوه، وتمسكوا به لئلا يرحل عنهم، ولكنه قال لهم: "لا بد لي من أن أبشر المدن
الأخرى أيضاً بملكوت الله، لأني لهذا قد أرسلت". ومضى يبشر في مجامع اليهودية) (لوقا 4/31-44).
ومن الأدلة في هذا النص على عبودية المسيح لله، وأنه رسول الله ما يأتي:
1- قول الشيطان لعيسى عليه السلام: (ما شأنك بنا يا يسوع الناصري).. فقد نسبه إلى بلدته، وأقره عيسى على ذلك، ومثل هذا المنسوب إلى بلدة لا يكون إلهاً، ورباً، وخالقاً..
2- قول الشيطان له: (أنت قدوس الله)، وإقرار عيسى لذلك، والمعنى أنت مقدس من قبل الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن عيسى مقدس لأن الله سبحانه وتعالى قدّسه، وطهّره، وزكّاه، والذي يقدسه الله لا يكون هو الله.
3- قول الشياطين له (أنت ابن الله) لا تعني أنه جزء منه، وأنه ولده نسباً وصهراً كما ذكرنا ذلك مراراً، وإنما هذا جار على عادتهم في استعمال هذا اللفظ.
4- قال عيسى في النهاية: (لا بد لي أن أبشر المدن الأخرى بملكوت الله لأني لهذا أُرسِلْتُ) نص واضح جلي على أنه رسول مرسل من الله سبحانه وتعالى، وأنه لم يأت بنفسه.
5- قول راوي الإنجيل (ومضى يبشر في مجمع اليهودية) أي أنه رسول إلى بني إسرائيل كما قال تعالى في القرآن عنه: {ورسولاً إلى بني إسرائيل}.. الآية.
4- الجميع يشهدون بأن عيسى عليه السلام نبي الله بعد أن رأوا معجزاته:
وهذا نص آخر يبين أن الشعب اليهودي الذي أرسل إليهم عيسى -عليه السلام- شهد كثير منهم له بالنبوة بعد أن رأوا ما أجرى الله على يديه من المعجزات.
ج- يسوع يحيي ابن الأرملة:
"
وفي اليوم التالي ذهب إلى مدينة اسمها نايين، يرافقه كثيرون من تلاميذه وجمع عظيم، ولما اقترب من باب المدينة، إذا ميت محمول، وهو ابن محمول، وهو ابن وحيد لأمه التي كانت أرملة، وكان معها جمع كبير من المدينة، فلما رآها الرب، تحنَّن عليها، وقال لها: "لا تبكي!" ثم تقدم، ولمس النعش، فتوقف حاملوه، وقال: "أيها الشاب لك أقول: قم!" فجلس الميت، وبدأ يتكلم، فسلَّمه إلى أمه، فاستولى الخوف على الجميع، ومجدوا الله قائلين: "قد قام فينا نبي عظيم وتفقد الله شعبه!" وذاع هذا الخبر عنه في منطقة اليهودية كلها، وفي جميع النواحي المجاورة" (إنجيل لوقا 7/11-17).
الأدلة من هذا النص على أن عيسى عليه السلام هو رسول الله،
وليس هو الله:
والشاهد في هذا النص أن عيسى -عليه السلام- بعدما أحيا الله على يديه هذا الميت الذي يذكر إنجيل لوقا أنه ابن وحيد لامرأة أرملة أن جميع الناس الحاضرين مجدوا الله قائلين:
(قد قام فينا نبي عظيم، وتفقد الله شعبه) ولست أرى أصرح من هذا الدليل على بشرية عيسى، وأنه عبد رسول، فإنه بعد أن أحيا هذا الميت استطاع جميع الحاضرين أن يفرقوا بين الله، وبين عيسى فمجدوا الله سبحانه وتعالى خالق السماوات، والأرض وشهدوا لعيسى عليه السلام بالنبوة، وشكروا الله إذ أرسل في بني إسرائيل نبياً، ويسمون أنفسهم شعب الله إذ أن الله (تفقده) أي اهتم به، ونظر إليه بعين رحمته، وأرسل فيهم نبياً جديداً، وانظر قول الإنجيل: (قد قام فينا نبي عظيم، وتفقد الله شعبه).
وانظر كيف أقرهم عيسى على هذا القول، وكيف ذاع خبر ذلك في كل مكان..، ولو كان عيسى هو الرب الإله الخالق المحيي المميت لقال للجمع: (انظروا هكذا أحيي الموتى، فإني أنا الرب الإله)، ولم يوافقه على قولهم: "قد قام نبي عظيم وتفقد الله شعبه".
5- الأناجيل تشهد جميعها أن عيسى عليه السلام كان رسولاً داعياً إلى الله:
من يقرأ الأناجيل المعتمدة من النصارى يجد أنها تشهد لعيسى أنه رسول الله الداعي إليه، ولو كان إلهاً، ورباً، وخالقاً للسماوات، والأرض كما يزعمون لما كان رسولاً داعياً إلى الله، بل كان داعياً لنفسه، أو قائلاً لهم: إنني أنا الله خالق السماوات والأرض أدعوكم أن تعبدوني، وتسجدوا لي، وتعظموني، وتسبحوا بحمدي، ولا يوجد قط في الأناجيل دعوة كهذه، بالنص، ولا بالمعنى، بل ليس فيها إلا أنه نبي رسول من الله، ومن ذلك:
1- ففي إنجيل متّى: الفصل الرابع:
أ- بدء خدمة يسوع:
ولما سمع يسوع أنه قد ألقي القبض على يوحنا، عاد إلى منطقة الجليل، وإذ ترك الناصرة، توجه إلى كفر ناحوم الواقعة على شاطئ البحيرة ضمن زبولون، ونفتاليم، وسكن فيها، ليتم ما قيل بلسان النبي إشعياء القائل: "أرض زبولون، وأرض نفتاليم على طريق البحيرة ما وراء نهر الأردن، بلاد الجليل التي يسكنها الأجانب - الشعب الجالس في الظلمة، أبصر نوراً عظيماً، والجالسون في أرض الموت، وظلاله، أشرق عليهم نور!".
من ذلك الحين بدأ يسوع يبشر قائلاً: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات!" (إنجيل متّى: الفصل الرابع).
الأدلة من هذا النص:
وهذا النص واضح في أن عيسى بدأ الخدمة هكذا، أي بدأ في العمل للدعوة إلى ربه سبحانه وتعالى ومولاه بعد أن سمع بالقبض على يحيى -عليه السلام- ويحيى هو المسمى عند النصارى (بيوحنا المعمدان)، وقول عيسى للناس الذين يدعوهم إلى الله: "توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات"، أي ارجعوا أيها الناس إلى الله فقد اقترب وعد الله بتمكين أهل الإيمان في الأرض، وهو ما يعبر عنه بملكوت السماوات، أو مملكة الله، ولا شك أن ذلك قد تحقق بحمد الله على يد النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث الله نبيه عيسى مبشراً به كما قال تعالى في القرآن: {
وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} (الصف:6)
ب- نماذج من كلمات عيسى عليه السلام في دعوته إلى
الله:
وهذه نماذج من مواعظ عيسى عليه السلام، ودعوته كما جاء في إنجيل متّى: (طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى، فإنهم سيعزّون، طوبى للودعاء، فإنهم سيرثون الأرض، طوبى للجياع، والعطاش إلى البرّ، فإنهم سيشبعون، طوبى لأنقياء القلب، فإنهم سيرون الله، طوبى لصانعي السلام، فإنهم سيدعون أبناء الله، طوبى للمضطهدين من أجل البرّ، فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى لكم متى أهانكم الناس واضطهدوكم، وقالوا فيكم من أجلي كل سوء كاذبين، افرحوا وتهللوا، فإن مكافأتكم في السماوات عظيمة، فإنهم هكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم!).
ج- ملح الأرض ونور العالم:
"أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح، فماذا يعيد إليه ملوحته؟ إنه لا يعود يصلح لشيء إلا لأن يطرح خارجاً ليدوسه الناس!
أنتم نور العالم، لا يمكن أن تخفي مدينة مبنية على جبل؛ ولا يضيء الناس مصباحاً ثم يضعونه تحت مكيال، بل يضعونه في مكان مرتفع ليضيء لجميع من في البيت هكذا، فليضيء نوركم أمام الناس، ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات".
د- موقف المسيح من الشريعة:
ولا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة، أو الأنبياء، ما جئت لألغي بل لأكمل، فالحق أقول لكم: "إلى أن تزول الأرض والسماء، لن يزول حرف واحد، أو نقطة واحدة من الشريعة، حتى يتم كل شيء يا من خالف واحدة من هذه الوصايا الصغرى، وعلم الناس أن يفعلوا فعله، يدعى الأصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمل بها، وعلمها، فيدعى عظيماً في ملكوت السماوات"، فإني أقول لكم: "إن لم يزد برّكم على برّ الكتبة الفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات أبداً" (إنجيل متّى الفصل الخامس).
وفي هذه النصوص دليل واضح
على أن عيسى -عليه السلام- عندما كان يدعو تلاميذه، ويعلمهم لم يكن يدعوهم إلا على أنه رسول من الله -سبحانه وتعالى- يدعوهم إلى توحيد الله، وعبادته، انظر إلى قوله لهم: (هكذا فليضيء نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات).
فها أنت ترى هنا أنه يدعوهم إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، والصفات الكريمة ليكونوا شامة في الناس، وعلامة مضيئة لهم، وأن الناس إذا رأوا أن من انتسب
إلى الدين كان صالحاً باراً فإنهم بسبب هذا يتوجهون إلى الرب -سبحانه وتعالى- الذي في السماء، ولو كان عيسى -عليه السلام- إلهاً، ورباً، أو ابناً للإله، والرب لكان قال لهم: (إني آمركم بما آمركم به لأعبد، ولأمجد وأعظم)، وقد عبر عيسى -عليه السلام- هنا عن الرب سبحانه وتعالى بأنه (أبوهم) الذي في السماء وقد كان سائغاً في لغتهم تسمية الرب الإله الخالق بالأب على أنه هو المربي وهو الذي يرعى عباده الصالحين، وقد تكرر من عيسى عليه السلام القول أن الله سبحانه وتعالى هو أبوه، وأبوهم كما علم تلاميذه أن يقولوا في صلاتهم:
"أبانا الذي في السماء، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك..".
وبالتالي فحمل ما جاء عن عيسى -عليه السلام- باسم الأب أنه يعني -كما يقول الظالمون- أبوة النسب، وأن عيسى -عليه السلام- إله من جوهر أبيه، وأن ذاته هي ذات الرب -حملهم خطأ كبير وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-.. وهذه النصوص من الإنجيل الذي يؤمنون به، ويعترفون به شاهدة عليهم أن عيسى -عليه السلام- لم يكن إلا عبداً مربوياً مخلوقاً فقيراً عاجزاً نبياً رسولاً يدعوا إلى تمجيد إلهه، ومولاه خالق السماوات، والأرض.
2- قول عيسى -عليه السلام- لتلاميذه إنهم إذا تخلقوا بالأخلاق الكريمة، وصبروا على الجوع، والعطش كانوا رحماء، كرماء، أنقياء القلب، صانعين للسلام، مضطهدين في الله ولله، قال عيسى عن هؤلاء: "طوبى لصانعي السلام، فإنهم سيدعون أبناء الله" ، "طوبى لأنقياء القلب، فإنهم سيرون الله"..
هذه نصوص صريحة واضحة أنه ما عنى بأبناء الله إلا بنوة التحنن، والتربية، والرحمة، والرعاية، وليست بنوة النسب، والجزء..
وقوله: (طوبى لأنقياء القلب فإنهم سيرون الله) تبشير بأن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، وهو ما جاء به كذلك النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم..
ولو كان عيسى -عليه السلام- إلهاً كما يزعم الضالون
لما كان لقوله إن أنقياء القلب سيرون الله!! كيف سيرونه وهو معهم يأكل، ويشرب، وينام!!، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقول عيسى -عليه السلام- لهم كما جاء في الإنجيل: "افرحوا، وتهللوا فإن مكافأتكم في السماء عظيمة، فإنهم هكذا اضطهدوا الأنبياء قبلكم".. دليل على أن المكافئ، والمجازي هو الله، وأن الجزاء لا يكون إلا عنده يوم القيامة، ولو كان عيسى -عليه السلام- هو الله لقال لهم: "سأكافئكم وأجازيكم وأفعل بكم وأفعل".. ولكنه رد الأمر إلى خالق السماوات والأرض سبحانه وتعالى.

3- قول عيسى عليه السلام: (لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة، أو الأنبياء، ما جئت لألغي بل لأكمل).
هذا نص جلي واضح لكل ذي عينين أن عيسى -عليه السلام- رسول قد خلت من قبله الرسل، وأنه واحد من سِلكِهم، وليس رباً، أو إلهاً لهم، أرسلهم إلى الناس كما يزعمون، وأنه ما جاء عليه السلام إلا ليعمل بالشريعة التي سبقته وهي شريعة موسى -عليه السلام- ويكمل ما بناه الأنبياء قبله، وقد جاء تصديق ذلك في القرآن الكريم كما قال سبحانه وتعالى عن عيسى -عليه السلام- أنه قال لقومه: {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون، إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} (آل عمران:50،51).
فعيسى -عليه السلام- لم يكن إلا نبياً رسولاً جاء للعمل بشريعة موسى -عليه السلام- ولم يلغها، وإنما جاء ليكملها بتحليل بعض ما حرم الله على بني إسرائيل، وجاء ليدعو بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجدد لهم ما اندرس من دينهم، ويبعث فيهم جذوة الإيمان التي انطفأت بظلمهم وعتوهم، وتحريفهم كلام الله سبحانه وتعالى..
ولو كان عيسى -عليه السلام- إلهاً ورباً كما يدعي الضالون ما كان ليصح بتاتاً أن يقول لهم: (ما جئت لألغي بل لأكمل)!!، يكمل ماذا؟!
فلا شك أنه -عليه السلام- حلقة في سلسلة الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- وليس رباً إلهاً كما يدعي الظالمون المشركون الحائدون عن تعاليمه، ودينه عليه الصلاة والسلام.
6- عيسى عليه السلام يخبر أنه نبي رسول ويبين حقيقة يحيى عليه السلام (يوحنا المعمدان) وأنه هو (إيليا) المبشر به في التوراة:
جاء في الفصل الحادي عشر في إنجيل (متّى) النص الآتي:
يسوع ويوحنا المعمدان:
بعدما انتهى يسوع من توصية تلاميذه الإثني عشر، انتقل من هناك، وذهب يعلم ويبشر في مدنهم، ولما سمع يوحنا، وهو في السجن، بأعمال المسيح، أرسل إليه بعض تلاميذه، يسأله: "أأنت هو الآتي، أم ننتظر غيرك؟" فأجابهم يسوع قائلاً: "اذهبوا أخبروا يوحنا بما تسمعون وترون: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقامون، والمساكين يبشرون، وطوبى لمن لا يشك في!".
وما أن انصرف تلاميذ يوحنا، حتى أخذ يسوع يتحدث إلى الجموع عن يوحنا: "ماذا خرجتم إلى البرية لتروا؟ أقصبة تهزها الرياح؟
بل ماذا خرجتم لتروا: أإنساناً يلبس ثياباً ناعمة؟ ها إن لابسي الثياب الناعمة في قصور الملوك! إذن، ماذا خرجتم لتروا؟ أنبياً؟ نعم، أقول لكم، وأعظم من نبي، فهذا هو الذي كتب عنه: ها إني مرسل قدامك رسولي الذي يمهد لك طريقك! الحق أقول لكم: إنه لم يظ
هر بين من ولدتهم النساء أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه! فمنذ أن بدأ يوحنا المعمدان خدمته، وملكوت السماوات معرض للعنف؛ والعنفاء يختطفونه! فإن الشريعة والأنبياء تنبأوا
جميعاً حتى ظهور يوحنا، وإن شئتم أن تصدقوا فإن يوحنا هذا، هو إيليا الذي كان رجوعه منتظراً، ومن له أذنان فليسمع!"
"ولكن بمن أشبه هذا الجيل؟ إنهم يشبهون أولاداً جالسين في الساحات العامة، ينادون أصحابهم قائلين: زمّرنا لكم، فلم ترقصوا! وندبنا لكم فلم تنتحبوا! فقد جاء يوحنا لا يأكل، ولا يشرب، فقالوا إن شيطاناً يسكنه! ثم جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا: هذا رجل شره، وسكير صديق لجباة الضرائب، والخاطئين، ولكن الحكمة قد بررها أبناؤها" (إنجيل متّى 11/1-20).
وفي هذا النص من الأدلة على بشرية عيسى -عليه السلام- وأنه عبد الله ورسوله، وأنه لم يكن رباً، وإلهاً وأن هذا يتناقض تماماً مع ما دعا إليه ما يأتي:
1- قول كاتب الإنجيل (بعدما انتهى يسوع من توصية تلاميذه) ولم يقل عبيده، بل هم تلاميذه، ومعنى ذلك أنه ليس إلا أستاذاً ومعلماً ورسولاً ونبياً، فالرب الخالق -سبحانه وتعالى- لا يقال لمن يعلمهم تلاميذه.
- 2 - سؤال يحيى (يوحنا المعمدان) وإرساله، وهو في السجن من يسأل عيسى -عليه السلام- (أأنت هو الآتي، أم ننتظر غيرك؟) يدل على أن عيسى –عليه السلام- نبي مرسل، وهو المسيح المبشر به في التوراة، ولا يوجد نص واحد في التوراة يقول إن الله سيأتي بنفسه إلى أهل الأرض، أو سيرسل ولده إليهم،.. ولو كان شيئاً من ذلك لأخبر الله عنه في الرسالات السابقة، وخاصة في بني إسرائيل الذي أرسل عيسى منهم، وإليهم كما قال تعالى في القرآن الكريم عنه: {ورسولاً إلى بني إسرائيل}.
فكيف لم يخبرهم الله -عز وجل- على لسان موسى والأنبياء -عليهم السلام- الكثيرين منهم قبله وبعده أنه سيرسل إليهم إبنه أو نفسه وأن هذا الإبن سيكون منسوباً إلى بني إسرائيل من نسل داود إنساناً، وإلى الله سبحانه وتعالى روحاً، ونفساً، وذاتاً كما يدّعون، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
3- إشادة عيسى بن مريم -عليه السلام- بيحيى -عليه السلام- وبيان أنه لا يختلف مع يحيى إلا في الأسلوب، فقد كان يحيى -عليه السلام- آخذاً بالحزم، والتقشف
كما جاء في الإنجيل من أنه كان لا يلبس إلا ثوباً من وبر الجمال، ويشد وسطه بحزام من جلد، ولا يأكل إلا من البرية الجراد، والعسل البري (متّى 3/5) وأخذ نفسه بذلك.
وبالبعد عن مخالطة العصاة، وتشديد النكير عليهم، وأما عيسى -عليه السلام- فقد جاء باللين، والرحمة معهم، ومحاولة استمالتهم بالتي هي أحسن إخراجاً لهم من المعصية، ودعوة لهم بالخير، وكان يأكل مع العصاة، ويشرب معهم، ويجالسهم، وقد ضرب عيسى عليه السلام له وليحيى مثلاً -في عدم قبول بني إسرائيل لهما بالرغم من تنوع أسلوبيهما في الدعوة- بأولاد جالسين في الساحات العامة ثم جاءهم أصحاب لهم زمروا لهم فلم يطربوا، وندبوا فلم ينتحبوا!!.
قال عيسى عليه السلام كما جاء في الإنجيل: "جاء يوحنا لا يأكل، ولا يشرب" فقالوا: (إن شيطاناً يسكنه!! وجاء ابن الإنسان) (وهو عيسى بن مريم)، وكان دائماً يسمي نفسه ابن الإنسان ليثبت لهم دائماً بشريته، وأنه إنسان، وليس إلهاً، وذلك كما كان كل نبي يقول: {قل إنما أنا بشر مثلكم}.. قال عيسى: (وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب -أي مع العصاة والخاطئين- فقالوا
هذا رجل سكير وشره، صديق لجباة الضرائب والخاطئين).
ووصف عيسى -عليه السلام- نفسه بذلك دليل واضح، وصريح على أنه رسول من الله شأنه شأن يحيى -عليه السلام-، ولا اختلاف بينهم إلا في أسلوب الدعوة إلى الله، وهل يهجر العصاة، ويشدد عليهم زجراً لهم أم يتلطف معهم ويدعوهم بالحسنى لاستمالتهم إلى الحق؟..
فهل من يقول هذا الكلام قد قام في نفسه مجرد ظن أنه هو الله أو إبنه نزل يدعو الناس إلى عبادة نفسه؟
4- أجاب عيسى –عليه السلام- تلاميذ يحيى بن زكريا (يوحنا المعمدان) بأن ينظروا ما أجراه الله على يديه من الأعمال العظيمة: "فالعمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقامون، والمساكين يبشرون".
وكل هذه من المعجزات التي أيده الله بها والتي مضى مثلها في الرسل قبله، وجاء أعظم منها على يد محمد بن عبدالله -عليه الصلاة والسلام- بعده، وقد استدل عيسى بهذه الآيات على أنه فعلاً هو المسيح المبشر به في التوراة وذلك جواباً على سؤال يحيى.
فالذي بشرت به التوراة كما أسلفنا هو المسيح الذي يمهد الأرض أمام النبي الخاتم محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، ولم تبشر التوراة، وأي كتاب من السماء قط بأن الله ينزل بنفسه من فوق سبع سماواته ليكون بشراً يمشي في الأرض، ويخاطب الناس، ويدعوهم، ويأكل، ويشرب، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فضلاً أن يكذب، ويهان ويصفع على قفاه، ويعلق على خشبة الصلب، ويبصق في وجهه، تعالى الله أن يمكن أعداءه من رسول، وتعالى الله في ذاته أن يكون محلاً لكل هذه النقائص..
5- قارن عيسى -عليه السلام- بين نفسه وبين يحيى -عليه السلام- بأن عيسى هو الأصغر ولكنه الأعظم في ملكوت الله حيث قال: (إني أقول لكم: إنه ليس بين من ولدتهم النساء أعظم من يوحنا، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه) (لوقا 7/29).
وأنت ترى هنا أن عيسى -عليه السلام- قد قارن بين نفسه وبين يحيى -عليه السلام- مقارنة بشر ببشر، ونبي بنبي، ولا شك أن يحيى -عليه السلام- عظيم كما جاء في القرآن الكريم: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً} ولكن عيسى -عليه السلام- أعظم منه، والصغر هنا صغر السن، ومثل هذه المقارنة ما كانت لتعقد لو أن عيسى -عليه السلام- كان إلهاً، ويحيى -عليه السلام- كان بشراً نبياً، لأنه لا مقارنة بين الله، وخلقه، ولو كان عيسى موجوداً قبل الخلق كله كما يزعم النصارى ما قال عن نفسه ويحيى (ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه)!!.
فهل يرى النصارى هذه الآيات من الإنجيل الدالة على كذب ما قالوا في عيسى وأنه لم يكن إلا بشراً رسولاً عليه وعلى كل رسل الله الصلاة والسلام.
6- قول عيسى -عليه السلام- (كل من يعترف بي أمام الناس أعترف أنا أيضاً به أمام أبي الذي في السماوات).
هو بمعنى من يؤمن بي هنا في الدنيا أشهد له بالإيمان أمام الله يوم القيامة، وهذا معنى قول الله تعالى في القرآن:
{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً}.
فكل رسول شاهد وشهيد على قومه يوم القيامة، سيشهد لمن أطاعه بالجنة، ولمن عصاه بالنار، وعيسى -عليه السلام- يستشهد الله -عز وجل- على قومه، فيشهد على من كان معه كما قال تعالى:
{وكنت شهيداً عليهم ما دمت
فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد}.
7- قول عيسى -عليه السلام- (ما جئت لأرسي سلاماً على الأرض بل سيفاً.. فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها.. الخ) هو معنى قول الرسل جميعاً أنهم جاءوا للتفريق بين أهل الإيمان، وأهل الكفران، وبين الحق ومن اتبعه والباطل ومن اتبعه كما قال تعالى عن صالح: {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً فإذا هم فريقان يختصمان} وكما قال سبحانه وتعالى عن حال الناس مع كل رسول أنهم يفترقون إلى مؤمن وكافر، وأن أهل الإيمان يجب عليهم أن يوالي بعضهم بعضاً في الله دون موالاة النسب مع الكفر، فلا ولاية للكافر وإن كان أباً، أو أخاً، أو زوجاً، أو ما كان من القرابة..
فعيسى -عليه السلام- رسول
شأنه
شأن جميع الرسل الذين جاءوا بدعوتهم، ففرقوا بين أهل الإيمان، وأهل الكفر، ووقعت الخصومة، والحرب حتى بين أبناء الرجل الواحد.
7- عيسى عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له:
(وفي إنجيل مرقص 12/28-35)
الوصية العظمى:
(وتقدم إليه واحد من الكتبة كان قد سمعهم يتجادلون، ورأى أنه أحسن الرد عليهم، فسأله: "أية وصية هي أولى الوصايا جميعاً؟" فأجابه يسوع: "أولى الوصايا جميعاً هي اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، فأحبّ الربّ إلهك بكل قلبك، وبكل نفسك، وبكل فكرك، وبكل قوتك، هذه هي الوصية الأولى، وهناك ثانية مثلها، وهي: أن تحب قريبك كنفسك، فما من وصية أخرى أعظم من هاتين". فقال له: "صحيح يا معلم! حسب الحق تكلمت، فإن الله واحد، وليس آخر سواه، ومحبته بكل القلب، وبكل الفهم، وبكل القوة، ومحبة القريب كالنفس، أفضل من جميع المخلوقات، والذبائح!".
فلما رأى يسوع أنه أجاب بحكمة، قال له: "لست بعيداً عن ملكوت الله!" ولم يجرؤ أحد بعد ذلك أن يوجه إليه أي سؤال) (مرقص 12/28-35).
وفي هذا النص من الأدلة على أن عيسى -عليه السلام- دعا إلى توحيد الله وعبادته ما يأتي:-
1- جوابه في أن أولى الوصايا هي ما جاء في التوراة من أن الله سبحانه وتعالى إله واحد: "اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد".
وهذا موافق تماماً لما جاء في القرآن،
كقوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، وكذلك من وجوب محبته سبحانه وتعالى فوق كل محبوب كما قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} الآيات.
2- إقرار السائل أن التوحيد هو أعظم الوصايا، وقوله له أجبت بالحق، ولست بعيداً عن ملكوت الله، أي الدخول إلى الجنة، والحياة الأخرى الأبدية.
فكيف يكون عيسى -عليه السلام- دعا بعد ذلك إلى عبادة نفسه، أو أمه! حاشاه، بل هو رسول كريم دعا كإخوانه من الرسل إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

8- عيسى عليه السلام يدعو ربه خالق السماوات والأرض:
في إنجيل متّى:12
جاء أن عيسى -عليه السلام- بعد أن وعظ الناس بموعظة بليغة في الهيكل، وحذّر اليهود، من أن عقوبة الله ستحل بهم قريباً في مدن صور، وصيدا، وكفر ناحوم، وأنه سيكون لها مثل ما صار لقرى لوط سدوم، وعمورة.
قال عيسى بعد ذلك:
راحة للتعابى:
"أحمدك أيها الأب، رب السماء والأرض، لأنك حجبت هذه الأمور عن الحكماء والفقهاء، وكشفتها للأطفال! نعم أيها الأب، لأنه هكذا حسن في نظرك. كل شيء قد سلمه إليّ أبي، ولا أحد يعرف الإبن إلا الأب، ولا أحد يعرف الأب إلا الإبن، ومن أراد الإبن أن يعلنه له.
تعالوا إليّ يا جميع المتعبين، والرازحين تحت الأحمال الثقيلة، وأنا أريحكم، إحملوا نيري عليكم، وتتلمذوا على يديّ، لأني وديع متواضع القلب، فتجدوا الراحة لنفوسكم، فإن نيري هين، وحملي خفيف!" (متّى:12/26-30).
وفي هذا النص من دلائل عبودية المسيح -عليه السلام- ما يلي:

1- توجهه بالحمد إلى خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، ولو كان هو الله لحمد نفسه، وأثنى على ذاته.
2- جعله شرح صدور الأطفال والصغار إلى الدين الحق، وحجب هذا عن رؤساء اليهود، وعظماء ديانتهم، وأن هذه مشيئة الله سبحانه وتعالى (لأنه هكذا حسن في نظرك) وهذا شبيه بما جاء في القرآن الكريم من أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه هدى لنوره كثيراً ممن لم يكن يؤبه بهم كما قال تعالى في القرآن الكريم: {وكذلك فتناّ بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا، أليس الله بأعلم بالشاكرين}.
3- وأما قول عيسى كما جاء في الإنجيل: (كل شيء قد سلمه لي أبي..) فمعناه أن الطريق إلى الله في وقت عيسى لا يكون إلا باتباعه، ولا يجوز أن يفهم منه أن الله قد سلمه مقاليد السماوات والأرض، وإدخال الجنة، والنجاة من النار بدليل أن الهداية بيد الله، وأنه قد وفق لها من شاء من عباده كما جاء: (لأنه هكذا حسن في نظرك)، ولأن عيسى في كل أمر كان يفزع إلى الله، ويدعوه، فقد دعاه، وألحّ عليه أن يصرف عنه كأس الموت بعد أن علم بتآمر اليهود عليه لقتله، وقد دعاه من أجل تلاميذه، وأدعية عيسى -عليه السلام- وطلبه من الله في الإنجيل كثيرة..
وإنما معنى قوله: (كل شيء قد سلمه لي أبي) هو ما قلناه، وهذا من باب {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}، فالهداية في وقت عيسى -عليه السلام- لا تكون إلا باتباعه لأنه الرسول المرسل في وقته، ولا يجوز لهم إلا اتباعه، والكفر به كفر بالله.
وكذلك الحال بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فالإسلام الحق، والدين المقبول عند الله لا يكون إلا باتباعه لأنه الرسول المرسل إلى الجميع: إلى اليهود، والنصارى، والمشركين، وكل الملل والطوائف، والأجناس لا قبول لأحد عند الله إلا باتباعه، وطاعته.
4-
وصف عيسى -عليه السلام- لنفسه هنا بأنه وديع، ومتواضع، القلب، وصف لائق بالعبد، وأما الرب سبحانه وتعالى فهو متصف بالرحمة، ومعها الجبروت، وبالحلم ومعه الشدة، والمؤاخذة كما قال تعالى في القرآن الكريم: {نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}، فالله، -سبحانه وتعالى- هو الرب الرحيم الودود، وهو كذلك الجبار المتكبر القوي ذو القوة المتين، شديد العقاب، ذو الطّول لا إله إلا هو إليه المصير، وأما صفات الرحمة، والوداعة وحدها فهي لائقة بالعبد، وعيسى -عليه السلام- لم يكن إلا عبداً لله سبحانه، وتعالى ولذلك لم يصف نفسه دائماً إلا بالرقة، والوداعة، والضعف، والإنكسار..
9- عيسى عليه السلام يشهد أنه رسول من عند الإله الواحد سبحانه وتعالى:
جاء في الأناجيل أن عيسى -عليه السلام- كان دائماً يذكر تلاميذه أنه رسول الله إليهم، وأن الإله وحده هو الله سبحانه وتعالى، وأن عيسى -عليه السلام- ليس إلا مجرد رسول تفضّل الله عليه بكل ما أعطاه، وهذه بعض النصوص في هذا الصدد.
في إنجيل يوحنا 8/32-48:
وفي معرض جدال عيسى لليهود الذي آمن بعضهم به، وكفر بعضهم، كما قال تعالى في القرآن: {فآمنت طائفة وكفرت طائفة}، قال عيسى -عليه السلام- للذين آمنوا به من اليهود: "إن ثبتم في كلمتي، كنتم حقاً تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم". فرد اليهود: "نحن أحفاد إبراهيم، ولم نكن قط عبيداً لأحد! كيف تقول لنا: إنكم ستصيرون أحراراً؟"
أجابهم يسوع: "الحقّ الحقّ أقول لكم: إن من يرتكب الخطيئة يكون عبداً لها، والعبد لا يبقى في بيت سيده دائماً: أما الابن فيعيش فيه أبداً، فإن حرركم الابن تصيرون بالحق أحراراً، أنا أعرف أنكم أحفاد إبراهيم، ولكنكم تسعون إلى قتلي، لأن كلمتي لا تجد لها مكاناً في قلوبكم، إني أتكلم بما رأيته عند الأب، وأنتم تعملون ما سمعتم من أبيكم". فاعترضوه قائلين: "أبونا إبراهيم!" فقال: "لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم، ولكنكم تسعون إلى قتلي وأنا إنسان كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله، وهذا لم يفعله إبراهيم، أنتم تعملون أعمال أبيكم!" فقالوا له: "نحن لم نولد من زنا! لنا أب واحد هو الله"، فقال يسوع: "لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني، لأني خرجت من الله وجئت، ولم آت من نفسي، بل هو الذي أرسلني، لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تطيقون سماع كلمتي! إنكم أولاد أبيكم إبليس، وشهوات أبيكم ترغبون في أن تعملوا.. فهو من البدء كان قاتلاً للناس، ولم يثبت في الحق لأنه خالٍ من الحق، وعندما نطق بالكذب فهو ينضح بما فيه، لأنه كذاب، وأبو الكذب! أما أنا فلأني أقول الحق لستم تصدقونني، من منكم يثبت على خطيئة؟ فما دمت أقول الحق، فلماذا لا تصدقونني؟ من كان من الله حقاً، يسمع كلام الله، ولكنكم ترفضون كلام الله، لأنكم لستم من الله!" أ.هـ (إنجيل يوحنا 8/31-42).
أ- فانظر إلى ما نسبه يوحنا إلى المسيح –عليه السلام- هنا: (لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأنني خرجت من الله وجئت، لم آت من نفسي، بل هو الذي أرسلني) واليهود دائماً كانوا يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، كما قال تعالى في القرآن عنهم: {وقالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وإليه المصير} (المائدة).
وقد رد المسيح على قولهم أنهم أبناء الله فقال لهم لو كنتم أبناء الله حقاً كما تدعون لآمنتم بي لأني خرجت من عند الله، أي أن الله هو الذي أخرجه وأرسله، قال عيسى: (لم آت من نفسي بل هو الذي أرسلني) وهذا نص في أنه مجرد رسول أرسله الله تعالى، وليس إلهاً كما تدعي النصارى وكفرت به، أن جوهره من جوهر الرب، تعالى الله عن ذلك.
ب- وفي هذا النص مما يوافق ما جاء في القرآن العزيز سعي اليهود -عليهم لعنة الله- في قتل عيسى بن مريم -عليه السلام- ولذلك قال لهم عيسى هنا (لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم، ولكنكم تسعون إلى قتلي وأنا إنسان كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله) فاحتج عيسى -عليه السلام- وأبطل مدعاهم في بنوتهم لإبراهيم أنهم لو كانوا أبناءه حقاً. بنوة إيمان ومتابعة له لعملوا مثل عمله في الإيمان والعمل الصالح، ولما سعوا في قتل عيسى بن مريم الذي هو رسول الله يدعو إلى الإيمان والعمل الصالح كما كان إبراهيم
كذلك.. ولكنهم كما قال عيسى أبناء الشيطان لعملهم مثل عمله.
وهذا يدلك على أن إطلاق لفظ الابن في لغتهم تطلق على بنوة النسب، وبنوة الطاعة، فسائغ في لغتهم أن يطلق علي المطيع لأمره الله ابن الله، والمطيع للشيطان ابن الشيطان ، ولا شك أن عيسى -عليه السلام- يعلم يقيناً أن اليهود هم من نسل إبراهيم فهم أولاد إسحاق، وإسحاق بن إبراهيم عليهما السلام ونفيه هنا أن يكونوا أبناء إبراهيم ليس نفي بنوة النسب وإنما نفي بنوة الطاعة والإتباع والمحبة على ما هو جار في لغتهم.
ج- وقول عيسى -عليه السلام- (لأني خرجت من الله وجئت) ليس كما ادعت النصارى أنه مولود من الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فالإله الواحد سبحانه وتعالى: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} وإنما هذا كقوله -عليه السلام- أيضاً (من كان من الله حقاً يسمع كلام الله، ولكنكم ترفضون كلام الله لأنكم لستم من الله).
د- وفي هذا النص مما يوافق القرآن الكريم في اتهام اليهود -عليهم لعنة الله- لعيسى -عليه السلام- أنه ابن زنا كما قال تعالى عنهم في القرآن الكريم: {وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً}.
وفي هذا النص يقولون لعيسى عليه السلام معرضين به ( نحن لم نولد من زنا!! لنا أب واحد هو الله)، وهذا تعريض بعيسى -عليه السلام- واتهام له ولأمه برأها الله وشرفها..
هـ- قال عيسى –عليه السلام-: (لم آت من نفسي بل هو الذي أرسلني) وهذا يثبت أن عيسى –عليه السلام- رسول الله، وليس هو الله أو أن له مشيئة مع الله وقد تكرر ورود مثل هذا النص كثيراً في الأناجيل:
1- (ولكن الذي أرسلني هو الحق، وما أقوله للعالم هو ما سمعته منه) (يوحنا 8/27).
2- (إن الذي أرسلني هو معي، ولم يتركني وحدي لأني دوماً أعمل ما يرضيه) (يوحنا 8/30).
وهذا نص واضح في عبودية عيسى -عليه السلام-، وخضوعه لإرادة الله، وتعبده بما يرضي الرب تبارك وتعالى، ولو كان إلهاً مع الله بمشيئة مستقلة كما تدعي النصارى لما كان يقول (ودائماً أعمل ما يرضيه)، وأما معية الله لعيسى فهي كائنة لكل مؤمن يتقي الله سبحانه وتعالى، ومعية الله للأنبياء -عليهم السلام- عظيمة لأن الله يرعاهم ويصنعهم على عينه كما قال تعالى لموسى -عليه السلام- لما أرسله إلى فرعون:
{إنني معكما أسمع وأرى}. وقال أيضاً: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.
ومعية الله مع المؤمنين معية تأييد، ونصر، ورعاية، وعيسى -عليه السلام- كان رسولاً باراً تقياً، وكان الله معه دائماً بالتأييد، والرعاية، والنصرة.
3- في إنجيل يوحنا - أيضاً- أن عيسى -عليه السلام- بعد أن أحيا (لعازر) الذي مات منذ أربعة أيام رفع بصره إلى السماء، وقال:
(أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي، وقد علمت أنك دوماً تسمع لي، ولكني قلت هذا لأجل الجمع الواقف حولي ليؤمنوا أنك أنت أرسلتني) (يوحنا 11/42،43).
وهذا النص يوضح أن عيسى -عليه السلام- كان يحيي الموتى بإذن الله، وليس من عند نفسه، ولا بقوته، وقدرته، وأن الله -سبحانه وتعالى- قد أقدره على إحياء الموتى ليكون هذا معجزة له، ودليلاً على نبوته، ورسالته كما قال تعالى في القرآن: {وإذ تخرج الموتى بإذني}.
فإخراج الموتى من قبورهم الذي صنعه عيسى إنما صنعه بأمر الله -عز وجل- وإقداره له عليه، لا لأنه هو ابن الله صفته صفة الرب، أو أن له قدرة من ذاته أن يحيي الموتى وإنما أقدره الله على ذلك ليعلم الجميع أنه رسول الله كما جاء في نص الإنجيل: (لأجل الجمع الواقف حولي
ليؤمنوا أنك أنت أرسلتني) وقد كانت الجموع حوله تنتظر هذه المعجزة، وكل ما طلبه عيسى أن يشهدوا له فقط بالرسالة، وأن الله هو الذي أرسله، ولو كان هو الله لقال لهم: انظروا بقدرتي صنعت، وأحييت، وخلقت، ورزقت، وسبحان الله أن يكون له ولد، أو أن يكون له شريك في الملك، أو شريك في الألوهية، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه سبحانه وتعالى.
4- (في إنجيل يوحنا 13-21):
أن عيسى -عليه السلام- قال لتلاميذه عندما أرسلهم لنشر الدعوة: (من يقبل الذي أرسله يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني).
وهذه العبارة كقول الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم: [من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى أميري فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله].
والشاهد أن عيسى -عليه السلام- قال: (من يقبلني يقبل الذي أرسلني) فيخبر أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أرسله إلى بني إسرائيل.
5- في إنجيل يوحنا أن المسيح -عليه السلام- قال:
"والحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك، والذي أرسلته يسوع المسيح". وفي هذا دليل على الخلود في الجنة للذي يؤمن بالله الإله الحق وحده سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي أرسل عيسى المسيح عليه السلام. (يوحنا 17/3-4).
6- في إنجيل يوحنا أيضاً:
أن عيسى -عليه السلام- لما أحس بقرب انتهاء وجوده على الأرض شرع يصلي (يدعو) من أجل أن يحفظ الله تلاميذه، فقال في جملة صلاته:-
"أظهرت اسمك للناس الذين وهبتهم لي من العالم (أي الذين آمنوا بي) وقد عملوا بكلمتك، وعرفوا الآن أن كل ما وهبته لي فهو منك لأني نقلت إليهم الوصايا التي أوصيتني بها فقبلوها، وعرفوا حقاً أنني خرجت من عندك (أي لست ابن زنا كما يدعي اليهود لعنهم الله) وآمنوا أنك أنت أرسلتني" (يوحنا 17/8،9).
7- وقال أيضاً:
"أيها الأب البار إن العالم لم يعرفك، وأما أنا فعرفتك، هؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني وقد عرفتهم اسمك، وسأعرفهم أيضاً لتكون فيهم المحبة التي أحببتني بها، وأكون أنا فيهم" أ.هـ
وهذا النص دليل واضح أن عيسى –عليه السلام- كان نبياً رسولاً صالحاً، عرف الله ولم يكن هو الله، لأن الرب الإله لا يجهل شيئاً قبل وجوده، ولا يعرف شيئاً لم يكن يعرفه، وغاية عيسى –عليه السلام- كما دل عليه النص أنه آمن بالله وعرفه يوم كفر الناس، وأنه علَّم تلاميذه اسم الله، وصفاته، وأنه كان يتضرع لربه من أجلهم، ويتمنى أن تبقى فيهم روح الوحي التي نشرها فيهم وعلمهم إياها، وأن تظل تعاليمه في نفوسهم وهذا معنى قوله: (وأكون أنا فيهم) وإلا فإن عيسى -عليه السلام- لا يحل في تلاميذه، ولا يحل تلاميذه فيه، وإنما الذي يكون في التلاميذ من المعلم هو العلم الذي علمه، والنور الذي نشره، والهدى الذي هداهم به، والإيمان الذي يجمع بين أهله، فأهل الإيمان جميعاً ملائكة وبشراً قد حل فيهم نور الإيمان، وهداية الله، ورحمته، ورضوانه، وتنزلت عليهم سكينته.
ولا يفهم من مثل هذه العبارات أن ذات الله سبحانه أو صفاته جل وعلا تحل في مخلوقاته، ومصنوعاته، ومخترعاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فالرب جل
وعلا
هو الإله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
10- إطلاق لفظ (الأب) على الله سبحانه وتعالى بمعنى المربي والرحمن، وليس بمعنى أبو النسب:
تكرر استعمال لفظ الأب في الأناجيل التي يعتمدها النصارى بمعنى المربي، والرحمن، وهي نسبة تحبب إلى الله، وتقرب منه، وليست مطلقاً نسبة بنوة، ونسب وهذه جملة من الأقوال المنسوبة إلى عيسى -عليه السلام-:
1- قول عيسى -عليه السلام- "وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم، ويضطهدونكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات" (متّى 6/34).
2- وقوله أيضاً: "فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم السماوي كامل" (متّى 6/34).
3- وقوله أيضاً: "أما أنت فعندما تتصدق على أحد فلا تدع يدي اليسرى تعرف ما تفعل اليمنى لتكون صدقتك في الخفاء، وأبوك السماوي الذي يرى في الخفاء هو يكافئك".
4- وقوله أيضاً: "أما أنت فعندما تصلي فادخل غرفتك وأغلق الباب، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي يرى في الخفاء هو يكافئك".
5- وقوله أيضاً -عليه السلام-: "فصلوا أنتم الصلاة: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس أسمك! ليأت ملكوتك! لتكن مشيئتك على الأرض كما هي في السماء! خبزنا كفافنا أعطنا اليوم! واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن للمذنبين إلينا! ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير! فإن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم، وإن لم تغفروا للناس لا يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم" (متّى 6/15).
6- وقوله -عليه السلام- أيضاً: "وأما أنت فعندما تصوم، فاغسل وجهك، وعطر رأسك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي في الخفاء هو يكافئك" (متّى 6/18".
7- وقوله أيضاً: "تأملوا طيور السماء لأنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع في مخازن، وأبوكم السماوي يعولها" (متّى 6/27).
8- وقوله: "لا تحملوا الهم قائلين: ما عسانا نأكل، ما عسانا نشرب، أو ما عسانا نكتسي فهذه الحاجات كلها تسعى إليها الأمم، فإن أباكم السماوي يعلم حاجتكم إلى هذه كلها، وأما أنتم فاسعوا أولاً إلى ملكوت الله وبره" (متّى 6/34).
9- وقوله أيضاً -عليه السلام-: "اطلبوا تعطوا.. اسعوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم.. إلى أن يقول: فأي إنسان فيكم يطلب منه ابنه خبزاً فيعطيه حجراً، أو سمكة فيعطيه حية، فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالأحرى جداً يعطي أبوكم السماوي عطايا جيدة للذين يطلبون منه" (متّى 7/12).
10- وكذلك ما جاء في إنجيل مرقص (12/26،27) على لسان عيسى -عليه السلام-: "ومتى وقفتم تصلون، وكان لكم على أحد شيء فاغفروا له لكي يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاتكم، ولكن إن لم تغفروا، لا يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السماوات زلاتكم".

الباب الثاني
خلاصة معتقد أهل الإسلام في عيسى بن مريم عليه السلام
كما دل على ذلك الكتاب والسنة:
1- عيسى -عليه السلام- عبد الله، ورسوله أرسله الله -سبحانه وتعالى- إلى بني إسرائيل ليقيمهم على الدين الصحيح بعد أن فسدت أحوالهم.
2- أيد الله سبحانه وتعالى عيسى -عليه السلام- بكثير من المعجزات لتكون دليلاً على صدقه ورسالته، ومن ذلك إحياء الموتى، وإرجاع البصر إلى عيون العمي، والسمع إلى الصم، وإبراء المشلولين، ومن بهم عاهات تستعصي على علاج البشر، كشفاء الأبرص، وكذلك إخبار الناس بما يدخرون في بيوتهم، وما سيأكلونه في الغد، وتكثير الطعام القليل ليشبع العدد الكبير من الناس، وجعل الله عيسى -عليه السلام- مباركاً في أي مكان يكون فيه.
3- دعا عيسى -عليه السلام- إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكان هو -عليه السلام- نموذجاً، ومثلاً في العبادة، والتقى، فلم يعرف عنه ذنب قط، وأمضى حياته بعد الرسالة في الدعوة وجهاد الكلمة، ولم يصرفه عن ذلك زوجة، ولا ولد، ولا مسكن، ولا تجارة، وكان كل همه أن يخلص الناس دينهم لخالق السماوات والأرض، وأن يعملوا للآخرة الباقية، وأن يتمسكوا بحقيقة البر والتقوى، وليس بالظاهر فقط.
4- كانت بداية عيسى -عليه السلام- نذراً نذرته امرأة عمران حيث نذرت لله أن تجعل ما في بطنها خادماً لبيت الله منقطعاً للعبادة فيه، ولكنها وجدت أن حملها الذي وضعته أنثى، فاستمرت في الوفاء بنذرها كما نذرته، وسمت هذه الأنثى مريم، وكان من فضل الله عليها أن جعلها في كفالة نبي الله زكريا الذي كان يسوس بني إسرائيل كما هي سنة الله فيهم، أن يكون النبي مرشداً ومعلماً وكذلك متولياً لشئونهم الحياتية، وكان زكريا كلما دخل محراب مريم (والمحراب هو الخلوة التي تلحق ببيوت الله من أجل الانقطاع للعبادة) وجد عندها الفاكهة في غير أوانها، فإذا سألها زكريا عن ذلك قالت: هو من عند الله؟، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ثم لما كبرت مريم وبلغت مبلغ النساء أرسل الله إليها جبريل (روح القدس، وملاك الرب) فدخل عليها محرابها في صورة رجل فاستعاذت بالله سبحانه، فأخبرها أنه ملاك الرب قد جاءها ليبشرها بأن الله قد قضى أن يهبها ولداً مباركاً يكون نبياً لبني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويقيمهم على الحق، وأن الله سيعلمه التوراة، وينزل عليه الإنجيل ويؤيده بالمعجزات، فاستعظمت أن يكون منها ولد وليس لها رجل فكيف؟!
فأخبرها ملاك الرب جبريل، روح القدس أن الله –عز وجل- قادر على كل شيء، وأنه يخلق ما يشاء مما يشاء، وأنه إذا قضى أمراً فإنه يقول له كن فيكون.. ثم نفخ في جيب ضرعها، فحملت من تلك النفخة كما تحمل النساء، ثم لما جاءها الوضع خرجت إلى مكان منعزل بعيداً عن أعين الناس، فوضعت ابنها عيسى عليها السلام، وباتت في حال عظيمة من الخوف والفضيحة، والذل، والوحشة، والإنكسار فتمنت أن تكون قد ماتت قبل هذا الابتلاء، أو أن تكون شيئاً منسياً لا يأبه له أحد، ولا يتذكره أحد: {قالت: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً} فأنطق الله وليدها وهو ما زال ملقىً تحتها قائلاً: أماه لا تجزعي، ولا تحزني هذا جدول ماء، فاشربي منه، وهذه النخلة هزي جذعها يهتز، ويسقط عليك من رطبها.. وإذا رأيت أحداً فصومي عن الكلام وسأتولى أنا الرد عنك..
وكانت هذه أول معجزاته -عليه السلام-،.. فلما حملته مريم وعادت إلى أهلها استعظموا أمرها عندما وقعت أعينهم عليها وهي تحمل غلاماً، وبادروها باللوم والتعنيف قائلين: يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً، لقد أتيت شيئاً منكراً أيتها العابدة الناسكة، لم يكن أحد من أهلك على هذا المسلك المشين، فلم يكن أبوك رجل سوء، ولا أمك بغية زانية، ولا أحداً من إخوانك، فما كان منها -وقد نذرت لله صوماً عن الكلام- إلا أن أشارت إليه: أي اسألوا ابني عن نفسه، فاستنكروا منها كذلك أن تشير إلى طفل رضيع ليرد عنها ويحدث الناس: {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً}، فانتصب عيسى لبيان حقيقة نفسه، وتبرئة والدته فقال: إنني عبدالله، سأعيش لأعمل بالتوراة ولأكون نبياً رسولاً من الله، وسينزل الله علي كتاباً يتلى هو الإنجيل، وسأكون مثلاً يحتذى في الخلق، والفضل، والعلم والتقى، ورجلاً مباركاً في كل مكان، وسأكون مصلياً عابداً لله الذي أرسلني لأدعو الناس إلى عبادته، {قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبراً بوالدتي، ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام علي يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أبعث حياً}.

5- ولما بلغ عيسى -عليه السلام- مبلغ الرجال آتاه الله علم التوراة، وأنزل عليه الإنجيل، وأرسله إلى بني إسرائيل رسولاً معلماً داعياً إليه، وأيده بصنوف من المعجزات ولكن بني إسرائيل وقفوا منه موقف التكذيب شأنهم معه كشأنهم مع سائر أنبيائهم، ورسلهم فعارضوه، وأنكروه، عامتهم.، وجمهورهم ولكن آمن به بعضهم، ثم اشتد مكر اليهود به وسعيهم في إبطال دعوته، وقطع رسالته، فوشوا به إلى الحاكم الروماني في فلسطين ليقتله.
{ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}.
ولما جاء الوقت الذي أرادوا فيه تنفيذ جريمتهم، وأرادوا القبض على عيسى، وقتله وصلبه، ألقى الله شبهه على رجل آخر، وأصعده الله إلى السماء عنده، كما قال تعالى: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا}، فقبض اليهود وأعوان الحاكم الروماني على من ألقى عليه شبهه، واقتادوه، وصلبوه، وقتلوه، فظن كثير من الناس أن المصلوب هو عيسى -عليه السلام-، ولكن الخاصة من تلاميذه هم الذين كانوا يعرفون حقيقة ما حدث.
6- يعتقد أهل الإسلام أن عيسى -عليه السلام- حي موجود في السماء وأنه سينزل في آخر الزمان في شرقي دمشق، فيصلي مع المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقود أهل الإيمان منهم في فترة عصيبة بها فتن عظيمة، ومن هذه الفتن ظهور المسيح الدجال الذي يزعم أنه هو الله، والذي تجري على يديه أمور عظيمة من خوارق العادات، كأمره للسماء أن تمطر فتمطر، وللأرض أن تخرج كنوزها، ومعادنها فتخرجها، وإحيائه لبعض الموتى، ولكنه مع ظهور هذه الخوارق فهو كافر ملعون، مدع للألوهية والربوبية، أعور العين اليمنى، لا يتبعه إلا الأشرار، والفجار، والكفار، ويفر منه كل مؤمن تقي.. ثم يكون من شأن عيسى المسيح الحقيقي، أن يلحق بهذا المسيح الكذاب فيقتله ويطهر الأرض من شره وكفره، وعندما ينزل عيسى عليه السلام، فإنه يأمر بكسر الصلبان وقتل عبدتها من أهل الأوثان، ويأمر بقتل الخنازير الذي استباح أكله المدّعون للنصرانية واتباع المسيحية، ويأمر الناس بالصلاة، ويحكم بين الناس بالقرآن.
7- عيسى -عليه السلام- هو أحب الرسل إلى أهل الإسلام بعد محمد -عليه الصلاة والسلام- لأنه هو آخر نبي قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو آخر من بشر به من الرسل العظام، وهو الذي يقود أمة الإسلام في آخر الزمان، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبدالله: [أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي].
8- ويعتقد المسلمون أن النصارى القائلين بأن عيسى عبدالله ، ورسوله، وكلمته والذين شهدوا في عيسى بما شهد به الإنجيل أنه عبد رسول، وأنه جاء مبشراً بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو من أهل الجنة، ومن أدرك النبي محمداً وآمن به منهم فله أجره مرتين، مرة للإيمان بعيسى -عليه السلام-، ومرة للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وأما من اعتقد من النصارى أن عيسى هو الله، أو أنه ابن الله ذاته ذاته، أو أنه ثالث ثلاثة (أقنوم الرب، وأقنوم عيسى، وأقنوم الروح القدس).
أو أن عيسى إله كامل وإنسان كامل فهؤلاء جميعاً يعتقد المسلمون أن كل من اعتقد عقيدة من هذه فهو كافر بالله خالد في النار خلوداً أبدياً خارج من دين الرسل جميعاً، ليس من أتباع عيسى، ولا مؤمن بموسى أو بأي نبي من الأنبياء، فإن أي نبي لم يقل إن ربه وإلهه الذي يدعوا إليه هو عيسى بن مريم.
9- ويعتقد المسلمون المؤمنون أن القول بأن عيسى -عليه السلام- مات مصلوباً أو أن الله مكن منه اليهود ليقتلوه، ويصلبوه، ويبصقوا في وجهه أنه كذلك كافر مؤمن بالباطل في شأن عيسى المسيح عليه السلام الذي لم يقتل، ولم يصلب، وإنما رفعه الله إليه، وطهره من الذين كفروا، وألقى شبهه على غيره، وأن الذي قتلته اليهود لم يكن عيسى -عليه السلام- وإنما كان شبيهه.
10- يعتقد المسلمون أن ما ادعاه النصارى من أن عيسى هو ابن الله أو الله أو أنه التقاء الناسوت باللاهوت وأنه نزل ليخلص الناس من خطيئة آدم، وأنه فدى الناس بدمه، كل ذلك من الكذب والإفتراء، وأن من ادعى ذلك، واعتقده فهو كافر مخلد في النار.
11- يعتقد المسلمون أن النصارى هم أقرب الناس إلى أهل الإسلام وأولى الناس بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم لو تمسكوا بالإنجيل حقاً، وأقاموا ما بقي فيه من الحق لآمنوا بالرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون}.
هذه خلاصة ما يعتقده أهل الإسلام في عيسى بن مريم عليه السلام، والذين انتسبوا إليه.
معنى أن عيسى كلمة الله:
ومعنى أن عيسى كلمة الله، أي أن الله -سبحانه وتعالى - قد خلقه بالكلمة وهي (كن) كما قال تعالى: {إنما مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}. وهذا الذي ذكره جميع المفسرين من السلف أن تسمية عيسى بكلمة الله أنه مخلوق بالكلمة، وأن الكلمة نفسها ليست ذات عيسى، أو أنه خلق منها، تعالى الله عن ذلك.
فكلمات الله غير مخلوقة، كما قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل؛ فكان عيسى –عليه السلام- بإذن الله عز وجل؛ فهو ناشيء عن الكلمة التي قال له: {كن} فكان، والروح التي أرسل بها: هو جبريل عليه السلام".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيمن زعم أن عيسى -عليه السلام- مخلوق من الكلمة أي أن الكلمة هي نفس عيسى قال: "فلا ريب أن المصدر يعبر به عن المفعول به في لغة العرب، كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير، ومنه قوله: (هذا خلق الله)، ومنه تسمية المأمور به أمراً، والمقدور قدرة، والمرحوم به رحمة والمخلوق بالكلمة كلمة، لكن هذا اللفظ إنما يستعمل مع ما يقترن به مما يبين المراد، كقوله: {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين}، فبين أن الكلمة هو المسيح.
ومعلوم أن المسيح نفسه ليس هو الكلام {قالت: أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر! قال كذلك الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} فبين لما تعجبت من الولد أنه سبحانه يخلق ما يشاء؛ إذا قضى أمراً أن يقول له كن فيكون، فدل ذلك على أن هذا الولد مما يخلقه الله بقوله: {كن فيكون}؛ فلهذا قال أحمد بن حنبل: عيسى مخلوق بالكن؛ ليس هو نفس الكن ولهذا قال في آية أخرى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فقد بين مراده أنه خلق بكن لا أنه نفس كن ونحوها من الكلام. (الفتاوي (20/493-494).
معنى أن عيسى -عليه السلام- روح الله:
وأما معنى أن عيسى روح
الله فهو أنه عليه الصلاة والسلام قد خلق بنفخة الملك الذي أرسله الله إلى مريم، وهذا الملاك هو جبريل، والذي سماه الله روح القدس كما جاء في قوله تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} فمنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم هو جبريل وسمي روح القدس أي الروح المقدسة، لأن الله نزهه وقدسه وهو روح لأنه نزل بالروح، كما سمّى الله القرآن روحاً فقال: {وكذلك أنزلنا إليك روحاً من أمرنا}..
وأما نسبة روح القدس إلى الله فنسبة تشريف كما قال تعالى لمريم: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً}.
والنسبة إلى الله إن كانت معنى لا يقوم بنفسه، ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله سبحانه وتعالى كما نقول سَمْعُ الله، وبَصَرُ الله، ورحمةُ الله، وإن كان المضاف إلى الله عيناً قائمة بنفسها كما نقول بيتُ الله، وناقةُ الله، ورسول الله، فهذه مخلوقات أضيفت إلى الله، وإضافتها هنا إلى الله إضافة تشريف وتعظيم.
وكذلك الشأن في وصف عيسى بأنه روح الله، ومعلوم أن عيسى ذات إنسانية فتسمية روح الله تسمية تشريف كما سمي جبريل كذلك روح الله تشريفاً له، وتقديساً.
وبهذا نفهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: [وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه].
وفي الحديث الآخر: [ائتوا عيسى عبدالله ورسوله وكلمة الله، وروحه] (حديث البخاري، كتاب التفسير باب 2 حديث 1).

الباب الثالث
النصارى أعظم الناس اختلافاً في دينهم
لا يوجد أمة عندها من الاختلاف في دينها كما عند النصارى في دينهم، وخلافهم لا يكاد ينحصر، وقد بدأ حول شخص المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام-، وحقيقة الرب سبحانه وتعالى، وروح القدس، وتشعب إلى كل فروع دينهم، ولا يوجد فرقة منهم إلا وهي تكفر الأخرى، وتلعنها.
1- الموحدون:
فمنهم من قال إن المسيح عيسى بن مريم هو رسول الله فقط لم يزد على أنه رسول الله خلق بأمر الله، وكلمته كن، وهو روح الله، أيده بالمعجزات، وأرسله إلى بني إسرائيل، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وتوحيده، وعبادته، وهذه عقيدة النصارى الأول الذين سلط قياصرة الروم العذاب عليهم، وأحرقوا كتبهم، وأناجيلهم، واضطهدوهم حتى أبادوهم إلا قليلاً، وهذه الطائفة المؤمنة هي التي يوافق اعتقادها اعتقاد أهل الإسلام، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أثنى الله عليهم في القرآن كقوله تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}.
فالحواريون الذين وصفهم الله بأنهم (أنصار الله)، والفئة التي آمنت من بني إسرائيل وأظهرها الله بحجتها، ودعوتها إلى التوحيد هم المؤمنون حقاً بعيسى بن مريم -عليه السلام-.
ولقد تناقضوا بعد عيسى إلى ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك للاضطهاد العظيم الذي وقع عليهم، وخاصة بعد أن دخل قسطنطين القيصر الروماني في النصرانية وفرضها في ممالك الدولة الرومانية الواسعة ولكنها فرضها -يوم فرضها- وثنية إلحادية كافرة كما جاء في مجمع نيقية الأول المنعقد في سنة 325م، والذي وضع فيه (الأمانة النصرانية) التي هي في حقيقتها أعظم خيانة لدين المسيح -عليه السلام- حين غير الدين الحق عقيدة، وشريعة، وفرض ديناً باطلاً يقول بأن المسيح إله حق من إله حق وجد مع الأب منذ الأزل.
اندراس التوحيد والدين الحق بسبب الاضطهاد وإحراق الكتب:
وبفعل الاضطهاد الشديد للقائلين بالتوحيد، ومنكري ألوهية المسيح بدأ الدين الصحيح يندرس شيئاً فشيئاً، فقد أحرقت الأناجيل الصحيحة، وكتب هذه الطائفة، وفرض الدين الباطل بقوة السلاح والقانون.
وهكذا بدأ يتناقض أهل الإيمان الصحيح من النصارى حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قد بقي منهم إلا عدد قليل كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن الله نظر إلى أهل الأرض قبل أن يبعثني فمقتهم عربهم، وعجمهم إلا غبرات من أهل الكتاب].
ومن هؤلاء الذين أدركهم الإسلام، وكانوا على الحق النجاشي ملك الحبشة الذي تليت عليه الآيات الأولى من سورة مريم في شأن عيسى -عليه السلام- فأخذ عوداً من القش وقال: لم يزد عيسى بن مريم على هذا ولا مثل هذه (أي العود)، فأنكرت بطارقته ذلك.
ولكنه بقي مؤمناً موحداً، ومات على ذلك، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه يوم مات.
2- مقالة آريوس:
ومنهم من رأى أنه ابن الله، ولكنه مخلوق مصنوع، وهذه مقالة آريوس الذي كان يقول: (الأب وحده الله، والإبن مخلوق مصنوع، وقد كان الأب ولم يكن الإبن)، واتبع مقالة آريوس جمع عظيم من النصارى في مصر، وفلسطين، ومقدونية، والقسطنطينية ولكن بطريرك الإسكندرية عمد إلى لعن
آريوس هذا، وطرده وزعم أنه رأى المسيح في النوم مشقوق الثوب فقال له: يا سيدي من شق ثوبك؟ فقال له: آريوس!! وبهذه الرؤيا المكذوبة أصدر حكمه بوجوب طرد آريوس، ولعنه وإخراجه من الكنيسة، ولكن آريوس لم يستسلم واستمر في نشر دعوته في أماكن كثيرة وزاد أتباعه في كل مكان.
اختلاف النصارى حول حقيقة المسيح وعقد مؤتمر نيقية سنة 325م:
ومن أجل ذلك عقد قسطنطين مؤتمر نيقية سنة 325م من أجل الرد على مقالة آريوس.
يقول ابن البطريق:
(بعث الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطاركة، والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، وكانوا مختلفين في الآراء، والأديان، فمنهم من كان يقول إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية، ويسمون الريميتين، ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها، وهي مقالة سابليوس، وشيعته، ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث الولد من ساعتها، وهي مقالة البيان وأشياعه.
ومنهم من كان يقول إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الإبن من مريم، وإنه اصطفي ليكون مخلصاً للجوهر الأنسر صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله، ويقولون إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة، ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية، وأشياعه، وهم البوليقانيون، ومنهم من كان يقول إنهم ثلاثة آلهة لم تزل، صالح، وطالح، وعدل بينهما، وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وزعموا أن مرقيون هو رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشرة أسقفاً. أ.هـ
ولما وجد قسطنطين أنهم مختلفون في حقيقة المسيح على هذا النحو، اختار من المجتمعين ثلاثمائة وثمانية أسقفاً من الذين ارتضى مقالتهم في ألوهية المسيح، وعقد لهم مجلساً خاصاً، وأصدروا القرارات التي أعلنت ألوهية المسيح -عليه السلام- أنه موجود في الأزل من جوهر أبيه، وأصدروا ما سموه (بالأمانة) المسيحية، وقد كان هذا -كما أسلفنا- أعظم خيانة للدين الذي بعث به المسيح -عليه السلام-.
وهكذا استطاع قسطنطين أن يجعل دين القلة وهم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً هو الدين الرسمي، وينفي ويضطهد الكثرة المخالفة لألوهية المسيح، وزاد قسطنطين أن أعطى خاتمه، وسيفه إلى هؤلاء، وسلطهم على من يخالفهم في الاعتقاد، هذا مع أن قسطنطين هذا لم يعلن الدخول في المسيحية إلا وهو على فراش الموت.
وهكذا نشأ الحكم الكهنوتي الذي يحتكر فهم الدين، وتفسيره، ويحرم من الجنة من يخالفه، ويطرد من الكنيسة والنصرانية ما يضاده، وكان هذا من أعظم البلاء على دين النصرانية حيث فرض عليهم الإنحراف، والخروج على تعاليم المسيح -عليه السلام-، وأمر هذا المجمع بتحريق جميع الكتب التي تخالف العقيدة التي خرج بها مجمع نيقية.
وهذا هو نص ما سماه النصارى (بالأمانة) وهي القرارات التي خرج بها المجمع الأول:

(الأمانة) النصرانية:
1- نؤمن بإله واحد، الله الأب، ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، ما يرى وما لا يرى.
2- ونؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، الذي به كان كل شيء.
3- الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاص نفوسنا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء تأنّس.
4- وصلب عن البشر على عهد بيلاطس البنطي، وتألم، وقبر.
5- وقام من الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب.
6- وصعد إلى السماوات وجلس على يمين الأب.
7- وأيضاً يأتي في مجده ليدين الأحياء، والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء.
ولأن هذه (الأمانة) هي خلاصة المعتقد الذي فرضته الكنيسة المؤيدة بالسلطان، وجعلت من لا يؤمن بها كافراً خارجاً من دين المسيحية، فإنها فرضت كذلك تلاوته في بداية كل قداس وصلاة، وفرضت حفظها وتلاوتها على كل مسيحي.
الخلاف حول روح القدس ومقالة (مقدونيوس):
خرج مجمع نيقية الأول سنة 325م كما ذكرنا بألوهية المسيح، ولم يتعرض لحقيقة روح القدس، وقام في النصارى من يقول إن روح القدس ليس بإله وإنما الإله هو الأب والإبن فقط -في زعمهم- وكان صاحب هذه المقالة رجل يقال له (مقدونيوس)، فخشي أصحاب التأليه منهم أن تنتشر هذه المقالة، وتمتد إلى القول بأن المسيح كذلك مخلوق مصنوع، فعقد من أجل ذلك مجمع في مدينة القسطنطينية، اجتمع فيه (150) مائة وخمسون أسقفاً، وقام فيهم بطريرك الإسكندرية (ثيموثاوس) قائلاً:
(ليس لروح القدس عندنا معنى إلا أنه روح الله، وليس روح الله شيئاً غير حياته، فإذا قلنا روح القدس مخلوق فقد قلنا إن حياته مخلوقة، وإن قلنا إن حياته مخلوقة فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به، ومن كفر به وجب عليه اللعن).
واتفق الحاضرون بعد هذه المقالة على لعن (مقدونيوس) الذي قال بأن روح القدس مخلوق، وليس هو الإله، وطردوا كذلك جميع البطاركة الذين يقولون بمقالته.
وزاد الحاضرون على ما يسمونه بالأمانة التي خرجت عن المجمع الأول: (ونؤمن بروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والإبن وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاثة وجوه، وثلاثة خواص وحدية في التثليث وتثليث في وحدية، كيان واحد في ثلاث أقانيم، إله واحد، جوهر واحد، طبيعة واحدة).
ولا يخفى ما في هذه الأقوال من التخبط والضلال، والمقصود هنا بيان الاختلاف في دينهم، وعقيدتهم.
ومثل هذا الكلام الذي لا يستند إلى نص في الإنجيل، أو التوراة، ولا إلى عقل صحيح يفرق بين الخالق والمخلوق، وبين الرب الإله خالق السماوات والأرض، وبين مخلوقاته، ومصنوعاته، ومخترعاته كروح القدس الذي هو جبريل، وعيسى -عليه السلام- الذي خلقه من أنثى بلا ذكر، أقول مثل هذا الكلام ما كان ليجتمع الناس عليه إلا بالتقليد، والإرهاب، وهذا ما فعلته الكنيسة.
مقالة نسطور ومجمع أفسس الأول سنة 431م:
ولما استقرت العقيدة النصرانية عبر المجامع الأولى على القول بالتثليث: في الأب والإبن، وروح القدس، قام بطريرك القسطنطينية (نسطور)، فأعلن التفريق بين الأقنوم والطبيعة فقال: الأقنوم هو الأب، وهو الإله، وأما الطبيعة فهو الإنسان، وهو المسيح، ومريم ولدت الإنسان ولم تلد الإله، فهي أم الإنسان، وليست أم الإله، وقال: (إن المسيح متحد مع الله بالمحبة، وآخذ منه بالألوهية).
وقامت قيامة الكنيسة لذلك، ورأت أن هذا البطريرك (نسطور) قد جاء بهرطقة (الهرطقة في لغة النصارى معادلة لمعنى البدعة والإلحاد عند المسلمين) وإلحاد لأنه بذلك أنكر ألوهية المسيح، وادعى أنه فقط إنسان مملوء من البركة، والنعمة فهو رسول من الله ملهم لم يرتكب خطيئة، وبهذا رفع نسطور المسيح شيئاً فوق مرتبة الإنسانية، ولم يقل إنه بذاته إله مع الله، أو متحد بالله.
ومن أجل ذلك انعقد مجمع في مدينة أفسس سنة 431م، وخرج بالقرار الآتي: (إن مريم العذراء والدة الله، وأن المسيح إله حق، وإنسان معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم)، ثم لعنوا نسطوراً، وأخرجوه من رحمة الكنيسة، والدين النصراني ولكنه ذهب يدعو إلى مذهبه فتبعه كثيرون في نصيبين، والعراق، وأرض الجزيرة.
ثم نشأ خلاف جديد حول كيفية اجتماع الإله مع الإنسان، أو ما يسمونه التقاء اللاهوت بالناسوت..
هل أصبح بعد ذلك في عيسى -عليه السلام- طبيعة واحدة؟ أم طبيعتان منفصلتان؟ وكيف أصبح عيسى -عليه السلام- إلهاً
كاملاً؟ وإنساناً كاملاً؟ كيف؟

مقالة (ديسقورس) بطريرك الإسكندرية وإعلان الطبيعة الواحدة للمسيح ومجمع أفسس الثاني:
وخرج بطريرك الإسكندرية (ديسقورس) برأي خالف فيه ما خرج به المؤتمرون في مجمع أفسس الأول وهو أن للمسيح طبيعة واحدة لا طبيعتين منفصلتين، وأن المسيح قد امتزج فيه اللاهوت بالناسوت كما يمتزج النار بالحديد.
وقام بطريرك القسطنطينية معارضاً لهذا القول، ووصل الخلاف أن أمرت ملكة الرومان في ذلك الوقت بانعقاد مجمع لمناقشة هذا الأمر، فانعقد مؤتمر (خليكدونية سنة 451م) وخرج بالقرار الآتي:
"إن مريم العذراء ولدت إلهنا، ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة الإلهية، ومع الناس في الطبيعة الإنسانية، وشهدوا أن للمسيح طبيعتين، وأقنوماً واحداً ووجهاً واحداً، ولعنوا نسطوراً، ولعنوا ديسقورس، ومن يقول بمقالتهما
":
ونفي ديسقورس (بطريرك الإسكندرية) إلى فلسطين، فدعا لدعوته، هناك فاتبعه جمهور أهل فلسطين، وبيت المقدس.
وانشقت تبعاً لذلك الكنيسة المصرية عن الكنيسة الأوربية، وكان سبب الإختلاف كما أسلفنا حول المسيح طبيعة واحدة أم طبيعتان؟
ولقد لخص صاحب كتاب تاريخ المسيحية في مصر عقيدة الكنيسة المصرية فقال: "كنيستنا المستقيمة الرأي التي تسلمت إيمانها من كيرلس، وديسقورس، ومعها الكنائس الحبشية والأرمنية، والسريانية الأرثوذكسية تعتقد بأن الله ذات واحدة مثلثة الأقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الإبن، وأقنوم الروح القدس، وأن الأقنوم الثاني أي أقنوم الإبن تجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، فصير هذا الجسد معه واحداً وحدة ذاتية جوهرية منزهة عن الاختلاط، والامتزاج والاستحالة، بريئة من الإنفصال، وبهذا الاتحاد صار الإبن المتجسد طبيعة واحدة من طبيعتين، ومشيئة واحدة".
القول بالمشيئة الواحدة وانفصال المارونية:
ظهر في سوريا راهب يسمى يوحنا مارون في القرن السابع كان يقول بالمشيئة الواحدة، مع قوله بالطبيعتين، وخالف بذلك قرارات المجامع السابقة التي تقول بطبيعتين ومشيئتين، فاجتمع من أجل ذلك المجمع السادس بمدينة القسطنطينية سنة 680م، وأقر لعن من قال بأن للمسيح مشيئة واحدة، كما لعن وكفر وقطع من قال بأن للمسيح طبيعة واحدة وخرج بالقرار الآتي:
"إننا نؤمن بأن الواحد من الثالوث الإبن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية الدائم المستوى مع الأب الإله في أقنوم واحد، ووجه واحد، يعرف تاماً بناسوته، تاماً بلاهوته في الجوهر الذي هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين، وفعلين، ومشيئتين في أقنوم واحد".
كما شهد المجمع الخلقيدوني سنة 451م: "أن الإله الإبن في آخر الأزمان اتخذ من العذراء السيدة مريم القديسة جسداً إنسانياً بنفس ناطقة عاقلة، وذلك برحمة الله محب البشر، ولم يلحقه في ذلك اختلاط ولا فساد، ولا فرقة ولا فصل، ولكن هو واحد يعمل ما يشبه الإنسان أن يعلمه في طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمله في طبيعته، الذي هو الإبن الوحيد، الكلمة الأزلية المتجسدة التي صارت بالحقيقة لحماً، كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن تنتقل من مجدها الأزلي، وليست بمتغيرة، ولكنها بفعلين، ومشيئتين وطبيعتين إله وإنسان، وبهما يكمل قول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها، فتعملان بمشيئتين
غير متضادتين".
الاختلاف حول منشأ انبثاق روح القدس وانفصال الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية:
علمنا أن المجمع الأول قرر ألوهية المسيح، ولعن وكفر من يقول بغير ذلك، ثم جاء المجمع الثاني وقرر ألوهية روح القدس وأنها جزء من ثلاثة أجزاء -كما يدعون- ثم جاء المجمع الثالث فقرر أن المسيح اجتمع فيه الإنسان والإله (اللاهوت والناسوت كما يقولون) وأنه ليس إنساناً فقط وأن مريم -عليها السلام- ولدت الإله، والإنسان، وجاء المجمع الرابع فقرر أن المسيح له طبيعتان منفصلتان لا طبيعة واحدة، ومشيئتان كذلك، وعلمنا أن الكنيسة المصرية انفصلت عن كنيسة أوربا لقولها بالطبيعة الواحدة، والمشيئة الواحدة، وانفصلت الكنيسة المارونية السورية لقولها بالمشيئة الواحدة، والطبيعتين.
وعلى مدار سبعة مجامع آخرها مجمع نيقية الثاني سنة 787م لم تناقش وتطرح قضية (كيفية وجود روح القدس) الذي قرروا أنه جزء أو أقنوم من الرب المثلث -عندهم- وهل روح القدس هذا كان وجوده مع الأب؟ أم أن وجوده متأخر عن وجود الله؟! وهل وجد روح القدس من الأب وحده، أم من الإبن وحده، أم منهما جميعاً، أم أنه واجب بذاته..؟!
وجاء بطريرك القسطنطينية (فوسيوس) وأثار فكرة روح القدس، وحكم بأن روح القدس إنما انبثق (هكذا) من الأب وحده، فتصدى له بطريرك روما قائلاً: إن روح القدس انبثق من الأب والإبن جميعاً.
وقام كل منهما بعقد مجمع، أو مؤتمر خاص، وقرر كل مجمع العقيدة التي اختارها بطريركهم.
وأعلن كل مجمع منهما لعن، وطرد الآخرين من الدين المسيحي والرحمة الإلهية، وكفر كل مجمع المجمع الآخر، وقام بطريرك روما بعزل بطريرك القسطنطينية، وعقد مجمعاً في القسطنطينية سنة 869م أصدروا فيه القرارات الآتية:
1- أن انبثاق روح القدس إنما كان من الأب والإبن جميعاً.
2- أن كنيسة روما هي الحكم والفيصل في كل خلاف يتعلق بالمسيحية.
3- أن كنيسة روما هي مرجع المسيحية في كل مكان.
4- لعن البطريرك (فوسيوس)، وجميع أتباعه، وحرمانه، وقطعه من الكنيسة.
ولكن (فوسيوس) هذا استطاع أن يعود إلى منصبه مرة ثانية (بطريرك القسطنطينية)، وكان أول أمر فعله هو أن يعقد مجمعاً آخر في القسطنطينية أيضاً سنة 879م، وقد قرر هذا المؤتمر رفض جميع القرارات التي أصدرها المجمع السابق، وقرر أن روح القدس إنما كان انبثاقه من الأب، وحكم كذلك بكفر الآخرين، ولعنهم.
وهكذا انفصلت الكنيسة الشرقية وعاصمتها القسطنطينية عن الكنيسة الغربية وعاصمتها روما.
ومن العرض السابق نستفيد أن النصارى اختلفوا في أصل دينهم على المقالات الآتية:
أولاً: مقالة الحق والدين الصحيح:
وهم الذين اعتقدوا أن المسيح عبدالله ورسوله، وأنه مخلوق مصنوع ولكن الله ملأه حكمة، وعلماً، ورحمة، وجعله مباركاً أينما كان، وهذه هي العقيدة الصحيحة، ومن الذين كانوا على هذه العقيدة تلاميذ المسيح -عليه السلام- بشهادة الله سبحانه وتعالى لهم في القرآن كما قال تعالى: {فلما أحس..}، وأمة عظيمة على الحق كما جاء في الأحاديث النبوية الكثيرة، ومنها حديث: [عرضت على الأمم.. ثم رفع لي سواد عظيم فإذا عيسى وأمته]-الحديث.
ومن الموحدين المشهورين آريوس وكان لأتباعه انتشار عظيم في فلسطين، ومقدونية، والقسطنطينية، وأنطاكية، وبابل، والإسكندرية، وأسيوط بمصر، ويقول ابن البطريق المؤرخ: (فأما أهل مصر والإسكندرية فكان أكثرهم أريسيون) وكذلك غلب الأريسيون على بيت المقدس، وهذه المدن والأقاليم هي مهد النصرانية الأولى.. وكان ذلك قبل انعقاد أول مجمع للنصارى.. فلما عقد المجمع الأول في نيقية سنة 325م، وخرج بالقول بألوهية المسيح، بدأ السلطان الغاشم يستعمل الاضطهاد، والقمع، والمصادرة لعقيدة التوحيد، ويقوم بتعقب أفرادها في كل مكان وقتلهم وتشريدهم، فلم يأت الإسلام إلا وهم ملاحقون مضطهدون مطيرون، ولعل كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل: [أسلم تسلم، وإن لم تسلم فإنما عليك إثم الأريسيين] وهم أتباع آريوس الذين كانوا ما زالوا ملاحقين من قياصرة روما..
ثانياً: مقالات الباطل والشرك والضلال:
وهي
متعددة جداً، وقد اختلفت النصارى على أقوال كثيرة في حقيقة الإله:
1- فمنهم من قال بأن المسيح، وأمه إلهان من دون الله، وهم فرقة البربرانية.
2- ومنهم من قال بأن المسيح كشعلة نار انفصلت من شعلة نار فلم تنقص الأولى، وهي مقالة سابليوس وشيعته.
3- ومنهم من قال بأن المسيح إنسان حلت فيه النعمة الإلهية بالمحبة، والمشيئة وسمي ابن الله لذلك وهذه مقالة (بولس الشمشاطي)، وقوله قريب من قول الموحدين...
4- ومنهم من قال إن المسيح إله كامل، وإنسان كامل، وأنه اجتمع فيه اللاهوت والناسوت بإرادتين، ومشيئتين، وهو ما خرج به مجمع نيقية الأول، وفرضه في الإمبراطورية الرومانية.
5- ومنهم من قال بأن روح القدس إله مع الله والإبن، وكفَّر من قال بغير ذلك.
6- ومنهم من قال بأن روح القدس مخلوق مصنوع، وليس بإله.
7- ومنهم من قال بأن المولود من مريم هو الإنسان، وليس الإله، وأن المسيح متحد مع الله بالمحبة والموهبة فقط، أي ولم يجتمع فيه اللاهوت والناسوت، وهي مقالة نسطور.
8- ومنهم من قال بأن المسيح لما اتحد فيه اللاهوت بالناسوت تحول إلى طبيعة واحدة، وهي مقالة ديسقورس بطريرك الإسكندرية، ومن شايعه، وكفَّر من يقول بالطبيعتين والمشيئتين.
9- ومنهم من قال بأن المسيح اجتمع فيه اللاهوت والناسوت، وأصبحا طبيعتين ومشيئتين، ووجه واحد، وأقنوم واحد، وهذه العقيدة هي التي خرج بها مجمع خليقدونية سنة 451م.
10- ومنهم من قال بأن المسيح له طبيعتان ولكن له مشيئة واحدة، وليس مشيئتان وهي مقالة يوحنا مارون، ومن شايعه.
وأما اختلاف النصارى في الشرائع، والعبادات، فلا يوجد عندهم شيء من دينهم أجمعوا عليه، واتفقوا عليه، في صلاة أو صيام، أو طعام..
العبرة التي نستفيدها من اختلاف النصارى في أصل دينهم:
1- أن الخلاف الذي نشأ في النصرانية كان أساسه حقيقة الإله.
2- أن الذين غلبوا على أمرهم، وقرروا ألوهية المسيح -عليه السلام- كانوا القلة، ولكنهم كانوا مؤيدين من السلطان الغاشم بدءاً بقسطنطين ابن هيلانة وتبعه على ذلك معظم أباطرة الرومان الذين لاحقوا عقيدة التوحيد.
3- أن النصرانية المثلثة المشركة إنما فرضت بالبطش والطغيان.
4- أن الدين الحق الذي جاء به المسيح -عليه السلام- من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وأنه عبدالله ورسوله، وكلمته وروحه، وليس إلهاً مع الله، هذه العقيدة قد كانت عقيدة الأغلبية التي لاقت الاضطهاد، والنفي والتشريد، فانقرضت شيئاً فشيئاً حتى جاء الإسلام ولم يبق من أتباعها إلا القليل.
5- أن الحكام الرومان الذين دخلوا في النصرانية لم يتنصروا، ولكن النصارى هم الذين تروموا، وحولوا النصرانية من عقيدة التوحيد إلى عقيدة وثنية شركية، تؤله البشر وتعبدهم.
6- أن هؤلاء النصارى المشركين بالله لا يستدلون على عقيدتهم بنص صريح من التوراة (التي يزعمون الإيمان بها، وأنها العهد القديم)، ولا من الإنجيل.
فالتوراة لم يأت فيها نص قط، يذكر التثليث، ولا الصلب، ولا الفداء، ولا أن روح القدس إله مع الله، وإنما في التوراة التوحيد فقط..
وكذلك الإنجيل مملوء كما أسلفنا ببيان النصوص القطعية التي تثبت بشرية المسيح، وعبوديته لله رب العالمين.
7- أن أصدق وصف يطلق على النصارى هو (الضالون)، وذلك أنهم قد ضلوا حقاً وكان ضلالهم في أصل دينهم، وهو حقيقة الرب الإله الذي له العبادة والخضوع، والذي خلق السماوات والأرض، وخلق المسيح وأمه، ويملك أن يهلك المسيح وأمه، ومن في الأرض جميعاً كما قال تعالى:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير} (المائدة:17).

الباب الرابع
الأدلة على بطلان وفساد دين النصرانية
عرفنا في الأبواب السابقة أن عيسى -عليه السلام- قد جاء بالدعوة إلى توحيد الله وعبادته، شأنه في ذلك شأن جميع الرسل الذين سبقوه، وأنه جاء مبشراً برسول يأتي من بعده، وهذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى ما دعا إليه عيسى -عليه السلام-، وجميع الرسل الذين سبقوه، وبهذا يتبين أن جميع الرسل كانت دعوتهم واحدة، وأنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وعرفنا أن أصحاب عيسى -عليه السلام- والجمع العظيم من أتباعه كانوا على الدين الصحيح والتوحيد، وأن التبديل جاء بعد ذلك، وقد بدأ شاول اليهودي الذي تسمى ببولس، وادعى أنه رسول من عند المسيح الذي جاءه في النوم وأمره أن يدعو إلى النصرانية فذهب يدعو إلى دين مبتدع جديد مدعياً أن عيسى -عليه السلام- هو ابن الله لذاته، وأنه جزء من الله، وأن جوهره من جوهر أبيه، وأنه إله كامل.. ثم أبطل الشريعة التي عمل بها عيسى وأمر بها، وكان هذا الدين المحرف هو الدين الذي أخذت به القياصرة، وفرضه الرومان، الذين أدخلوا النصارى في وثنيتهم، وعبادتهم للآلهة المتعددة، والتماثيل، ولم يدخل الرومان في دين المسيح والنصرانية الحقة، أعني أنهم لم يتنصروا ولكن النصارى هم الذين تروموا، وذلك لقهر السلطان وملاحقة الموحدين.. ومن ثم اندراس الدين الحق شيئاً فشيئاً، وبقاء الدين الباطل الذي اعتنق هذه العقائد الوثنية فقال بألوهية المسيح، وأنه إله حق من إله حق، وأنه إنسان كامل، وأن روح القدس إله مع الله، فهؤلاء الثلاثة هم الإله -في زعمهم- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأن كل واحد منهم يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعذب ويرحم، ويغفر الذنوب، ويدعى، ويسجد له..
وأن كل من ادعى حسب رؤية فردية رآها أنه رأى المسيح وأنه أرسله للدعوة، كان يبدأ بعد ذلك في دعوة النصارى وابتداع ما يشاء من الدين، وبذلك تعدد الرسل الذين بعثوا أنفسهم رسلاً من قبل المسيح بادعاء رؤيته في النوم.. وذلك منذ أن رفع الله المسيح إليه وإلى اليوم..
وهؤلاء المدعون الكاذبون بأن المسيح اختارهم وأرسلهم إلى الناس غيروا دين المسيح، وأعطوا للناس ما يشتهون من الدين، فأسقطوا عنهم التكاليف، وأباحوا لهم ما حرمه الله عليهم، واجتهدوا فقط في جمع أموالهم وصرفها على ملذاتهم وشهواتهم، ولا يزال النصارى إلى يومنا هذا يكتشفون فساد أخلاق هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم عليهم باسم المسيح -عليه السلام-.
ونحن نعرض هنا في هذا الباب مجموعة من الأدلة القاطعة التي لا تدفع على فساد الدين المحرف المبدّل الذي اخترعه وابتدعه هؤلاء الكذابون الذين زعموا أن المسيح -عليه السلام- جاءهم في النوم، وأمرهم بالدعوة إلى المسيحية، وبذلك نشروا التثليث والشرك وأحلوا المحرمات، وأبطلوا شرائع الأنبياء، ووضعوا أنفسهم في خدمة الشيطان، بل جعلوا من أهم الأعمال النصرانية محاربة الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى والذي هو وعيسى عليهما السلام يدعوان إلى دين واحد شأنهما شأن جميع الرسل السابقين، وأن كلاً منهما من أبناء إبراهيم -عليه السلام-، محمد صلى الله عليه وسلم من أولاد إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام-، وعيسى بن مريم -عليه السلام- من أبناء داود، وداود من فرع يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليه السلام-.
والشاهد أن هؤلاء
الكذابين الذين زعموا أن عيسى -عليه السلام- جاءهم مناماً، أو ظهر لهم في السماء، وأمرهم بالدعوة إلى النصرانية، فانطلقوا يحاربون الله،
ورسالته، فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويعملون لإطفاء نور الله في الأرض، ويجمعون الأموال لإبطال دعوة التوحيد، وصرف الناس عن العبودية له تبارك وتعالى، وقد صرح عدد من مجامعهم النصرانية أن هدفهم هو صرف المسلمين عن الإسلام، وإن لم يدخلوا في أي دين!!، فإن مقصودهم -كما يدعون ويفترون- صرف الناس عن الخير، وتحذيرهم من الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذه المقدمة الضرورية نأتي إلى الأدلة على فساد هذا الدين المحدث المبتدع الذي هو في حقيقته تبديل للدين الصحيح الذي بعث به عيسى -عليه السلام-.
1- النصرانية المحرفة دين مخترع مبتدع لم يعرفه أي نبي أو رسول قبل عيسى عليه السلام ولم يقله عيسى قط:
النصرانية بعد فسادها، ودعوتها إلى الشرك، والتثليث، والصلب، والفداء، والخطيئة.. وكون عيسى -في زعمهم إله- من الله، وأن روح القدس إله مع الله دين مبتدع، ومخترع، فلو كان هذا الدين حقاً هو دين الله الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب لكان هذا معلوماً منذ بداية الإنسان على هذه الأرض، منذ خلق آدم، وإرسال الرسل، فهل كان من كلام الرسل الذين أرسلهم الله -والذين يدعي النصارى الإيمان بهم- أن عيسى إله حق من إله حق، وأنه ابن الله، وأنه موجود مع الأب -حسب زعمهم- منذ الأزل، وأن روح القدس انبثق (هكذا) من الأب، والإبن، أو من الأب وحده -حسب قول
بعضهم منذ الأزل.
أين هذه العقائد في العهد القديم (التوراة والزبور..) الذي زعم النصارى الإيمان به؟! بل أي آية فيها أن الله يرسل ولده إلى أهل الأرض، ويحصل له القتل، والصلب، ..الخ مما افتروه؟!
لقد حدث الأنبياء قبل عيسى –عليه السلام- بما هو أقل من هذه الأحداث المزعومة بكثير.. حدث كل منهم بالأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالمسيح الدجال، والأنبياء الكذابين، خراب أورشليم.. والفتن التي تكون قبل يوم القيامة، فهلا حدثوا بما هو أعظم من هذه الأحداث كلها، نزول ابن الله من السماء ليقتل، ويصلب في الأرض، ويفدي البشرية كلها من خطيئة أبيهم آدم التي دنستهم جميعاً –حسب زعمهم-، ولم يستطيعوا الفكاك منها، ولا إرضاء الرب بالتكفير عنها، فلما عجزوا عن ذلك أنزل الله ابنه ليصلب تكفيراً عن خطايا البشر بسبب ذنب أبيهم آدم، وكان هذا –في زعمهم- حباً من الله للبشر وللناس، أن يفديهم بابنه، فيمكن منه اليهود ليصلبوه ويقتلوه، ويبصقوا في وجهه، ويصفعوه على قفاه، وكل ذلك من محبة الله لعباده.. الخ من هذا الكفر، والتخليط، والإجرام في حق خالق السماوات والأرض سبحانه وتعالى.. أين كل هذا التخليط، والكفر الذي جعلوه قمة الإعتقاد، وغاية الدين، وهدف الحياة؟.. أين كل ذلك في كلام الأنبياء الذين سبقوا المسيح -عليه السلام- والذين يزعم النصارى الإيمان بهم وبرسالاتهم؟!
2- لو كانت النصرانية المحرفة حقاً لكان الأنبياء والرسل جميعاً كفاراً ضلالاً:
لو كان هذا الدين النصراني المزور الزائف حقاً لكان الأنبياء الذين سبقوا المسيح ضلالاً أو كفاراً لأنهم لم يؤمنوا الإيمان الحق، ولم يعبدوا الله العبادة الحقة، ولم يعلموا أن لله ابناً موجوداً قبل خلق السماوات والأرض، وأنه إله مع الله يدعى كما يدعى الله، بل وأن هناك إلهاً ثالثاً يدعى معهما وهو روح القدس، فكيف ضل الأنبياء السابقون جميعاً ولم يدعوا ولم يصلوا، ويسجدوا إلا لإله واحد خالق السماوات والأرض؟ لم يكن معه أحد، ولم يعلموا بتاتاً أن له ابناً ولا صاحبة، ولا انبثق منه أقنوم ثالث يسمى روح القدس، وأن روح القدس هذا إله مع الله؟
والحق أن حقيقة قول النصارى في أن الله ثالث ثلاثة هو قول بالكفر على الأنبياء السابقين بل والمعاصرين للمسيح نفسه كيحيى بن زكريا الذي يسمونه (يوحنا المعمدان) فإن يحيى –عليه السلام- أرسل إلى المسيح من يسأله: (أأنت هو الآتي أم ننتظر غيرك؟!) وقتل يحيى -عليه السلام- وهو لا يعتقد إلا أن عيسى نبي قد بشر به الأنبياء قبل ذلك، ولم يمت على عقيدة النصارى في أن عيسى -عليه السلام- هو ابن الله وأنه كما تقول النصارى إله حق من إله حق.
فهل يقل النصارى أن الأنبياء جميعاً قبل عيسى -عليه السلام- كانوا بحسب عقيدتهم كفاراً أو ضلالاً لم يعرفوا ولم يدعوا إليه؟!
3- كل الذين قالوا بألوهية المسيح يكفر بعضهم بعضاً ولا يتفقون على شيء أبداً ولا يستطيع أحد منهم أن يدلي بحجة قاطعة على عقيدته ولا أن يبطل دين غيره:
جميع الذين قالوا بالتثليث من النصارى وأن الإله المعبود ثلاثة هو الأب والإبن وروح القدس، مختلفون أشد الاختلاف في حقيقة هذه الآلهة الثلاثة على أقوال متعددة وكل قول يناقض الآخر، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، فمن قائل أن الإبن مساو للأب في الجوهر والصفات، ومن قائل إنه دونه، ومشيئة الأب غالبة عليه، ومن قائل أن روح القدس منبثق من الأب وحده، ومن قائل بل انبثق روح القدس من الأب والابن جميعاً، ومن قائل أن المسيح إله فقط، ومن قال إنه إله وإنسان، اجتمع فيه اللاهوت والناسوت بغير اختلاط وبغير امتزاج وبغير فساد، ومن قائل لا بل أصبحا طبيعة واحدة، وعنصراً جديداً، ومن قائل أن للمسيح (الإنسان والإله) مشيئة واحدة، ومن قائل لا بل مشيئتان: مشيئة للإنسان، ومشيئة للإله.. الخ تخليطهم الذي لا ينتهي عند حد. وكل من أصحاب هذه المقالات كما أسلفنا يكفر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ولا يستطيع أحد منهم أن يقيم دليلاً على معتقده فليس بالأناجيل التي بأيدي القوم دليل واحد أصلاً على أي من هذه العقائد المختلفة.
ولا يوجد عقل سليم يؤمن بهذه الخرافات والخزعبلات التي تسوي
بين خالق السماوات والأرض والإنسان المخلوق المصنوع الضعيف الذي كان يأكل ويشرب وينام، ويخاف، ويبكي ويتألم، ويهرب من أعدائه، بل ويمكن منه أعداءه -حسب زعمهم-، ويستسقيهم ليشرب، فيسقوه خلاً، ويسترحمهم فلا يرحمونه إلى آخر هذياناتهم.
فحسبك من فساد عقيدة اختلاف أهلها فيها، وتناقضهم وعدم استطاعة أي قوم منهم أن يقيموا دليلاً على صحة معتقدهم وإبطال ما سواه.
4- لم يقل نبي قط قبل عيسى أن لله ولداً، أو إنه سبحانه يولد له:
العقائد ومسائل الإيمان التي بشر بها الأنبياء جميعاً قبل عيسى -عليه السلام- كلها تدعو إلى توحيد الله، وأن الله إله واحد، وأنه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وليس هناك أي دليل قط في كلام الأنبياء على أن لله ولد، أو أنه يولد له، أو أنه يتخذ زوجة، ولو كان التثليث هذا حقاً لكان ما نشره الأنبياء وبشروا به عقيدة باطلة وكفراً، وهرطقة على حد معتقد النصارى.
5- الأناجيل شاهدة أن عيسى عليه السلام لم يدع إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له:
قد عقدنا باباً كاملاً أتينا فيه بعشرات النصوص من الأناجيل التي يعتمدها النصارى الآن أن عيسى -عليه السلام- كان يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولا يذكر عن نفسه إلا أنه رسول الله، وهذا وحده كاف في إبطال الدين المبتدع الذي اخترعه بولس وأقرته المجامع النصرانية بعد ذلك، فالرد على هذه العقائد الباطلة من الإنجيل نفسه هو أبلغ الرد، والأناجيل الأربعة جميعها مليئة بالنصوص الواضحة الصريحة التي تبين أن عيسى -عليه السلام- لم يكن إلا مجرد رسول اصطفاه الله، وأكرمه، وعلمه، وأيده بالمعجزات، وأرسله داعياً إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وقد أوردنا بحمد الله عشرات من النصوص في الباب الخاص بشهادة الإنجيل على أن عيسى -عليه السلام- عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
6- لم يقل عيسى عليه السلام قط إنه مساو للرب جل وعلا وإن على البشر أن يعبدوه ويسجدوا له:
لا يوجد في الأناجيل نص صريح قط على أن عيسى -عليه السلام- دعا الناس إلى عبادة نفسه، أو قال لهم أنا لكم إله مع الله فاعبدوني أو اعبدوا أمي، أو اعبدوا روح القدس الذي هو إله معي ومع الله، نعم فيها أن عيسى دعا الناس إلى الإيمان به، والإيمان بالرب الإله خالق السماوات والأرض، والإيمان بروح القدس، ومعلوم أن الإيمان بعيسى -عليه السلام- على أنه عبدالله ورسوله وكلمته وروحه حق يجب على كل مؤمن الإيمان به وإلا كان كافراً، وهذا يتناقض بالطبع مع القول أنه إله مع الله يعبد كما يعبد الرب سبحانه وتعالى، أو أن له من الأمر شيء مع الله، أو أنه خالق ورازق مثل الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وكل هذا يدلك على أن النصارى إنما اخترعوا ديناً بأهوائهم، بل نقلوا دين بعض الوثنيين القدامى، وجعلوه ديناً لله كما قال تعالى: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون}، وهذا الدين المخترع ليس في الإنجيل، ولا في أقوال عيسى -عليه السلام- ما يدل عليه، بل إن في الإنجيل ما يضاد ذلك ويبطله.
7- عقيدة التثليث منقولة بحذافيرها من العقائد الوثنية قبل المسيح عليه السلام:
قدمنا أن عقيدة التثليث التي قال بها النصارى لم يأت أي خبر عنها في الرسالات الأولى، بل في رسالات الأنبياء جميعاً، وإنما جاء وصف الإله مثلثاً أو ثالث ثلاثة وبأقانيم ثلاثة عند كثير من الأمم الوثنية قبل وجود المسيح -عليه السلام-.
8- القرآن المنزل على خاتم الرسل أعظم شاهد على بطلان الدين المحرف الوثني للنصرانية:
أعظم شاهد على دين النصرانية المحرف هو القرآن الكريم، الكتاب الخالد المعجز، المنزل من الله سبحانه وتعالى على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، والذي تحدى الله به الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثل سوره، فهو شهادة الله القائمة إلى آخر الدنيا، وكلمته الباقية في عباده، وحجته الدائمة على خلقه، وقوله الفصل في كل خلاف سبق نزوله، أو تأخر عنه، ولا يشكك في هذا القرآن إلا من أعمى الله بصره وبصيرته، وطمس على قلبه، وأصم أذنيه عن سماع الحق، وأعرض، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، وإلا فكل من به أدنى إيمان، ومعرفة، وعقل، ونظر يعلم يقيناً أنه كتاب منزل من الله سبحانه وتعالى، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، وقد نشأ في مكة لم يخالط أحداً من أهل الكتاب، ولم يسمع منهم لم يكن له أن يعلم تاريخ النبوات الأولى، وتفاصيل ما جاءت به الرسل قبله، وأن يكون ما أخبر به هو عين ما عند أهل الكتاب مما يأثرونه وينقلونه..
وكذلك ما كان لرجل أمي أن يأتي بمثل هذا التشريع الكامل، والشريعة المطهرة التي لو اجتمع لها كل أساطين القانون والعدل لما استطاعوا أن يصوغوا مثلها في العدل والقسطاس، بل إن أحكامها معجزة في إرساء العدل والرحمة والإحسان.
وكذلك ما كان لرجل أمي أن يحيط علماً بكل هذه الأسرار العظيمة من أسرار الخلق في السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والنبات والحيوان، والمطر والرياح، ودقائق الجسم الإنساني، والنفس البشرية، وأن يأتي في هذا من العلوم والحكم والأسرار مما لم يعرفه الناس إلى زمانه، ولا يزالوا يجهلونه إلى زماننا، ولا يزال يظهر كل يوم من أسرار هذه العلوم المبثوثة في القرآن ما يقطع يقيناً أنه ليس من تأليف إنسان ولو فرغ حياته للعلم المادي، وأوقف نفسه له.
وكذلك ما كان لرجل أمي أن يكتب في صفة الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والغيب، والعوالم الأخرى خارج هذا العالم المشاهد ما جاء به هذا النبي الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فقد أخبر هذا النبي الكريم بآلاف الغيوب والأحداث المستقبلية ما كأنه يراه رأي العين، ويطلع عليه.. مما يدل أنه تكلم بنور الله، وبعلمه، ولم ينطق في شيء من هذا، وغيره عن هواه، وعن نفسه..
وكل هذا يدل دلالة قاطعة على أن القرآن الكريم هو كتاب الله الحق المنزل على عبده ورسوله محمد سيد ولد آدم وخير الرسل جميعاً وأعظمهم أثراً وهداية في هذه الأرض، وإمام خير أمة، أخرجت للناس إيماناً وصدقاً، ودعوة إلى توحيد الله وعبادته.
الفرقان بين عقيدة القرآن في عيسى عليه السلام وعقيدة النصارى الضالين:
وهذا القرآن الكريم قد أتى بالقول الفصل في شأن عيسى -عليه السلام- وأنه عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لم يكن هو الله، ولا ابن الله نسباً وولادة، وذاتاً - تعالى الله علواً كبيراً.. وأن عيسى -عليه السلام- لم يقتل، ولم يصلب، وإنما قد رفعه الله إليه في السماء منجياً له من مكر اليهود، وتآمرهم لقتله، وأن عيسى -عليه السلام- ينزل في آخر الزمان في دمشق، فيصلي مع أهل الإيمان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمر بقتل الخنازير، وتكسير الصلبان، ولا يقبل من المشركين عبدة الصليب إلا الإسلام أو القتل، فلا يقبل منهم جزية..
وهذه العقيدة الواضحة الكريمة التي جاء بها القرآن، وبينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تناقض ما زعمه النصارى من الرومان، وغيرهم بظنونهم الواهية، وعقولهم المريضة الفارغة في الوثنية، والشرك حيث زعموا أن عيسى هو الله خلق نفسه في رحم مريم، وولد منها صغيراً، ونشأ وترعرع في الناصرة، وهرب إلى مصر، ثم عاد إلى الناصرة، واتهمت أمه بالزنا وسماه أهلها عيسى بن يوسف النجار.. ثم تنبأ، ودعا إلى عبادة نفسه، وأبيه وروح القدس، وأنهم الثلاثة إله واحد، ثم تعقبه اليهود فخاف منهم، واختبأ في بستان، ولما علم بأنهم سيقتلوه، تألم وتضايق، وأصابه الكرب حتى الموت، وظل يناشد أباه أن يصرف عنه كأس الموت فما استجاب له، وبات ليلة الصلب يستعطف تلاميذه ألا يناموا حتى يؤنسوه، ويثبتوه، ويقووا من عزيمته، فما فعلوا!!، ثم خانه أحدهم، وذهب فأتى باليهود، والشرطة ليقبضوا عليه فاستاقوه إلى رئيس الكهنة فحققوا معه، وصفعوه على وجهه، ثم استاقوه صباحاً إلى مكان صلبه، وقتله فألبسوه ثوباً أحمر أرجوانياً، ووضعوا إكليل شوك على رأسه، وألزموه حمل الصليب الذي يقتل عليه، وجعلت جموع اليهود تتبعه مستهزئة وهي تقول له: (يا ملك اليهود أنقذ نفسك) حتى وصل مكان الصلب فصلبوه، وسمروا رجليه في الصليب ورفعوه عليه، ثم استسقاهم وهو على الصليب فما سقوه إلا خلاً، ثم أسلم الروح، وهذه الحال من الذل، والقهر، والعذاب هي الحال التي صوروا بها الإله، خالق السماوات والأرض العزيز المتكبر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وجعل هؤلاء الكذابون المعتوهون المشوهون هذا الفعل صادراً من الإله فداءاً للبشر من خطيئة لم يرتكبوها، وإنما ارتكبها أبوهم آدم وأنهم لما لم يستطيعوا أن يكفروا عنها أنزل الله ابنه ليهينه هذه الإهانة، حتى يكفر لأبيه عما صنع البشر من خطيئة ارتكبها أبوهم.. فمثل هذه العقيدة التي تخالف كل عقل، وحكمة وتدبير، والتي تنسب إلى الله سبحانه وتعالى كل جهل، وسفه، وظلم، والتي تجعل الإنسان مذنباً بذنب أبيه، وبريئاً من الذنب بتوبة خالقه، وتجعل كفارة الذنب الصغير بجريمة من أعظم الجرائم.. فلئن كان البشر قد أجرموا، وأذنبوا بذنب آدم الذي أكل من شجرة في الجنة لم يسمح له بالأكل منها، فلذنب البشر بقتلهم ابن الله، وصلبه، والبصق في وجهه أعظم، وأشد جرماً، فأي شيء يمكن أن يكفر ذنب اليهود الذي فعلوا ما فعلوا في ابن الله الوحيد -كما يزعمون- إن تخليص اليهود من دم المسيح يحتاج إلى أن ينزل الرب بنفسه من السماوات ليشنق نفسه حتى يبرئ اليهود من فعلتهم النكراء بابنه، وذلك قياساً على عقيدة النصارى أن الرب لم يجد من سبيل لتخليص البشر من ذنب آدم إلا أن يرسل ابنه ليقتل على الصليب فداءاً للبشر!!
والعجيب حقاً أن هؤلاء الحمير من النصارى موالون لليهود وينصرونهم ويؤازرونهم، وهم حسب معتقدهم هم الذين قتلوا (ابن الله الوحيد الذي سر
به أبوه كل سرور) - حسب ما افتروه في الإنجيل..
وهذه الموالاة لليهود لا يفعلها جهلتهم وعوامهم بل قد أصدر البابا (المعصوم عندهم) قراره التاريخي بتبرئة اليهود من آثامهم، ومغفرة ذنوبهم علماً أن اليهود لم يقدموا شيئاً يغفر لهم هذه الخطيئة، بل ما زالوا إلى اليوم يفتخرون أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم -رسول الله-.
والخلاصة أن القرآن الكريم الذي نزل بالكلمة الإلهية الأخيرة إلى أهل الأرض، قد قرر الوحدانية لله سبحانه وتعالى خالق السماوات والأرض، وأنه جل وعلا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأنه جل وعلا لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وأنه خالق عيسى وأمه وأنه يملك أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه، ومن في الأرض جميعاً، وأن المسيح -عليه السلام- ليس إلا رسولاً قد خلت من قبله الرسل، وأنه بشر يأكل ويشرب، وشهادة الله سبحانه في القرآن الكريم الذي جاء مصدقاً لما في الإنجيل والتوراة أعظم شهادة.
{قل أي أكبر شهادة، قل الله شهيد بيني وبينكم}.
وشهادة الله قد أثبتها القرآن على هذا النحو: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}.
وفي كل ما شهد الله به في القرآن في شأن عيسى بن مريم -عليه السلام- تكذيب وإبطال لعقيدة النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، والذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.


لا يوجد عقل سليم يؤمن بالنصرانية:

عقيدة التثليث التي اخترعها النصارى وضاهئوا بها قول بعض الوثنيين قبل المسيح -عليه السلام- لا يوجد عقل سليم يؤمن بها، فهي تنافي وتضاد العقل كل المنافاة، ومن هذا التضاد، ومصادمة العقل ما يأتي:
أ- جعل الإله الذي هو محل العزة، والكبرياء، والرفعة، والذي هو أهل للمجد، والتقديس والتنزيه، محلاً للذلة، والمهانة، والعجز والنقص، وهذا غاية الفساد والتناقض.
فالرب المعبود خالق السماوات والأرض القادر على كل شيء، والمحيط علماً بكل صغير وكبير، لا بد وأن يكون منزهاً عن كل عيب ونقص، لأنه لو كان ناقصاً لما استحق أن يكون إلهاً معظماً، مسجوداً له، تخافه الخلائق، وتمتثل أمره، وتهابه وتعظمه وتقدسه.
وهؤلاء النصارى جعلوا إلههم الذي يعبدونه بحال من الذل، والمهانة، والعجز، والفقر بحيث أنه يستدر رحمة الناس عليه، وإحسانهم إليه، وبكاءهم من أجل مصائبه ورزاياه، وإشفاقهم، من أجل آلامه.. وهذا الإله الذي يستحق من البشر كل ذلك يثير رثاءهم له، وعطفهم عليه، ولا يثير فيهم الانكسار إليه وطلب إحسانه، والخوف من عقوبته وامتثال أمره..
فعيسى -عليه السلام- الذي جعله النصارى إلهاً وعبدوه قد صوره النصارى بغاية الذل والهوان والعجز والفقر، فعندهم أن المسيح -عليه السلام- لما حملت به أمه مريم، وكانت في ذلك الوقت مخطوبة ليوسف النجار فأراد أن يتركها، فرأى في النوم رؤيا تمنعه من ذلك، وتأمره أن يأخذها إلى بيت لحم لتلد هناك حيث يقيد اسمه في الإحصاء العام الذي أمر به الرومان، وأن يوسف ومريم نزلا في خان في الطريق، ولما كانا فقيرين فإنهما لم يجد لهما مأوى إلا مكان الدواب، وأن أم عيسى لما ولدته قمطته، ووضعته في مزود البقر.. وأن يوسف عاد بهما إلى الناصرة، ثم فر بهما إلى مصر خوفاً من (هيردوس) الذي كان ينوي قتل عيسى -عليه السلام-، ونزلوا هناك بمكان في مصر يسمى (المطرية) ثم عادوا بعد مدة إلى الناصرة إلى أن بلغ عيسى ثلاثين سنة، عمده (يوحنا المعمدان) في نهر الأردن، وأن عيسى -عليه السلام- صام بعد ذلك أربعين يوماً ثم شرع يدعو ويبشر بقيامة الأموات، فجاءه الشيطان ليجربه وقال له: اسجد لي وأنا أعطيك ممالك الأرض كلها، فقال له عيسى: (اذهب يا شيطان فقد كتب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد) (إنجيل متّى 4/11). وأنه بعد ذلك بدأ خدمته ومواعظه في أنحاء الجليل، وأورشليم، فتآمر اليهود ضده وأرادوا قتله، ورشوا تلميذاً من تلاميذه ليدلهم عليه، ولما علم عيسى ذلك بكى وتألم، وصلى من أجل أن يصرف عنه الرب هذه الكأس (الموت)، ولكن الله لم يستجب لدعائه، فجاءه اليهود وجنود السلطان الروماني فقبضوا عليه وحققوا معه، وصفعوه على وجهه، ثم حكموا عليه بالإعدام صلباً، فألبسوه ثوباً أحمر أرجوانياً ووضعوا تاجاً من الشوك على رأسه استهزاءاً به، وأرغموه على حمل صليبه الذي يصلب عليه على ظهره، واقتادوه مع لصين نكاية به ليصلب وسطهما، ثم أصعدوه على خشبة الصلب، وسمروا رجليه فيها، فاستسقاهم ليسقوه، فرفعوا إليه قطعة من القماش مبللة بالخل ليزيدوا في آلامه، وذله، وقهره، ثم طعنه جندي بحربة فقتله ثم قبروه.. وبقي في الأموات ثلاثة أيام، ثم قام وصعد إلى السماء..
وأقول: فهل الذي يصنع به ذلك ويعيش هذه الحياة الذليلة البائسة، ويلاقي من أصناف الإضطهاد والتنكيل كل ذلك، يستحق أن يكون هو الرب الإله خالق السماوات والأرض العزيز المتكبر المتصرف في الملك، الذي له المجد كله، والأمر كله.. أم أن الذي يصنع به ذلك وتكون هذه حالته منذ الولادة في مكان الدواب وإلى الموت على الصليب ذليلاً محقراً، لا يمكن إلا أن يكون عبداً فقيراً لا يستحق السجود له ولا التقديس ولا الخوف منه إن الإله الذي يمكن أعداءه ليفعلوا به ذلك لا يستحق أن يقول للناس خافوني، واسجدوا لي، ومجدوني، بل ربما يحسن منه أن يقول ارحموني، وارزقوني، وعافوني، واحموني..
والنصارى القائلون بألوهية المسيح لا عقل لهم إذ لصقوا كل هذه الصفات التي لا تليق بالإله الذي أوجبوا له الطاعة، والخضوع، والذي قالوا إنه يملك السماوات والأرض..
ب- يصر النصارى أن إلههم الذي يعبدونه مكون من ثلاثة أقانيم، أو ثلاثة تجسدات، أو ثلاثة شخوص، ولكنه مع ذلك إله واحد وذات واحدة.. وإن جئت نقول لهم كيف أصبح الثلاثة واحداً، والواحد ثلاثة، وفي أي حساب يكون ذلك، وأي عقل يستسيغ ذلك فإما أن يأتوك بسفسطة لا تغني من الحق شيئاً، وأما أن يقولوا: آمن على هذا النحو، فالإيمان ينافي العقل والتفكير، وما لا تستطيع أن تدركه اليوم يمكن أن تدركه يوم القيامة، وأن حقيقة التثليث لا تظهر إلا يوم القيامة.. وحقاً تظهر حقيقة شركهم يوم القيامة كما قال تعالى:
{ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذي آمنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
وكما قال سبحانه : {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم..}.
وسيرى القائلون بألوهية المسيح، وألوهية روح القدس، وألوهية مريم التي يسمونها أم الإله، سيرون أن المسيح يتبرأ منهم يوم القيامة، ويتبرأ منهم جبريل، ولا يكون أمامهم إلا النار.
والخلاصة أن التثليث الذي يدعون أنه هو التوحيد وأن الثلاثة إله واحد قول مناقض للعقل، وهم مختلفون في كيفية كون الثلاثة إلهاً واحداً كما بينا في الفصل الخاص باختلافهم في حقيقة دينهم، والشاهد هنا أن القول بالتثليث وأنه عين التوحيد قول مناقض للعقل، ومبادئ الحساب.
ج- من خصائص الإله الحق أن يكون هو الخالق والرازق والمبدع للكون، والمحيط علماً بكل شيء، ومن أجل ذلك يكون من حقه على العباد أن يعبدوه، لا يشركون به شيئاً لأنه ربهم، وخالقهم، ورازقهم، ومدبر شئونهم، وهم المحتاجون إليه الفقراء إليه، وأما هو فغني عنهم، لا يستطيعون أن يضروه، ولا يستطيعون كذلك أن ينفعوه.. لأنهم إن كانوا يستطيعون نفعه كان هو الفقير إليهم المحتاج لهم، وهم المتفضلون عليه، وإن كانوا يستطيعون ضره كان عاجزاً ضعيفاً لا يستحق العبادة، وهذه هي خصائص الألوهية
وخصائص العبودية، فالعبودية محلها الذل، والاحتياج، والفقر، والربوبية محلها الترفع، والكبرياء، والقهر، والغنى..
وإذا كان الأمر كذلك فإن العبد يكون في مقام العبودية لإلهه، ومولاه فيعبده، ويصلي به، ويسجد له، ويخافه، ويهابه.. والرب يكون في مقام المعبود..
وهؤلاء النصارى الوثنيون المشركون قلبوا الأمور، فجعلوا الرب في محل الذل، والفقر، والخدمة للعبد، فعيسى -عليه السلام- عندهم جاء ليخدمهم وليحمل ذنوبهم، ويكفر بنفسه عن أخطائهم، ويستدر رحمتهم، وعطفهم عليه، وبكاءهم من أجله، ورثاءهم له وجعلوا من شرط النجاة، والخلاص، ودخول الملكوت في الآخرة أن ترحم أنت الإله، وتبكي من أجله، وتأسى لأحزانه، وتتألم لصراخه على الصليب الذي كان كما يقولون يقطع القلوب، وتعترف أن هذا الإله المصلوب جاء ليخدمك ويتوب عنك، ويحمل أوزارك..
وأي عقل سليم لا يستسيغ مطلقاً أن يكون الذليل إلهاً، والذي يبكي على الصليب معبوداً، والذي يتوجع لأنه لا يملك بيتاً يضع رأسه فيه في حين تملك الطيور أعشاشاً والثعالب أوجاراً، مالكاً للسماوات والأرض متصرفاً في الكون؟!!
فهل هذا الإله المصلوب يستحق إلا الرثاء، والبكاء لآلامه وأحزانه، وهذه ليست عبادة، لأن العبادة الحقة تعني الذل، والخضوع، والخوف، والرهبة، والإنابة، والتعظيم، والحب، وعيسى -عليه السلام- كما صوره النصارى لا يستحق إلا الشفقة عليه والرحمة له، ومثل هذا لا يكون قط إلهاً ورباً.
والخلاصة أن دين النصرانية وشركهم وتثليثهم وقولهم بالصلب، والفداء والخطيئة والخلاص.. لم يأت به دليل في النبوات الأولى، وكل ما نقل عن عيسى -عليه السلام- فهو يناقضه، ويخالفه، ولا يستسيغه عقل سليم قط، وهو دين ابتدعه بولس اليهودي، واخترعه الرومان الذين أرادوا الدخول في النصرانية دون أن يفارقوا عقائدهم الوثنية في تعدد الآلهة، وفي أن الإله يجب أن يكون في خدمة البشر، لا أن يكون البشر في خدمة إلههم، ومولاهم!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري