لقد قص الله علينا من قصص الأنبياء والرسل عليهم السلام لنأخذ منها العبر والدروس. ويصور هذا القصص رعاية الله الدائمة لرسله، بتوجيههم وتأديبهم. فقد كانوا بشراً وفيهم ضعف البشر، لكن الله لم يدعهم لضعفهم، إنما كان يوجههم، ويبتليهم ليغفر لهم ويكرمهم.
داود عليه السلام كان نبياً ملكاً ذا قوة وسلطان، وكان أواباً، يرجع إلى ربه طائعاً تائباً عابداً ذاكراً مستغفراً. وكان يسوس ملكه بالحكمة والحزم، وهذا غاية الكمال في الحكم. وكان من عادته أنه يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك، والقضاء بين الناس، ويخصص بعضه الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحاً في محرابه. والمحراب غرفة خاصة للعبادة والخلوة.
وقد تعرض عليه السلام للابتلاء، إذ فوجىء مرة بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه (إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قَالُوا لا تَخَفْ، خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ). فزع منهم، إذ ليست هذه هي طريقة دخول البيوت، وليست طريقة الدخول على الحاكم أو القاضي. لكنهما بادراه بالتطمين بأنهما أتياه ليحكم بينهما في قضية. فقال الأول (إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)، فهذا الذي عنده تسع وتسعون نعجة يطلب من الذي عنده نعجة واحدة أن يهبها له، مع التشديد عليه في الطلب!.
الظلم في القضية يبدو صارخاً مثيراً حسبما عرضها الخصم الأول، فاندفع داود يقضي دون أن يوجِّه إلى الخصم الآخر أي سؤال أو يطلب منه أي بيان، أو يسمع له أي حجة: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ. وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ). نطق بالحكم وزاد عليه بأن الذين يخالط بعضهم بعضاً يكثر منهم أن يبغي بعضهم على بعض، مع استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم.
وعند هذه اللحظة اختفى المتخاصمان! فقد كانا ملََكَين جاءا لامتحانه! امتحان النبي الملك الذي تولى أمر الناس، ليقضي بينهم بالعدل والحق، وليستوضح الحق قبل إصدار الحكم. وقد عرضا عليه القضية في صورة ظلم واضح مثير. ولكن على القاضي ألا يستثار، وألا يتعجل، وألا يأخذ بظاهر قول طرف قبل أن يعطي الطرف الآخر فرصة للإدلاء بقوله وعرض حجته. فعندما تكتمل جوانب القضية يمكن للقاضي أن يمضي في حكمه، أما عند سماع أحد الطرفين دون الآخر فالأمر ناقص وقد يكون خادعاً أو كاذباً! ولذا فقد أُثر عن عمر بن عبد العزيز قوله (إذا أتاك الخصم وقد فُقئت عينه فلا تحكم له حتى يأتى خصمه فلعله قد فُقئت عيناه).
عند هذا تنبه داود إلى أن الأمر كان ابتلاء من الله (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ). ومن ينظر في المصحف يجد أنه عند قراءة هذه الآية فمن السنّة السجود ولو كنت في الصلاة. فنحن أيضاً بحاجة إلى أن نستغفر ونتوب ونؤوب.
لقد كانت عين الله ترعاه، وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه، وتوقيه خطر الطريق، وتعلمه كيف يتوقاه (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ، وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ).
ثم يأتي التعقيب من العزيز الحكيم (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ). فالخلافة في الأرض تتطلب الحكم بين الناس بالحق، وعدم اتباع الهوى. لأن اتباع الهوى، وهو في حقه عليه السلام عدم التريث والتثبت والتبين، يؤدي إلى الضلال. ثم توضح الآية حكماً عاماً وهو أن عاقبة الضلال هي التعرض للعذاب الشديد يوم الحساب.
لقد اختار الله سبحانه أن يبتلي أحد أنبيائه في موضوع الحكم بين الناس بالعدل مع تنبيهه مباشرة إلى الخطأ والتحذير من النهاية البعيدة، وأراد سبحانه أن يذكر قصته في القرآن الكريم ليعطينا درساً وعبرة لما يجب أن يكون عليه أتباع الرسل عليهم السلام، فما أحرانا أن نتريث في أحكامنا على الناس، لاسيما وأن وسائل الإعلام اليوم تبث خليطاً من الأنباء الصحيح منها والكاذب، فلنتذكر دوماً قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري