الخميس، 12 مايو 2011

التعصب

من حق المرء منا أن يؤمن بما يشاء، ومن حق العقائد والمبادئ على أصحابها أن يتصدوا للدفاع عنها، ونشرها، وتعريف الآخر بها..

ولطالما ردد النبي -صلى الله عليه وسلم- قولته الشهيرة: "خلّوا بيني وبين الناس"، متألما من حالة الحرب الدائمة عليه، وعلى مبادئه ورسالته، والتشويه المتعمّد لما يقوله، وما كان رفعه للسيف -عليه الصلاة والسلام- إلا بعدما انقطعت السبل عن أي طريق آخر.

العنف ليس مبدأ عاما في الدعوة الإسلامية، وتجييش الجيوش هدفه الأساسي أن يضعك من القوة بمكان يسمح لك بحماية ذاتك ضد أي معتدٍ أو جائر، لكنه وفي المقابل، فإنك مهما امتلكت من القوة والعتاد، إن لم تُحسن استخدامها أصبحت مجرد طاغية آخر، مهما كان جنسك أو لونك أو عِرقك أو دينك.

إن الدعوات الربانية تقوم على القول الحسن، والكلام الجميل، والحجة الدامغة، وفوق هذا مخزون من العطف والرحمة وحب الخير للناس؛ ذلك لأنها ليست نوعا من الانتصار للنفس والهوى، وإنما الداعي إلى الله هو في الأصل حامل لمصباح، ووظيفته أن ينير الدرب، ويهدي الحائر.. وليس أكثر من ذلك!

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث صحيح: "عُرِضَتْ عَلَيّ الأمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلانِ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْط، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ"، أي أنه سيأتي يوم القيامة أنبياء أفنوا أعمارهم في دعوة الناس، وهدايتهم، ومحاججتهم، وفي الأخير سيُعرضون على الله عز وجل ورصيدهم "صفر"!، فلم يؤمن بهم أو يصدقهم أحد!

وليس هذا تقصيرا منهم -حاشاهم- فالله لا يختار لرسالته سوى الأقوياء الأمناء، بل قاموا بدورهم في صياغة الحجة والبرهان، ثم تركوا الأمر لمن بيده الأمر، يُقلّب القلوب كيف شاء، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وكل امرئ يدفع ثمن اختياره، ويُحاسب -وحده- على ما قرّر واختار.

لقد كان رد ربنا -جل اسمه- قاطعا وهو يؤكد أن حنوّ القلب هو المعيار في إكساب هذه الدعوة أتباعا جددا، مؤكدا لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن خفض الجناح هو الذي دفع الناس للالتفاف حوله والاستماع إليه والإيمان به، فيقول -جل وعلا- في سورة آل عمران: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

إن أسوأ مصيبة للحق أن يتصدى للدفاع عنه بلهاء، أعماهم التعصب، فيسيئون وهم يظنون أنهم يُحسنون صنعا، فيكرههم الناس، ويكرهون معهم ما يدعون إليه!

إن التنظير لم يعد كافيا لإبراز قيمة ما، وإنما جعْل هذه القيمة سلوكا حياتيا هو الذي يدفع الناس لاحترامها والتعامل معها بجدية، ولعل عبقرية أمّنا عائشة -رضوان الله عليها- تجلّت في وصفها للنبي بأنه كان "قرآنا يمشي بين الناس"، فأكدت لأصحاب النبي ولنا من بعدهم أن الرجل الذي آمنّا برسالته وصدّقناه كان سلوكه مُطابقا لما يدعو إليه، ولعل هذا من أسرار نجاح هذه الدعوة، وعزّها، وتفوّقها، وبأننا لم نتراجع وتسؤْ أوضاعنا إلا بعدما انفصلنا عن المنهج، وظننا أن التعصب الأعمى، والصوت العالي، والشدة في التعاطي مع مخالفينا هو المعيار على الانتماء والتدين.

إن القارئ للتاريخ الإسلامي لن يرى أناسا أكثر تشددا في إقامة الشعائر والعبادات من "الخوارج"، لدرجة أن النبي عليه الصلاة والسلام أكد لأصحابه أنهم سيحتقرون صلاتهم أمام صلاة هؤلاء القوم، لكنهم ورغم ذلك كانوا على الضلال، فلم تشفع لهم صلاتهم، ولا صيامهم، ولا حتى نواياهم الحسنة، فالنوايا الحسنة الطيبة إن لم يخالطها وعي وذكاء وحُسن تصرف ربما ذهبت بأصحابها إلى الجحيم.

ومما يُروى عن الخوارج أن الشيخ الجليل واصل بن عطاء كان في الصحراء مع بعض أصحابه، وكان زادهم قد شارف على الانتهاء، وفجأة أحسوا بالخوارج مقبلين عليهم، فارتبك الناس، فسيوف الخوارج ستحصدهم حصدا إذا ما تبين لهم أنهم مخالفون لهم أو أنهم يرون صحّة إمامة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال واصل لأصحابه: لا يتحدث أحد منكم، دعوني أحدثهم أنا، وخرج إليهم واصل، فقالوا له: ما أنت وأصحابك؟ فقال: مشركون مستجيرون؛ ليسمعوا كلام الله، ليعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلّمونا، فجعلوا يعلمونه أحكامهم!

وعندما انتهوا من إسماعهم كلام الله، قالوا لواصل، امض أنت وأصحابك فأنتم إخواننا، وقبل أن تتهلل أسارير أصحاب واصل بن عطاء لانطلاء الخدعة على القوم، فاجأهم واصل بقوله للخوارج: لا والله، لقد خالفتم أمر ربكم، ألم تسمعوا قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، فأبلِغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: لكم ذلك، فساروا جميعا حتى بلغوا المأمن.

إن التعصب الذي يدفع المرء إلى تصنيف الناس بناء على رؤيته هو، ووضع استراتيجيات خاصة به في التعامل معهم، سيأكل كثيرا من رصيدنا، سيُضعفنا، سيجعلنا دائما مضطربين، قلقين، خائفين.

التعصب للفكرة، أو للمبدأ، أو للحزب، أو للجماعة، أو حتى للدين ليس بالأمر الرشيد..

ولن يساعدنا أبدا في الانتصار لما نؤمن به، بل سينفّر منا هذا وذاك..

الحل في التسامح، في قبول الآخر، في ترك الناس ونواياهم لله سبحانه وتعالى.

بعدم ممارسة دور القاضي والجلاد..

في التعاون حول ما نتفق بشأنه، وإعذار مخالفينا فيما اختلفنا فيه..

في أن ندعو الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه.. وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

قولوا معي.. آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري