الثلاثاء، 2 يونيو 2009

القوة الخفية في الفطرة النقية


إننا نواجه في تربيتنا لأطفالنا تحدياً كبيراً، وهو أننا لسنا لا نستقل وننفرد بتربيتهم، بل إن المجتمع كله يسهم في تلك العملية التربوية.
التلفاز يربي، والمدرسة تربي، والرفاق يربون، والانترنت يربي، حيث أصبح العالم كله- بعد هذا التطور الهائل لوسائل الإعلام- يشبه القرية الصغيرة، وصارت الثقافات تنتقل إلى كل مكان بسهولة ويسر.
ومن هنا كان هذا التحدي الكبير في تربيتنا لأولادنا: كيف سنحافظ عليهم من تيارات التربية الأخرى الجارفة التي تبثها وسائل الإعلام من جانب، والشارع والمدرسة والنادي من جانب آخر؟!
ولكن الله سبحانه وتعالى قد منَّ علينا بأن أعطانا قوة تعيننا على التربية، هذه القوة خفية لايعرفها إلا من يدرك قيمتها.
هذه القوة الخفية هي والله منحة ومنة من رب البرية.
هذه القوة الخفية هي الفطرة النقية التي فطر الله سبحانه وتعالى عباده عليها، ومهما بعد ومهما تغير ستهتف به هذه القوة الخفية لتعيده مرة أخرى إلى طريق الجادة، وإلى منهاج الصواب.
قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]
وقال r: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) [رواه البخاري، (1385)].
قال الشوكاني (أي كل مولود يولد على الدين الحق، فإذا لزم غيره فذلك لأصل ما يعرض له بعد الولادة من التغييرات من جهة أبويه أو سائر من يربيه). [نيل الأوطار، الشوكاني، (7/248)].
فلا بد أن يتيقن المربون من أن أي تغير في فطرة الصبي مرجعها إلى المربين، لأن الطفل ورقة بيضاء ناصعة البياض.
فطرة
(من الأمور المسلَّم بها لدى علماء التربية والأخلاق، أن الطفل حين يولد يولد على فطرة التوحيد، وعقيدة الإيمان بالله، وعلى أصالة الطهر والبراءة، فإذا تهيأت له التربية المنزلية الواعية، والخلطة الاجتماعية الصالحة، والبيئة التعليمية المؤمنة؛ نشأ الولد لاشك على الإيمان الراسخ، والأخلاق الفاضلة، والتربية الصالحة، وهذه الحقيقة من الفطرة الإيمانية قد قررها القرآن الكريم وأكدها الرسول r، وأثبتها علماء التربية والأخلاق) تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، (1/120).
ويقول الأستاذ سيد قطب: (وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين، وكلاهما من صنع الله، وكلاهما موافق لناموس الوجود، وكلاهما متناسق مع الآخرين في طبيعته واتجاهه، والفطرة ثابتة والدين ثابت، فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة، فطرة البشر وفطرة الوجود) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2767).
الفطرة منحة ربانية:


ومن هنا كانت هذه الفطرة ـ عزيزي المربي ـ منحة من الله تعالى تعينك، وساعد قوي يشد أزرك في تربية ولدك، بل وتكون هذه الفطرة هي النداء الداخلي الدائم الذي يتردد في قلب كل مسلم، يحثه على العودة إلى الجادة ولزوم طريق الصلاح.
ومهما بعد الإنسان عن ربه وعصاه؛ سيظل هذا النداء يتردد دائمًا بين جنباته يصرخ فيه بأعلى صوته ويُجيش له نفسه اللوامة، ويناديه قائلًا: عد إلى الله.
عزيزي المربي، معك إذًا قوة لا تُقهر اسمها "نداء الفطرة"، من ثمار هذه القوة:
· النداء الداخلي داخل أي إنسان لفعل الخير واجتناب الشر.
· النفس اللوامة عند الإنسان فور فعله للشر.
· الشعور الداخلي أنه لابد من موت وبعث ونشور.
· يقظة الضمير


فلم يبقَ عليك جهد بعد هذه القوة التي أيدك الله بها أيها المربي، إلا أن تُقدِّم القدوة، وتُعوِّد طفلك على الصلاح، ليكون لك الدور الكبير في صياغة طفلك وإعداده إعدادًا تربويًّا ناجحًا، إنها الأمانة التي تحملها على عاتقك؛ لتلقى الله بها يوم القيامة فائزًا رابحًا.
النبي rيستغل جانب الفطرة في الصحابة رضوان الله عليهم:


ولقد استغل النبي r قوة نداء الفطرة مع صحابته الكرام، واعتمد عليه في تربيتهم وتنشئتهم على معاني الإسلام الخالدة.
فها هو أقرب مثال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، صدِّيق هذه الأمة، لقد كانت نداءات الفطرة تهب على قلبه منذ نعومة أظفاره، وتهتف به: أن هذه الآلهة لا تنفع ولا تضر، وأن الله إله واحد، وأنه هو وحده المستحق للعبادة.
ولكنه كان يحتاج أن يرى القدوة التي تؤكد هذه الفطرة وتعظمها وتقويها، فكان النبي r له خير قدوة، فكان أبو بكر أول من أسلم من الرجال على الفور،
لماذا؟ إنها الفطرة، استمع إليه وهو يتكلم عن طفولته رضي الله عنه وأرضاه، وكيف أن فطرته كانت تأبى عليه عبادة الأصنام.
قال أبو بكر t في مجمع من أصحاب النبي r: (ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي، فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني، فقلت: إني عارٍ فاكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه) [الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق، الصلابي، (1/31)].
ولقد استغل النبي r هذه الفطرة التي استقرت في قلب أبي بكر ليقدم للإسلام صدِّيق هذه الأمة، وصاحبه ورفيقه في الغار، وخليفته الأول.
فتأمل ـ عزيزي المربي ـ كيف كانت الفطرة سببًا قويًّا في هداية الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وتأمل في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، الذي أبى بفطرته أن يعطي النبي r من اللبن المؤتمن عليه وقال للرسول r: إني غلام مؤتمن.
عن ابن مسعود قال: (كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله r وأبو بكر، فقال: (يا غلام، هل من لبن؟) قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: (فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟) [أي لا تدر لبنًا]، فأتيته بشاة، فمسح ضرعها فنزل لبن، فحلب في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: (أنقلصي) [أي أمسك عن إنزال اللبن] فانقلصت، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، فمسح رأسي وقال: (يرحمك الله، إنك غلام معلم) [رواه ابن حبان في صحيحه، (7061)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن].
وفي رواية قال ابن مسعود: فأتيته، فقلت: علمني من هذا القول الطيب، قال: (إنك غلام معلم)، فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد [رواه أحمد في مسنده، (3666)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية، ص124)].
لقد استغل النبي r أيضًا هذه الفطرة مع عبد الله بن مسعود، ليكون بعد ذلك أفضل من يؤخذ منه القرآن رضي الله عنه وأرضاه، وليكون بعد ذلك من يأتي لرسول الله r برأس أبي جهل فرعون هذه الأمة.
الطفل إذًا ورقة بيضاء، ناصعة البياض، أنت ـ أخي المربي ـ ترسمها بيديك، إما أن تستغل هذه الفطرة وتستثمرها في تربية طفلك كما فعل رسول الله r، وإما العكس بالعكس.
لذلك؛ كان من كلام الإمام الغزالي رحمه الله: (الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، مائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّدَ الخير وعُلِّمَه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأُهمِل إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له) [إحياء علوم الدين، الغزالي، (1/917)].
وما أروع قول من قال:
وينشــأ ناشــئ الفتيــان مــنا عــلى ما كـــان عــوده أبوه
وما دان الفتى بحجىً ولكن يـــعــوده الـــتدين أقربـوه
وإذا غاب دور التربية قد تتأثر الفطرة.


تتأثر الفطرة إذا لم يتوفر لها المناخ الملائم لنموها والاستفادة من قوتها وأثرها في التربية، فقد تمسخ الفطرة والعياذ بالله؛ نتيجة البيئة الفاسدة التي يحيا في كنفها الطفل، ونتيجة إهمال الآباء واندماج الأولاد مع تيارات التربية الأخرى في المجتمع.
وذلك يكون نتيجة غياب دور القدوة في البيت كأحد أهم وسائل التربية، ، فتنقلب الآية عند كثير من الأولاد، ويصبح الصواب خطأ، والخطأ هو الصواب، غير أن الفطرة لم تمت تمامًا، وما ينبغي لها أن تموت، بل تظل تبحث عن قدوة في مكان آخر هنا أو هناك وعن مصدر صادق في التربية، فما إن وجدت هذه القدوة وتوفر لها هذا المصدر؛ عادت مرة أخرى إلى الجادة.
(إن تربية طفل واحد على الإسلام كتربية ألف طفل كتربية جميع الأطفال، تحتاج إلى البيت المسلم، والشارع المسلم، والمدرسة المسلمة، والمجتمع المسلم.
إن هذه العناصر كلها مجتمعة ذات أثر بعيد في تنشئة الأطفال، هي التي تطبعهم بطابعها، فتنشئهم على استقامة أو تنشئهم على انحراف، وحقيقة إن المزاج الشخصي للطفل وموروثاته القريبة والبعيدة من أبويه وأهله، ذات أثر في تكوين شخصيته لا يمكن إغفاله؛ فهو يولد بها قبل أن يتاح للبيت أو الشارع أو المدرسة أو المجتمع أن تلقي عليه تأثراتها وتطبعه بطباعها.
وحين لا تكون هناك تربية، أو حين تكون التربية والتوجيه فاسدين؛ فإن انحرافات العامل الوراثي تتأكد بدلًا من أن تُقوَّم، وتبرز بدلًا من أن تسوى؛ فيخيل للناس حينئذٍ أن الوراثة هي الغالبة، وهي الحاسمة في تكوين الشخصية، وليس الأمر في حقيقته كذلك، إنما يكون كذلك كما قلنا حين تترك الوراثة وشأنها دون توجيه، وكل شيء يترك وشأنه لابد أن يستفحل، وأن يصل إلى غاية مداه، لا لأنه هو في طبيعته بهذه القوة وهذا العنف؛ ولكن لأنه لا يجد عائقًا يعوقه أو يشذ به وهو ماضٍ في طريقه.
شجرة اللبلاب من أضعف الشجر عودًا لأنها شجرة متسلقة، لا تستطيع أن تعتمد على ذاتها، ولابد أن تستند إلى شيء تتسلقه وتنمو من فوقه، ولكن كيف تصبح حين تأخذ مداها من النمو والتسلق والتشابك بمداداتها التي تشتبك عن طريقها بالأشياء؟! إنها تسد عليك الطريق، ولا تستطيع المرور من خلالها إلا بالجهد) [منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، (2/89-91)].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري