الاثنين، 25 يناير 2010

الصين معجزة في زمن الأزمة

  • لم تعرف الصين شتاء قارسا كشتاء هذا الموسم، فكل شيء في درجة التجمد إلا الاقتصاد فهو في درجة الغليان.
    وإذا كانت برودة الشتاء جعلت الصين تعيش مفارقة لم تعرفها منذ ستة عقود، فإن اقتصادها المحلق جعلها تعيش مفارقة لم يعرفها أي من الاقتصادات العالمية المعتبرة في زمن الأزمة الاقتصادية العاتية.
    سيتذكر العالم 2009 بوصفه بداية رحلة الخروج لبعض الاقتصادات من أسوأ ركود عالمي في ثمانية عقود، لكنه قد يتذكره لأمر أهم: الصين تتوج ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعدما تخطت اليابان التي طالما عرفت بأنها معجزة القرن العشرين الاقتصادية.
    فاجأت الصين العالم كما فاجأت نفسها عندما نما اقتصادها بنسبة 8.7% عام 2009 لتبلغ قيمة إجمالي ناتجها القومي 4.9 تريليونات دولار، وفي مقابل هذه الصورة ستنكمش اقتصادات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وبريطانيا (بنسب 2.8% و4.2% و6.2% و4.1% على التوالي) وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي.
    وبينما ستسير عجلة النمو الصيني في خط بياني صعودي، يظل شبح الانكماش ماثلا أمام الاقتصاد الأميركي هذا العام، كما عبر عن ذلك اثنان من أبرز علماء الاقتصاد الأميركيين هما جوزيف ستغلتز وبول كروغمان الحائزان جائزتي نوبل في الاقتصاد.

    قاطرة العالم وإذا كان الاقتصاد الصيني قد ظفر بلقب أسرع اقتصاد في العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، فقد ظفر في العامين الأخيرين بلقب آخر هو: قاطرة الاقتصاد العالمي، الذي أصبح الكساد يشده إلى الأسفل والتنين الأصفر يشده إلى أعلى، وبالمقارنة مع مجمل النمو العالمي، يكون نصيب الصين -التي يحلو للبعض تسميتها بمصنع العالم- من هذا النمو نحو 22%.
    وكما أطاحت الصين باليابان من عليائها، أطاحت هذا العام بألمانيا من موقعها كأكبر مصدّر في العالم.
    الأرقام الرسمية تظهر أن قيمة صادراتها عام 2009 بلغت 1.2 تريليون دولار. وبتفكيك هذا الرقم، تكون قيمة صادرات الصين اليومية 3.3 مليارات دولار. أما قيمة تجارتها الخارجية (قيمة الصادرات والواردات معا) فقد بلغت 2.21 تريليون دولار رغم تراجعها عن عام 2008.
    وقبل اليابان وألمانيا، تغلبت الصين على الولايات المتحدة أيضا هذا العام عندما أصبحت أكبر سوق للسيارات في العالم، وهو موقع تربعت فيه الولايات المتحدة منذ أن اخترعت السيارة كما نعرفها اليوم.
    فخلال عام 2009 استقبلت طرقات الصين 13.6 مليون سيارة جديدة، بينما بيعت في السوق الأميركية 10 ملايين سيارة جديدة فقط.
    وحتى عام 2002، كانت الصين تقبع خلف كندا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة على مؤشر أكبر اقتصادات العالم. اليوم وبعد ثماني سنوات فقط، يتخطى العملاق الآسيوي كل هؤلاء ولم يبق أمامه في مضمار السباق إلا أميركا التي تجد معظم مواطن قوتها في مرمى قوة صاعدة تصدق نبوءة القائلين بأن القرن 21 سيكون قرنا آسيويا.

    ثورة دينغ تسياو بنغ هذه الأرقام التي توالت منذ بداية العام، تظهر أن الآلة الاقتصادية لهذا البلد لا تزال تصنع المعجزات رغم كساد عالمي خيف أن تختنق بحباله بعدما التفت حول عنقها وأعناق الاقتصادات الأخرى.
    الأزمة التي أفلست دولا بأكملها استحالت فرصة تاريخية أمام التنين الأصفر كي يرسخ أقدامه على خارطة القوى الكونية الجديدة.
    كيف حققت الصين كل هذه النجاحات وكيف خططت لها؟ كيف بدأت ومتى انطلقت؟
    في عام 1979، دشن الزعيم الصيني دينغ تسياو بنغ "برنامج الانفتاح والإصلاح" جاعلا من الاقتصاد واسطة عقده، كان ثورة تنموية شاملة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وخطة نهضوية لإصلاح التعليم ومحاربة الفقر والبطالة.
    في السبعينيات، كان الاقتصاد الصيني لا يمثل سوى 1% من حجم الاقتصاد العالمي، ونسبة إسهامه في إجمالي نموه 1.8%، أما اليوم فيمثل 6.5% من الاقتصاد العالمي (مجلة تايم)، ويمده بنحو الربع من إجمالي نموه السنوي.
    في ذكرى مرور 30 عاما على سياسة الانفتاح، احتفل الصينيون بتلك المناسبة، فاكتشف العالم أن قيمة صادرت الصين في اليوم الواحد من عام 2008، تعادل قيمة صادراتها طيلة عام 1978 الذي انطلقت في أواخره موجة الإصلاح.
    انطلقت مسيرة الإصلاح، واقتصاد الصين في المرتبة العاشرة، ونصيب الفرد منه لا يتجاوز 190 دولارا سنويا، ولا يوفر عملا لنحو 35% من سكان الأرياف. أما اليوم فنصيب الفرد منه أكثر من 6000 دولار سنويا (تايم)، ومعدل البطالة الإجمالية لا يصل 5%، فيما الفقر لا يتجاوز 8%
    (IndexMundi)، بعدما كان 65% عام 1981 (البنك الدولي).

    نبوءة فوغل
    وبينما تمكنت تلك المسيرة الجبارة من انتشال نحو 700 مليون صيني (CFR) من وهدة الفقر (نصف السكان تقريبا)، تتجه البلاد لتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى فيها لتحقق معجزة أخرى في ضوء تقديرات بأن يبلغ تعداد هذه الطبقة 700 مليون خلال العقد المقبل، وهو ما سيكون بمثابة وقود نووي يغذي نمو اقتصاد التنين الأصفر.
  • في رحلة الصعود هذه، كانت الاقتصادات الأوروبية ضحية القفزات الصينية التي تخطفتها واحدا بعد الآخر. وفيما بقي من الرحلة، يظل النزال محصورا مع الولايات المتحدة، التي تتجه نحو المصير ذاته حسب نبوءة المؤرخ الأميركي المعروف والفائز بجائزة نوبل روبرت فوغل التي نشرتها مجلة فورين بوليسي الأميركية في عدد يناير/كانون الثاني- فبراير/شباط الأخير.
    قد لا يتخيل الغرب على ضفتي الأطلسي صينا تحوز مركز الثقل الاقتصادي في القرن المقبل، لكن علماء الصين المشتغلين بالتاريخ وغيرهم (مثل كريس باتن آخر حاكم إنجليزي لهونغ كونغ) لا يرون في الأمر استثناء، وهم يؤكدون أن 18 قرنا من القرون العشرين الأخيرة كانت قرونا صينية، وما صعود الصين ثانية إلا عودة للأمور إلى نصابها.
    فوغل يرسم مشهدا لنزال أكثر إثارة تكون الغلبة فيه للصين بفارق شاسع، فلا يعود لمعجزات الصين الأولى مكان في ذاكرة التاريخ، عندما يصحو العالم في عام 2040 على الصين وقد بلغ اقتصادها 40% من اقتصاد العالم، مقارنة مع 14% للولايات المتحدة و5% للاتحاد الأوروبي، أما قيمة دخلها القومي السنوي فذاك رقم يحتاج إلى توسيع حيز الذاكرة: 123 تريليون دولار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري