هذه النكتة نُقِلَت عن الروائي والأديب الكبير عبد الحميد جودة السحَّار رحمه الله، وتقول: إنَّ رجلاً كان يشتري صحيفة كل يوم، وما يكاد ينظر في الصفحة الأولى حتى يرميها على طول ذِراعه، فسألوه: (بتعمل كده ليه؟)!
فيقول: (كفاية إني قريت الوفيات)!
فيردون عليه: (بس الوفيات مش في الصفحة الأولى)!
فقال لهم: (اللي مستنِي وفاته هييجي خبره في الصفحة الأولى).
نُكْتة مُوحِية تَمْتلِك إسقاطات كثيرة على الواقع، بتعدُّد الطغاة والمستكبرين والعتاة والظالمين الذين ينتظر الناس بفارغ الصبر نهايتهم.
وهي وإن قِيلت في أحد رؤساء مصر السابقين ممن انتظر البعض وفاتهم، فهي مُعبِّرة إلى حدٍّ بعيد عن واقع حال العالم كله مع معمر القذافي، الذي انتظر أهل الأرض جميعًا خبر نهايته في صفحات الصحف الأولى وفي عناوين الأخبار الرئيسية على الفضائيات ومواقع الشبكة العالمية.
مع أول تهديد أطْلَقَه الطاغية العنيد ومع أول طلقة رصاص أطلقتها قُوّاته وكتائبه على شعبه، تَمَنّت الإنسانية نهايته السريعة، وابتهل البشر إلى مالِك السموات والأرض ومدبِّر الكون جلَّ في علاه ليُرِيح البشرية من جنونه وغروره وجبروته وعتوه، وتمنّى الكثيرون موته؛ ففي موت الطاغية المفسد القاتل حياةُ خَلْقٍ كثيرين وإنقاذٌ لأرواح بريئة من أن تزهق ولشعبٍ بأكمله من مآسٍ وويلات وأهوال، ولبلدٍ بكامله من أن يُدمَّر ويُخرَّب ويتمزَّق.
والوحش البشرى بَلِيد الحسِّ ميِّت الضمير لا يَهُمُّه شيء على الإطلاق، ولا يعنيه استشهاد آلاف البشر وقصف الأطفال والنساء وخراب الديار والبلاد، ولا يَهُمُّه الخوف والرعب الذي نشره في ربوع ليبيا، ولا يَهُمُّه اغتصاب الحرائر وانتهاك المحرَّمات ونشر الفساد والدمار والخراب، ما دام مطمئنًا إلى أنَّ الدولة لم تخرج من تحت سيطرته وسيطرة أولاده الذين يَقُودون كتائب الدم والقتل.
اليوم يُسطِّر الليبيون العظام الشوامخ نهاية جُرْذ جُرْذان العرب وإفريقيا، ويَصْنَعُون لليبيا وللإنسانية غدًّا مُشْرقًا جديدًا، يَنْعَمُون فيه بحياةٍ مستقرةٍ آمنةٍ بعد التخلُّص من ذلك الكائن الدموي المجرم الهَمَجِي الميكيافيللي المغامر الجبان المتوحش؟
كنا ننتظر يومًا بعد يوم ونحن نُتابِع لحظة بلحظة أخبار الثوَّار والمقاومين والملاحم التي خاضوها في مواجهة كتائب الطاغية وأبنائه، وكنا نتساءل مع كل أبناء العالم الحرِّ: متى نقرأ ويقرأ العالم كله خبر نهاية القذافي على الصفحات الأولى للصحف، ومتى نسمعه في عناوين الأخبار الرئيسية؟
طمأَنَنا فضيلة الشيخ القرضاوي وطمأن العالم كلَّه في خطبته الشهيرة في بدايات انطلاق الثورة الليبية المباركة التي قال فيها: إنَّ القذافي قد مات بالفعل وانتهى أمره، وما هي إلا مسألة وقت لا أكثر.
ويُقْسِم الشيخ حفظه الله: "أقسم أن القذافي زائِلٌ لا محالة، وأنَّ الشعب الليبي منتصر كما زال مبارك وكما انتصر الشعب المصري، وأقسم أنَّ الشعب الليبي سينال حقه بإذن الله"!
نعم والله يا شيخَنا الجليل، فقد كانت مسألة وقت لا أكثر، وقد مات القذافي بالفعل وانتهى وزال منذ اليوم الأول الذي أظهر فيه عورات فُجْره وعُهْره وكِبْره وعُتُوّه واشتهائه للدماء وهتك الأعراض وإذلال الخلق والتطاول على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولماذا القسم؟
يُجيب شيخنا القرضاوي، وكلماته لا تزال تَرِنُّ في أذني كأنِّي أسمعها الآن وأنا أُتابِع فرحة الليبيين بانتصارهم التاريخي ودخولهم المظفر إلى طرابلس: "أقسم على ذلك رغم أنه في علم الغيب؛ لأني أؤمن بسُنَن الله، سنن الله حاسمة، سنن الله ثابتة، سنن الله لن تتغير، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً".
إنَّها نهاية حَتْمية وفق السنن التي لا يفهمها ولا يَعِيها ولا يستوعبها الطغاة في كل زمان ومكان.
هذه إذن نهاية طاغية ليبيا العتيد، الذي فاق نظراءه جنونًا وبَغْيًا وصَلَفًا وتعاليًا وكِبْرًا وعلوًّا وعتوًّا وإفسادًا في الأرض.
انتهى القذافي اليوم، كما انتهى قبله زين العابدين بن علي، وكما انتهى مبارك.
ولم تكن نهاية معمر القذافي كما ذكر هو وبعض أعوانه الممسوسين المهووسين كنهاية عمر المختار وهي القتل على يد الغزاة الطليان والإنجليز والفرنسيين.
إنّما جاءت النهاية -كما هو المتوقع- كنهاية موسوليني على يد المقاومين الطليان!
لأنَّ مصارع الطغاة وعتاة الإجرام واحدة ومتشابهة، والقذافي ليس فيه أي شبه بعمر المختار البطل الشريف المقاوم والمناضل من أجل حقوق شعبه وتحرُّر أرضه واستقلال بلاده، بل هو نسخة طبق الأصل من خَصْم المختار وعدوِّه اللَّدُود الزعيم الفاشي بنيتو موسوليني.
ما هو وجه الشبه بين المختار والقذافي؟
الأول قاتَلَ وجاهَد وناضَل وضحَّى بأغلى ما يملك من أجل تحرير وطنه وتخليص شعبه، والقذافي قتل شعبه من أجل البقاء في السلطة والحفاظ على كرسي الحكم!
المختار واجه الآلة العسكرية الإيطالية الثقيلة والدبابات والمعدات الحربية المتطورة بأسلحة خفيفة ومعدات متواضعة. والقذافي دكَّ الثوار الليبيين المسلحين بالبنادق والمسدسات والرشاشات بالطائرات والصواريخ والدبابات والمدفعية الثقيلة.
المختار صمد واستمدَّ كبرياءه من إيمانه بحق شعبه في الحرية وحق بلاده في الحياة، يقول رحمه الله واصفًا هذا الإيمان: "هذا الإيمان أقوى من كل سلاح، وحينما يقاتل المرء لكي يغتصب وينهب قد يتوقّف عن القتال إذا امتلأت جُعْبتُه أو أُنْهكَتْ قُوَاه، ولكنه حين يُحارب من أجل وَطَنِه يمضي في حربه إلى النهاية. وإنَّ الظالم يجعل من المظلوم بطلاً، وأمَّا الجريمة فلا بد من أن يَرْتَجِفَ قلب صاحبها مهما حاول التظاهر بالكبرياء".
أمَّا كبرياء القذافي فهو مُسْتَمَدٌّ من غروره وتعاليه وشعوره بالنقص وتكبُّره الفارغ الذي يمكن بحثه في مراجع الطب النفسي؛ فهو يعتبر نفسه (المجد) وشعبه (جرذان)!!
ويُسمِّي نفسه عميد الحكام العرب وإمام المسلمين وملك ملوك إفريقيا، ثم ينظر إلى شعبه باستِخْفاف ويسأل معارضيه الذين (لا يستحقون الحياة) حسب زعمه: من أنتم؟!
لا وَجْهَ للمقارنة هنا بين إمام مجاهد ومناضِل ضحّى بحياته وعمره كله من أجل دينه ووطنه، وبين وحشٍ أهْوَج مغرور أذلَّ شعبه وأهانه ونهب ثرواته وأنفقها على نزواته ونزوات أبنائه الرخيصة، وفي النهاية تسبّب في هذه المأساة العريضة التي تحياها بلاده من أجل أن يَبقى على كرسي الحكم الذي ظلَّ متشبثًا به لما يزيد عن أربعة عقود.
انتهى القذافي، وكانت النهاية لا كنهاية عمر المختار كما روَّج القذافي وأعوانه، إنَّما كنهاية موسوليني؛ لأنه أشبه الناس به وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه.
فقد كان الزعيم الإيطالي تمامًا كالقذافي ديكتاتورًا قاسيًا عتيدًا، وقد سَمَّاه البعض بالوحش الدموي، وكان مولعًا هو الآخر بالظهور بالزي العسكري على اختلاف ألوانه وأشكاله أمام الناس في عظمة وخيلاء.
وكما حلم القذافي بتكوين أيَّةِ إمبراطورية (والسلام)، بشرط أن يكون هو إمبراطورها، فكان حلم موسوليني أيضًا هو إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية القديمة، وأن يكون هو إمبراطورها.
وكما أراد القذافي لليبيا أن تحكم العالم بدُوُله وقاراته وشعوبه، وخاطب الليبيين قائلاً: أنتم حكام آسيا وإفريقيا وأوربا!!
كذلك كان حلم موسوليني المستحيل؛ أن يحكم العالم، بل وأن يغرز رايات إيطاليا على النجوم في الفضاء، كما قال هو مخاطبًا شعبه من فوق شُرْفة منزله برُوما.
القذافي وموسوليني اعتمدَا في حكمهما على الانعزال عن الجماهير وعدم الاكتراث بمعاناتهم، مع تقريب حِفْنة من اللصوص والمنتفعين والفاسدين، وتضليل الناس بالشعارات الفارغة وجهاز إعلامي ودعاية خادعة كاذبة، وقمع المعارضين المخالفين وعدّ أنفاسهم عليهم عن طريق المخابرات والشرطة السرية، وحكم البلاد بتنظيم سياسي أوحد، يتعرض مَن يخالفه أو ينتقده لأشدِّ صنوف العذاب والهوان في سجون أُعِدّت لذلك خِصِّيصَى، مكانها باطن الأرض ومجاهل الصحراء، والعنوان مجهول.
موسوليني من أجل مجده الشخصي وإمبراطوريته المستحيلة شرَّد الملايين من العائلات ويتَّم الملايين من الأطفال ورمّل الملايين من النساء وأضاع الملايين من ثروات الشعوب، وسار على سُنته ونهجه معمر القذافي حذو القذة بالقذة، شبرًا بشبر وذراعًا بذراعٍ.
وكما ارتبط موسوليني بميكيافيللي وعشق كتابه (الأمير)، كذلك فعل القذافي، بل فاقه في هذا الشأن بأن صاغ لنهجه الإجرامي فلسفةً خاصةً به وضعها في كتابه الأخضر.
وكما كان موسوليني متقلبًا لا يثبت على نهج ولا فكر وليست له ثوابت وأصول تُحرِّكه عند اتخاذ قراراته المصيرية؛ فمن معارض للحرب ضد الحلفاء ومعارض لدخول إيطاليا الحرب إلى مؤيد!
ومن كاثوليكي إلى مُلْحِدٍ، ومن اشتراكي لبرجوازي إلى ديكتاتور، مع عدوانية شديدة وقسوةٍ منقطعةِ النظير مع المخالفين.
ولا يشبه موسوليني في تحولاته الكبيرة إلا القذافي سواء في خطه العروبي القومي وبعدها الإفريقي أو في فكره الاشتراكي الذي قضى عليه عمليًّا ببرجوازيته وديكتاتوريته البغيضة، أو في علاقته بالغرب التي انقلبت 180 درجة حتى إنّه قبل الثورة صار ملكيًّا أكثر من الملك، بعد أن كان داعمًا لكل التنظيمات المعارضة في الغرب وفي جميع أنحاء العالم. وتأتي المفارقة الأخيرة فبعد أن كان أقوَى حلفاء الغرب وأكبر داعم لزعمائه في حملاتهم الانتخابية وأكبر صديق لساركوزي وبيرلسكوني وغيرهما، أراد أن يقدِّم نفسه كمقاتلٍ شرسٍ وكمناوئ للاستعمار الغربي، كأنه صلاح الدين يقود جهادًا ضد الحملات الصليبية!
وهو في الواقع يتلوَّن حسب مصلحته، ويتحوّل لتحقيق مصالحه الشخصية ودعم نفوذه وإرضاء نَزَواته الجنونية وإشباع غروره.
لذلك لم يشرف القذافي -كما روَّج لنفسه- بنهاية ٍكنهاية البطل الليبي الإسلامي الكبير الذي صدَق ما عاهد اللهَ عليه عمر المختار رحمه الله.
ولكنه ينتهي الآن أمام العالم أجمع، تمامًا كما انتهى بنيتو موسوليني، تلك النهاية المأساوية التي تَلِيق بالطغاة العتاة المجرمين، والتي لا يأسف لها أحد.
فبعد هذا السلطان العريض وهذه الحياة الحافلة بالجبروت والاستكبار والعلو والفساد في الأرض تدور الأيام ويتخفَّى موسوليني في زى ألماني داخل إحدى الشاحنات، هاربًا من المقاومين الطليان الذين يريدون وضع حدٍّ للمآسي والآلام التي تسبّب فيها ذلك المعتوه لشعبه ولشعوب العالم.
يتخفّى ويحاول الهرب كالجرذ المذعور، لكن الجنود يتعرفون عليه فيلقون القبض عليه بصحبة عشيقته كلارا.
ليحكم عليهما بالإعدام، وينفذ فيهما الحكم رميًا بالرصاص، وبعدها عُلِّقَا من قدميهما، وهي عادة إيطالية قديمة، حيث كانوا يُعلّقون المحتال مقلوبًا من قدميه.
سقط القذافي.. سقط الطاغية والحمد لله رب العالمين، تمامًا كما سقط موسوليني.
وها هم المقاومون والثوار يبحثون عنه في المدن والقرى، وهو يهرب ويتخفَّى كالفأر المذعور.
وسيعثرون عليه قريبًا بإذن الله، مختبئًا في إحدى الحفر، أو مستقلاًّ إحدى الشاحنات مرتديًا زىَّ امرأة، وهو الزي الوحيد الذي لم نره عليه بعد أن ارتَدَى جميع الأشكال والألوان من الأزياء.
سيعثر عليه الثوار، ولن يكون أبدًا في الميدان كعمر المختار، فهذه نهاية لا تليق إلا بالأبطال وبالقادة النبلاء الشرفاء العِظَام.
سقط القذافي والحمد لله رب العالمين.
وقريبًا سنقرأ خبر نهايته الأكيدة، في الصفحة الأولى.. صفحة وَفَيَات الحكام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري