كلّما رفعنا الأكفّ مبتهلين متذلّلين لله , خصصنا تلك البطانة بأكثر مما نخصّ به أنفسنا من الدعاء .
كلما صدر قرارٌ أو دار حوارٌ حول شأن من شؤون أوطاننا تذكّرنا تلك البطانة .
كلما ناقشنا الفساد والظلم والسرقات , أو الفقر والقمع والانتهاكات جاء ذكر تلك البطانة الفاسدة كمحور رئيسي لكل قضية ومُتهم أول وراء كل جريمة .
البعض يؤمن بعظم خطر تلك البطانة الفاسدة , ويُبالغ بتحميلها المسؤولية المطلقة عن كل بلاء , فهُم "شلّة" الحُواة والسحرة , والانتهازيون المتسلّقون الذين يجتمعون حول الحاكم يتزلفون ويداهنون حتى يُلقى في روعه أنه الحاكم العادل المحبوب الذي بسط الخير والإنسانية في أرجاء البلاد حتى هتف شعبه حبا وتمجيدا له , فخادعوه وضلّلوه بقلب الحقائق رأساً على عقب , وتحت سلطانه نشروا القمع ووأدوا الحق وأساءوا للخلق لأجل تحصيل منافعهم الدنيئة وبما يخدم مصالحهم الشخصية , وإن تعطلت أو تضررت بذلك مصالح الراعي والرعية .
والبعض الآخر يرى أن مُصطلح البطانة الفاسدة مجرد شمّاعة نُعلق عليها كامل مصائبنا من استبداد الحاكم وإجرامه إلى عجز العامة و ذلّهم وقابليتهم للامتهان ومصادرة الحقوق .
أو هو بالونٌ هوائيٌ استمرأنا أن ننفخ فيه أنفاسنا المقهورة حتى تضخّم وتمدّد بمجرّد هواءٍ ساخن " ولاشيء غير الهواء " .
وأنه في الواقع لا وجود لبطانة فاسدة ! إنما نظام حُكمٍ فاسد ، وحاكم فاسد يُقرّب إليه الفاسدين ويستوزر الأشرار والظالمين ليتشارك وإياهم نهب الثروات وخنق ذلك المواطن الضعيف .
وهكذا فإن الخائف الجبان الذي لايملك شجاعة تسمية الأمور بأسمائها ونقد الحاكم نقدا صريحا جريئا فإنه يجد مخرجا بأن يوجّه غضبته وشتائمه لتلك البطانة الفاسدة التي خيّبت آمال الراعي الأمين الصالح وخانت ثقته وسامت رعيّته سوء العذاب دون علمه !!!
ويطرح أولئك الرافضين لفكرة تغويل البطانة الفاسدة أسئلة منطقية ومنها :
أليس الحاكم هو ذاته من يصطفي ويختار المفسدين والخونة وأصحاب السوابق في اللصوصية للمناصب والقيادة ثم يمنحهم السُلطة والصلاحيات ؟!! هل يُتوقع من أمثال هؤلاء نُصحا أو إحسانا أو إصلاحا ؟!! لماذا لا يختار أهل الفضل والورع والأمانة من الثقات الأكفاء لمراكز صُنع القرار والتأثير ؟!! كيف يمكن الجمع بين كونه حاكما لدولة فيها ملايين المواطنين واعتباره حكيما فطِنا وأهلا للقيادة ثم نعفيه من وزر مايعانيه ويضيق به الناس , ونتّهمه بعدم الدراية بأحوال الرعيّة وأن المحيطين به من بطانة السوء غيّبوه عن أبناء شعبه ؟!!.
وبعيدا عن الطرفين ممن يبرّأ ولي الأمر ويوجه الاتهام لبطانته , أو من يراه مذنبا وحيدا ويتهاون في تأثير المتنفّذين المتحكمين في بلاطه .
فإن القرآن قد أشار لأهمية تلك البطانة وواجب الراعي حيالها , قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } . والآية وإن كانت نزلت في المنافقين والكفار وغيرهم ، لكنها تحذّر عامةً من بطانة السوء وأهل العداء لدين الله .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى ) .
وفي تاريخ الأمم عِبر وعظات لمن ألقى السمع وهو شهيد , ففي قصص القرآن نتأمل قصة فرعون موسى ووزيره هامان الذي زيّن له كُفره .
وكذلك شواهد التاريخ في عصور الإسلام المختلفة ومنها مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد البطانة الفاسدة , ونهاية الخلافة العباسية على يد ابن العلقمي , ثم قريبا غير بعيد انهيار دولة الخلافة الإسلامية العثمانية بفعل قلّة من اليهود والنصارى والمنافقين الأتراك الذين تسنّموا المناصب العليا ومواقع القرار حتى فكّكوا الدولة وأضعفوها .
إن البطانة الغاشّة أخطر على الحاكم منها على المحكومين , فهي تحرّضه لبيع دينه بدنياه وتؤدي به إلى التفريط بأمانته التي تولاها في عنقه , بل قد تعجّل بزوال ملكه حين تتأزم أوضاع البلد ويُشحن الناس ضد سياساته مما قد يدفعهم للانفجار عاجلا أو آجلا ,
فيما يمكن للمُصلحين إن قُرّبوا أن يعينوا ولاة الأمر على الخير , ويدفعوا عن الديار وأهلها كثيرا من الشر , وأن ينصحوا ويقوّموا ويبيّنوا حال الزلل .
اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرا رشدا , يُعزّ فيه أولياؤك , ويُذلّ فيه أعداؤك , ويُؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر , وترفع فيه راية التوحيد . اللهم آمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري