الاثنين، 10 أكتوبر 2011

تختلف آراؤنا وتتآلف قلوبنا

الاختلاف في الفهم أمر ملحوظ، فالله أنزل الكتاب منه آيات محكمات، وأخر متشابهات. والنصوص القرآنية نزلت بمقتضى لغة العرب، وفيها الحقيقة والمجاز، والخاص والعام. والباري خلق الناس على أمزجة شتى، وأفهام مختلفة. ويقرر علماء التشريح أنه ليس في الدنيا نصفا مخ متشابهين، فلا عجب أن يختلف الفهم والإدراك. ثم إن طرائق التربية التي ينشأ عليها الناس تختلف من بيت إلى آخر، ومن بيئة إلى غيرها، فليس مدهشاً إذاً أن نجد هذا يميل إلى الترخص، وذاك يميل إلى الشدة.
وقد عرف تراثنا رُخَص ابن عباس وشدائد ابن عمر. كان ابن عباس لا يزاحم على الحجر الأسود حتى لا يؤذي ولا يؤذى، وكان ابن عمر يزاحم عليه حتى تدمى قدماه، ويقول هوت الأفئدة إليه فأحببت أن يكون فؤادي معهم. وكان ابن عباس يحمل الصبية ويضمهم ويقول إنما هي رياحين نشمها، وكان ابن عمر لا يحب أن يحملهم خشية أن يناله شيء من نجاساتهم.
إذاً هناك أمور تقتضي الاختلاف في الفهم، منها طبيعة النصوص، وطبيعة اللغة، ومستوى الأفهام. ولو كان الاختلاف مذموماً لما اختلف فقهاء الصحابة، ولا تلامذتهم من بعدهم، في فهم النصوص واستنباط الأحكام.
على أن للاختلاف آداب، أذكِّر بها نفسي، ثم من يقرؤها، ثم من تبلغه. فاختلاف الرأي لا يفضي إلى تناسي الحقوق من توقير الكبير وإنزال الناس منازلهم والتلطف مع المبتدئ. فهذا الشافعي يخالف مالكاً، ويؤلف كتاباً يسميه (اختلاف مالك والشافعي)، ومع ذلك يقول: إذا ذُكر العلماء فمالك النجم. وعبد الله بن المبارك اختلف مع اجتهادات أبي حنيفة لكنه حين سمع رجلاً ينتقص من قدر أبي حنيفة قال له:
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
والإمام أحمد بن حنبل أخذ من شيخه الشافعي العلمَ الجم والأدبَ الكثير، ولكنه اختلف معه في اجتهاداته، ومع ذلك يقول: والله ما بتُّ ليلةً ثلاثين سنة إلا وأدعو فيها للشافعي.
ويسأله ولده: لقد سمعتك تكثر الدعاء له، فمن هذا الشافعي؟ فيجيب: كان يا بني كالشمس للدنيا، والعافية للناس، فانظر هل لهذين من خَلَف أو منهما عَوَض. والشافعي يعرف قدر تلميذه ويقول: لقد تركت بغداد وما خلَّفت فيها أورع ولا أعلم ولا أهدى من أحمد بن حنبل. وقال فيه:
قالوا يزورك أحمدُ وتزورُه قلتُ المكارمُ لا تفارقُ منزلَـه
إن زارني فَبِفضلِهِ، أو زرتُه فَلِفضلِهِ، فالفضلُ في الحالين لَه
وتحدث الإمام أحمد مرة عن معروف الكرخي، فعاب أحدهم معروفاً بقلة العلم، فقال الإمام أحمد: ويحك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ كان مع معروف رأس العلم: خشية الله تعالى.
هذا أدبهم في اختلافهم. فهل هي حكايات تحكى، نطرب لسماعها، ونزين مجالسنا بذكرها، أم هي منهاج لنا في اختلافنا؟. لقد فهموا المقصود من النصوص ووصلوا إلى تذوق معانيها فطبقوها. فلنتشبَّه بهم إن لم نكن مثلهم، كيلا نكون ممن يحسن القول ويسيء العمل.
وما أحلى أن نحيي هذه القيم، وأن نعلم أولادنا أدب الحوار والاختلاف، ونعلمهم التحقق من المعلومات، والتثبت من الأخبار، والتزام أخلاقيات النقد، والتجرد عن الهوى، ليستطيعوا أن ينقدوا الخطأ ويصوبوه في إطار هذه الضوابط وهذه الأخلاقيات. ولننشر شعار: (تختلف آراؤنا، وتتآلف قلوبنا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري