التعامل مع ملف المياه يحتاج إلى تفكير من نوع مغاير، يعيد قراءة المشكلة بأبعادها المختلفة بعيدا عن لغة الانفعال والتهديد التي تحدث بها بعض المسؤولين المصريين.
(1)
ما دعاني للعودة إلى الموضوع مرة ثانية ليس فقط ما يمثله من أهمية حيوية بالنسبة لمصر، ولكن لأنني وقعت خلال الأسبوع الماضي على كم من المعلومات التي تسلط أضواء جديدة على جوانبه المختلفة, ووجدت أن النظر إليها من شأنه أن يسمح لنا بالتعامل مع الملف بصورة أكثر عمقا ومسؤولية، أدرى أننا نتحدث الآن بعدما حققت السياسة المصرية فشلا نسبيا في التوصل إلى اتفاق مع دول المصب، الأمر الذي يعد مقدمة لمواجهة لم تكن في الحسبان، يخشى أن تكون افتتاحا لحروب المياه في القرن الحادي والعشرين.
لقد وجدت مثلا أننا أصبحنا طرفا في مشكلة كبيرة متداولة في المحافل الدولية، التي لم تتوقف عن مناقشة «حق المياه»، وكان آخرها المنتدى العالمي للمياه الذي عقد في إسطنبول في شهر مارس/آذار من العام الماضي (2009)، ذلك أن في العالم 260 حوضا للمياه تتقاسمها دولتان وأكثر. ويعيش حولها 40٪ من سكان العالم، كما أن هناك مئات من الأحواض الجوفية المشتركة. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك أن 14 دولة تتقاسم نهر الدانوب الأوروبي، و11 دولة تشترك في كل من نهري النيل والنيجر، و9 دول تشترك في الأمازون، وثلاث دول في نهري دجلة والفرات، ومثلها لنهر الأردن. وفي أغلب الأحوال فإن أنصبة تلك الدول من المياه يتم التفاهم حولها بصورة ودية وسلمية، إلا أن الأمر لا يخلو من خلافات تنشأ إما عن التوزيع غير العادل أو الخلافات السياسية. وهو الحاصل بين تركيا والعراق، وإسرائيل والمناطق المحتلة. وبين مصر والسودان من ناحية ودول منابع النيل من ناحية ثانية.
في الوقت ذاته، ثمة 145 معاهدة عالمية حول موضوع المياه، لم تحلّ الخلافات التي تثور بين أطرافها أو تحسمها تماما، ومع ذلك لم يحدث أن كانت المياه وحدها سببا مباشرا للحرب فيما بين الدول، كما يقول رئيس المجلس العالمي للمياه لويك فوشون. وفي حالة وقوع نزاعات مسلحة بين الدول المعنية فعادة ما تكون هناك عوامل أخرى تحرك تلك النزاعات، في مقدمتها طبيعة العلاقات السياسية وغياب التعاون بين تلك الدول، إضافة إلى المرارات والرواسب التاريخية، ولا ينسى في هذا الصدد أن موازين القوة بين الأطراف المختلفة تلعب دورها في توزيع حصص المياه، والحالة الأشهر في ذلك تتمثل في إسرائيل التي تحبس المياه وتنتفع بها على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض، وكانت النتيجة أن متوسط استهلاك الفلسطيني في الأرض المحتلة أصبح في حدود 75 لترا يوميا، في مقابل 300 لتر للإسرائيلي، علما بأن المتوسط العالمي الأدنى مائة لتر. بحسب منظمة الصحة العالمية.
(2)
لأن اللاعبين كثر فالحاصل في القارة الأفريقية أكثر تعقيدا مما نتصوره. هذه نقطة مركزية في دراسة تلقيتها من المدير السابق لمعهد الدراسات الأفريقية الدكتور السيد فليفل، اعتبر فيها الموقف المصري إزاء أفريقيا «مفتقدا الرؤية الإستراتيجية المتماسكة». وهو يرصد التحركات المناوئة التي يتعين الانتباه إليها، سجل الملاحظات التالية:
* تتبنى الولايات المتحدة مشروعات إستراتيجية مؤثرة على المصالح المصرية، أخطرها مشروع القرن الأفريقي الكبير. الذي يستهدف تدمير الدرع اليمنى لحوض النيل، وتمزيق السودان بغرض النفاذ منه إلى قلب القارة وأقاليمها المائية للهيمنة على أهم موارد القارة الطبيعية الكفيلة بتوليد طاقة مائية هائلة، وهذا المشروع يشكل قيدا على الحركة المصرية في مجاليْها الحيويين، العالم العربي والقارة الأفريقية.
* طرحت الولايات المتحدة كذلك فكرة بعث مشروع استعماري بريطاني قديم هو اتحاد شرق أفريقيا (كينيا وأوغندا وتنزانيا). وفي التصور الأميركي فإن ذلك الاتحاد يمكن أن يضم دولة مقترحة في جنوب السودان، وقد عقد عدة دورات في السنوات الثلاث الماضية على مستوى القمة. ومن شأن إقامته أن يتم شق تجمع «كوميسا» وإضعاف دور مصر فيه، وبصفة خاصة إذا انضمت إليه إثيوبيا، وفي حال انفصال جنوب السودان فإن ذلك الاتحاد، سيكون بمثابة شرخ محتمل في العلاقات العربية الأفريقية، لا يعلم إلا الله تداعياته ومآلاته.وما لم تقم مصر باختراق كبير، فإن علاقة مصر والسودان مع الاتحاد الجديد ستشهد توترات عدة. وفي ظل احتمال انضمام إثيوبيا إليه، وإزاء غياب الدولة الصومالية، فإن أزمة مياه النيل والعلاقة مع دول الحوض ستصبح أزمة أفريقية/أفريقية وأفريقية/عربية في ذات الوقت.
* تبنت الولايات المتحدة كذلك مشروع خليج غينيا، وهو يرمي إلى حصد البترول المكتشف مؤخرا في دول غربي أفريقيا ووسطها، وتستهدف الولايات المتحدة من خلاله أن توفر في عام 2015 نحو ربع احتياجاتها من النفط من هذه المنطقة، خاصة نيجيريا وتشاد والسنغال وأنغولا، وهي لم تكتف بذلك، بل استخدمت تلك الدول ركيزة للتدخل في جوارها، وبعض تطورات أزمة دارفور تمكن قراءتها في إطار هذا المشروع.
* نتيجة لهذه المشروعات الأميركية صار السودان عرضة للاختطاف والتناوش والنهش من الشرق (في إطار مشروع الشرق الأوسط)، ومن الغرب (في إطار مشروع خليج غينيا)، ومن الجنوب (في إطار مشروع اتحاد شرق أفريقيا)، بل وصار عرضة للتقسيم الكامل في إطار مشروع القرن الأفريقي الكبير، وهو ما يهدد مصالح مصر الثابتة في مياه النيل بمخاطر شتى.
* إذا أضفنا لذلك كله ذلكم المشروع الوليد للقيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا (أفريكوم) لأدركنا أن هذه المشاريع الأميركية ليست برامج تنموية طوباوية تحدث في فراغ إستراتيجي، بل يظاهرها تجييش للجيوش وحشد للقوى، وربما نشهد يوما تكون فيه جيوش الدول الأفريقية التي لا تتوقف زيارات المسؤولين الأميركيين لها (السنغال ونيجيريا وغانا في غربي القارة، وجنوب أفريقيا في جنوبيها، وكينيا وأوغندا وإثيوبيا في شرقيها) تدخل في إطار المشروعات الأميركية، على نحو ما حدث من تدخل إثيوبيا في الصومال، وقيادة أوغندا للقوات الأفريقية هناك، الأمر الذي يعني أننا بصدد برامج خطيرة تهدد أمن مصر القومي، لا تمس مصالحها فحسب، ولكنها تتجاهل أنها موجودة أصلا.
(3)
في الوقت الراهن، ومن الناحية العملية، لا مفر من الاعتراف بأن موقف مصر ضعيف، لا لأنها لا تملك أوراقا، ولكن لأنها لم تستخدم أوراقها وتجاهلتها طويلا، ولكي تدافع مصر عن حقوقها فمطلوب منها بذل جهد مضاعف، لسبب جوهري هو أن الساحة الأفريقية أصبحت تكتظ باللاعبين الوافدين إليها من كل صوب، فإلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، ثمة حضور مشهود للصين وفرنسا وألمانيا واليابان والهند وإيران، وصولا إلى ماليزيا.وفي حدود علمي فإن تركيا بدورها أصبحت تتطلع للنفاذ إلى الأسواق الأفريقية، حتى إنها قامت بتعيين أحد أهم رجال الأعمال سفيرا لها في نيروبي، ولابد أن يلفت نظرنا في هذا السياق أن المنظمات الأهلية التركية أصبحت تمارس نشاطا ثقافيا واسعا في مختلف دول القارة، بحيث لم تعد هناك دولة أفريقية إلا وأقيمت فيها مدرسة تركية على الأقل.لقد تلقيت رسالة بخصوص إمكانيات الدور المصري من المدير السابق للجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب الدكتور جمال عبد السلام طرح فيها سؤالين هما: لماذا لا تستحدث مصر وزارة لشؤون أفريقيا، كما سبق أن خصص الرئيس عبد الناصر وزارة للسد العالي (عين لها المهندس صدقي سليمان وزيرا)؟.السؤال الثاني هو: لماذا لا تستعين الجهود الحكومية في ترميم ومد الجسور مع الدول الأفريقية بالمنظمات الأهلية ذات الخبرة العريضة في مختلف مجالات الخدمات، وفي مقدمة تلك المنظمات جمعية الهلال الأحمر ولجان الإغاثة بالجمعية الشرعية ونقابة الأطباء المصرية واتحاد الأطباء العرب.
يذكرنا الدكتور جمال عبد السلام بأن العالم العربي ومصر خاصة أقرب إلى أفريقيا من كل تلك البلدان التي تقاطرت عليها، وأن مدرسة واحدة أقامتها الكويت في جوبا، جعلت شعب جنوب السودان يخرج في مظاهرات صاخبة احتجاجا على غزو العراق للكويت، في حين أن الموقف في الشمال كان ملتبسا، كما أن إقامة مدرسة جمال عبد الناصر في مقديشو، والبعثة الأزهرية التي تم إيفادها إلى الصومال (كانت الأكبر في القارة الأفريقية) أحدثتا تغييرات جوهرية في أجواء البلاد، لمسها الوفد الإغاثي الذي أرسلته الجامعة العربية إلى هناك في بداية التسعينيات.
من ناحية أخرى فإن الأنشطة التي قامت بها القوافل الإغاثة العلاجية ولجان مكافحة العمى في بعض الدول الأفريقية كانت لها أصداؤها الإيجابية القوية، حين زارت جيبوتي والصومال وتشاد والنيجر.
(4)
حتى تأخذ المصارحة مداها، يتعين علينا في النهاية أن نسجل عدة أمور أحسبها ضرورية لانتقال مصر من موقف المتفرج إلى اللاعب في ساحة حوض النيل، هذه الأمور هي:
1- إن الفشل النسبي للمفاوضات مع دول الحوض وثيق الصلة بتراجع الدور المصري وغياب إستراتيجية واضحة للتعامل مع العالم الخارجي، فالعلاقة مع دول حوض النيل مثلا، لا تنفصل عن العلاقة مع دول منطقة القرن الأفريقي، بل مع محيط دول الاتحاد الأفريقي.
2- إن مصر لم تتصرف حتى الآن باعتبارها جزءا من أفريقيا، وأعطت انطباعا بأنها ضيف عليها ومضطر إليها، وذلك وضع يحتاج إلى تصحيح بحيث تنضم الهوية الأفريقية إلى مفردات الهوية الأخرى للإقليم، المصرية والعربية والإسلامية والمتوسطية.. إلخ. ورغم أن بعض المسؤولين المصريين دأبوا على الحديث عن تضحيات مصر من أجل أفريقيا (في أزمنة سابقة) فإن الأفارقة لم يجدوا ما يبرهن على ذلك في زماننا. ولك أن تقدر مشاعرهم مثلا عندما يجدون أن مصر أعادت الحياة إلى شبكة كهرباء لبنان مرة واثنتين إثر العدوان الإسرائيلي، في حين لا يجدون أثرا يذكر لدورها التنموي في بلادهم.
3- حين نتحدث عن دور العوامل أو الدسائس الخارجية التي باعدت بين مصر وبين دول الحوض، ينبغي ألا يمنعنا ذلك من تفهم مشاعر الأفارقة إزاء مصر. ذلك أن منهم من يلمس استعلاء مصريا غير مبرر في التعامل معهم.. ومنهم من لا يستطيع أن يتحلل من مشاعر الاستياء والحساسية حين يجدون أن مياه النهر تمر على بلدانهم التي تعانى التخلف والفقر والمرض، لتصل إلى حياضنا لنزرع بها ونروي. ومن حقهم في هذه الحالة أن يطالبوا بمردود يمتص مشاعرهم تلك ويرطب من جوانحهمولا شك أن الإسهام المصري في تنمية تلك المجتمعات وتوفير ما يمكن توفيره من خدمات طبيعية وتعليمية لهم لا يبدد تلك المشاعر فحسب ولكنه أيضا يوفر لمصر نفوذا ناعما يرجح من كفتها في مثل المواقف الخلافية التي نحن بصددها.
4- ثمة انطباع مغلوط يشيع بين بعض النخب في الدول الأفريقية خصوصا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفد يدعي أن التنسيق قائم بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل في المشرق العربي والقرن الأفريقي، ولا أعرف علاقة هذه الشائعة بفكرة معسكر «الاعتدال» الذي يروج له في العالم العربي وتتصدره الدول الثلاث، لكن الذي لا أشك فيه أن هذه السمعة أفقدت الدور المصري «الغائب» رصيده الوطني والمستقبل في القارة.
ولأن التحدي كبير، فالجهد المطلوب أيضا كبير، وهو ما يتطلب قرارا سياسيا على أعلى مستوى، يستصحب عزيمة صادقة ونفسا طويلا. وتلك مشكلات عويصة لا أعرف هل سنحلها في الأجل المنظور أم لا.- ا.فهمي
- تعليق
كفاية تعالي
هل تستطيع مصر فعلاً المساهمة في تنمية تلك المجتمعات ، الكاتب الكبير يعتقدد أن لمصر ما تستطيع تقديمه، مالا يدركه الاستاذ هو أن دول القارة بدأت تتعافى و سبقت مصر في مجالات عدة، بل و بدأت العمالة المصرية تتجه جنوباً، هناك مثلاً حوالي 250000 مصري يعملون في الخرطوم، ولرقم مرشحٌ للإزدياد الحل يكمن في إصلاح النظام السياسي المصري و العمل على نظام شراكة و خلق مجالات للتعاون لصالح الجميع. أما التعالي و العمل على حماية مصلحة مصر فقط فلن يفيد مصر.
الأربعاء، 28 أبريل 2010
اللاعبون والمتفرجون في حوض النيل
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري