وقد شهد العقد الأخير تزايدًا لعدد المسلمين من حاملي الشهادات الجامعية، ويرجع ذلك لتمكن عدد من أبناء الوافدين المسلمين من دخول الجامعات، وقدوم عدد آخر لمواصلة تعليمهم في الجامعات والمعاهد العليا الهولندية. وقد بلغت نسبة الملتحقين الذين تتراوح أعمارهم بين(19) و(22) سنة بالجامعات والمعاهد العليا 11% من طلبة الثانويات للسنة الدراسية م2002-2003م. كما لم تخلُ الجامعات الهولندية من الطلبة الوافدين المسلمين القادمين إليها على الرغم من محدوديّة اللغة الهولندية ونطاقها الضيق. فعدد منهم يأتي في شكل بعثات، وآخرون يحملون طموحًا وأملاً لاكتشاف ومعرفة مدرسة الاستشراق الهولندي، كما أن هناك مَن اضطرتهم الظروف السياسية والإنسانية لدولهم الإسلامية للهجرة ليجدوا من مؤسسة دعم اللاجئين الطريق للوصول إلى أهدافهم العلمية. وقد بلغ عدد الذين دُعموا لإتمام دراستهم (2444) طالبًا للسنة الدراسية 2002-2003م. ويمثل العراقيون والإيرانيون والأفغان حوالي 60% من هؤلاء الطلبة الذين استقطبتهم المعاهد العليا والجامعات الهولندية.
وقد اشتهرت هولندا على مدار التاريخ الحديث، بأنها أول بلد يعرف معنى الحرية الفكرية والتسامح الديني بالإضافة إلى إنجلترا. وبالتالي فهي منارة حضارية منذ ثلاثة قرون. ففي القرن السابع عشر مثلاً عندما كانت فرنسا لا تزال أصولية كاثوليكية متعصبة ، كانت هولندا تعترف بحرية جميع المذاهب والأديان وحقها في ممارسة طقوسها وشعائرها. هولندا سجلت في دستورها الأول عام 1579م(أي منذ أكثر من أربعمائة سنة) أن حرية الضمير مضمونة فيما يخص الشؤون الدينية والعقديّة. في ذلك الوقت كانت فرنسا تشن حرب إبادة على أتباع المذهب البروتستانتي على الرغم من أنهم نصارى ويؤمنون بالإنجيل والمسيح مثل الأغلبية الكاثوليكية. لكن كانت لهم تفسيراتهم العقديّة المختلفة عن مذهب الأغلبية، ولهم طقوس مختلفة أيضًا في بعض الجوانب. لذلك تم تكفيرهم واعتبارهم مجرد هراطقة. وقام لويس الرابع عشر بأكبر محاولة لاستئصالهم من المملكة الفرنسية التي ينبغي أن تظل طاهرة مذهبيًّا ولا تشوبها شائبة.
إحراق المساجد والمدارس الإسلامية
وأثار فيلم (فان جوخ) الأخير 'الخضوع' (Submission) موجة من الغضب بين مسلمي هولندا، نظرًا لأنه عمد إلى التشويه المتعمد لحياة المسلمين من خلال تجسيده شخصية امرأة مسلمة تتعرض للاغتصاب على يد عمها! ثم يجبرها أهلها على الارتباط برجل آخر يقوم بضربها بقسوة بعد الزواج!
وقد تلقى (فان جوخ) تهديدات بالقتل بعد عرض فيلم 'الخضوع' في وقت سابق هذا العام ، واستعان (فان جوخ) الذي كان مسلمًا وارتدّ عن الإسلام في إخراج الفيلم بسياسية هولندية تدعى (أيان هيرسي علي) وهي لاجئة صومالية حصلت على الجنسية الهولندية بعد فرارها من أهلها بالصومال قبل اثنتي عشرة سنة.
وتخضع "أيان" التي تسمي نفسها 'مسلمة سابقة'! لحراسة الشرطة بعد أن تلقت تهديدات بالقتل بعد عرض الفيلم على شاشة التلفزيون الهولندي.
وذكرت بعض وسائل الإعلام الهولندية أن (فان جوخ) تعرض لتهديدات بالقتل إن لم ينته عن تشويه صورة المسلمين في كتاباته وأفلامه.
وتعرضت عدة مساجد ومراكز اجتماعية تابعة للجالية الإسلامية في هولندا لاعتداء من قبل بعض المتطرفين بعد مقتل المخرج السينمائي الهولندي (فان جوخ) المعادي للمسلمين على يد شخص قيل: إنه من أصول مغربية.
وقد تعرضت مساجد في مدن روتردام وبريدا وهويزن لأضرار, وحاول مجهولون إشعال حرائق في بعضها.
وقالت مصادر أمنية: 'إنها اعتقلت شخصًا يبلغ من العمر 24 عامًا لمحاولته إحراق مسجد في روتردام, وقيامه بوضع صور خنازير في محراب المسجد, فيما اعتقلت ثلاثة مشتبه فيهم كانوا يستعدون لإشعال النار في مسجد النصر في هويزن بغرب البلاد.
وفي بريدا بجنوب البلاد أشعل مجهولون النار في أحد المساجد لكن المسلمين الذي يسكنون على مقربة منه أخمدوا الحريق قبل أن تصل الشرطة.
وتزامنًا مع هذه الهجمة, اعتدى مجهولون في مدينة 'أتريخت' على مراكز وجمعيات مغربية وإسلامية وعربية أخرى مستخدمين مواد الطلاء في تشويه هذه المساجد والمراكز.
وكانت قد وجهت لشاب هولندي من أصل مغربي اتهامات بقتل المخرج (فان جوغ) وبالانتماء لجماعة 'ذات نوايا إرهابية', وهو ما دعا الحكومة الهولندية إلى الإعلان عن عزمها شن حملة واسعة على من تسميهم 'المتطرفين الإسلاميين'.
خوف من موجة العداء للإسلام
تقوضت سمعة هولندا كأرض للتسامح خلال الأسبوعين الماضيين منذ مقتل المخرج المثير للجدل (تيو فان جوخ) واعتقال مسلم للاشتباه في ارتكابه الجريمة، فمنذ وقع ذلك الحادث في يوم الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني وقع هناك (20) حادث حريق لمساجد وكنائس في أعمال انتقامية متبادلة.
وقد ربط رئيس بلدية المدينة (ألكسندر ساكرز) بين هذا الاعتداء واغتيال المخرج الهولندي المنتقد لتعاليم الإسلام (ثيو فان غوخ) في أمستردام بأيدي شاب هولندي من أصل مغربي.
وفي وقت سابق هددت جماعة التوحيد الإسلامية في بيان بثته على الإنترنت بشن هجمات في هولندا ردًا على سلسلة من الاعتداءات على مبان إسلامية هناك, وطالبت بوقف الاعتداءات على المساجد والمدارس الإسلامية، مشددة على أن أبناء الجالية المسلمة في هولندا يطالبون باعتذار رسمي.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن أغلبية الشعب الهولندي غير مرتاحة أو أنها تشعر بالخطر من الأجانب فيما ترتفع شعبية اليمين المحافظ من ورثة السياسي المعادي للهجرة (بيم فورتيون).
وما يفكر فيه جميع المسلمين في هولندا هو شعورهم بالذعر بسبب ردود الأفعال على مقتل المخرج السينمائي.
ويقول البعض إن العنصرية في تصاعد منذ صعود حزب (فورتيون) في انتخابات 2002م بعدما قتله أحد الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الحيوانات.
ولم يقل أحد أبدًا أنه مع قتل المخرج (فان جوخ) إلا أن كثيرين يعتقدون أن فيلمه القصير "خضوع" بشأن العنف ضد المرأة في المجتمع الإسلامي زاد من المشاعر المناهضة للمسلمين رغم أن قليلين فقط في هولندا هم الذين شاهدوه.
تحديات للمسلمين في هولندا
وأظهر استطلاع للرأي في هولندا ان 40 % من الهولنديين يرغبون في ألا يشعر (900) ألف مسلم يقيمون في هولندا من أصل (16) مليون نسمة عدد سكان البلاد، "في أنهم في بلادهم بعد الآن" إثر اغتيال المخرج (تيو فان غوغ) بنيران هولندي يحمل الجنسية المغربية أيضًا.
ورغم الإدانات القاطعة للاغتيال الصادرة عن المسلمين في هولندا تكاثرت ردود الفعل السلبية ضد المسلمين في هذا البلد.ويرى 80% من الهولنديين أن إجراءات أكثر صرامة يجب أن تتخذ في إطار دمج المهاجرين؛ إذ يعتبر البعض أن عملية الاغتيال على يد مسلم هو الدليل على فشل سياسة الدمج المتعددة الثقافات في هولندا.
ورغم الصورة التي يعكسونها في العالم "يواجه الهولنديون صعوبات أكثر من غيرهم لقبول الناس الذين يندمجون بشكل جيد في المجتمع لكن لديهم لون مختلف أو من ديانة أخرى" على ما يقول الأستاذ (هان اينتزينير) الخبير في شؤون الهجرة والاستيعاب في جامعة ايراسموس في روتردام. ويضيف "نحن في الحقيقة مجتمع مغلق جدًا".
ويوضّح أن الهولنديين عاشوا لفترة طويلة "الواحد إلى جانب الآخر لكن ليس معًا" باسم المعاملة المتساوية التي يجب أن يحظى بها البروتستانت والكاثوليك. لكنه يعتبر أن "من المبالغ به القول: إن الدمج الاجتماعي قد فشل .. لا يمكن الاستنتاج بالاستناد إلى عمل ناجم عن متطرف واحد يبدو أنه مختل- أن عشرين عامًا من سياسة الدمج قد فشلت. هذا لا يتفق مع الوقائع".
وأظهر تقرير برلماني العام 2003 أعد بعد مئات اللقاءات وأشهر طويلة من الأبحاث أن دمج المهاجرين في هولندا "ناجح نسبيًا".
ويعتبر ماينديرت فينيما خبير الشؤون السياسية في جامعة امستردام أن كوْن "محمد بويري" القاتل المفترض ولد وترعرع في امستردام رغم أنه يحمل الجنسية المغربية أيضًا، يجعل هذه المسألة تندرج في إطار الجدل حول الدمج في المجتمع.
وأظهر تقرير لأجهزة الاستخبارات الهولندية أن عدة عشرات من الهولنديين الشباب المسلمين الذين يعتبرون أنهم لم يندمجوا بشكل جيد، حساسون تجاه خطاب الإسلاميين الأصوليين.
ويقول (فينيما): إن "هذه الظاهرة تطال هولندا بسبب الطريقة التي أدرنا فيها النقاش حول دمج المهاجرين أكثر منها عملية الدمج بحد ذاتها" وينتقد خصوصًا المواقف السابقة للبلاد التي "منعت أي إمكانية لانتقاد سياسة الدمج" وذلك بسبب الهوس بارتكاب أي تجاوزات غير أخلاقية.
لكن ما أن كُسِرت المحرمات مع ظهور الزعيم اليميني المتطرف (بيم فورتاين) قبل سنتين وعبارته الشهيرة "طفح الكيل".
ويضيف (فينيما) "الجميع مدعو الآن إلى التفوه بألفاظ نابية ضد المسلمين (كما كان يفعل تيو فان غوخ) وإذا قلنا: إنه يمكن التحدث باحترام أكبر نوصف بأننا من أتباع السياسة القديمة ويتم انتقادنا".
وتمنى جميع هؤلاء الخبراء نقاشًا محترمًا ورفضوا وضع حدود في النقاش حول الهجرة وشددوا على ضرورة تبادل وجهات النظر لا سيما حول موقع الإسلام في الغرب خلال القرن الحادي والعشرين.
ويرحب هؤلاء برد فعل المسلمين لكنهم يدعونهم إلى المشاركة بشكل أكبر في النقاش وخصوصًا وأن عدة شخصيات سياسية بينهم النائبة من أصل صومالي "أيان هيرسي علي"، تلقت تهديدات بالقتل بعد انتقادها الشديد للإسلام الراديكالي.