"الإنصاف عزيز"!
هكذا قالها أحد طلاب العلم الشرعي، وذلك من كثرة ما يرى من عسف الناس الذين يحتكمون إليه لفض النزاعات بينهم.
وعزيز هنا بمعنى نادر.
فمن معاني (عزَّ) كما جاء في المعجم الوسيط: عزَّ الشيء قلَّ فلا يكاد يوجد. وفيه أيضاً: عسف فلانٌ فلاناً واعتسفه وتعسّفه أي ظلمه.
ومما حفظناه منذ الصغر قول القائل: لو أنصف الناس لاستراح القاضي.
نعم لأن المنصف يعطي الآخرين حقوقهم فلا يلجِئهم للقضاء.
فالصدّيق رضي الله عنه أسند القضاء إلى عمر رضي الله عنه.
فلبث سنة لا يأتيه أحد، فرجع إلى الخليفة وطلب إعفاءه من وظيفة ليس فيها عمل.
قال أحد الفلاحين لحكيم القرية: لقد نطح ثورُنا ثورَكم فقتله، فهل علينا من ديّة؟
قال: نعم، فقد كان عليكم أن تمنعوه!
قال الفلاح: عفواً سيدي!
ثورُكم هو الذي نطح ثورَنا فقتله، فكم الديّة عليكم؟ فقال: أنا أقضي بين الناس ولا أقضي بين الحيوانات!
فحكيم القرية منصف مادام الحق له، أما عندما يكون الحق مع خصمه فما أسهل التملص من القضية! وفي التنزيل العزيز ذمّ من يفعل هذا:
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ. وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
قال عَمَّار بْن يَاسِر رضي الله عنه: (ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَان: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسك، وَبَذْل السَّلام لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاق مِنْ الإِقْتَار).
فكيف أنصف الناس من نفسي؟ لعل الجواب المختصر هو فيما قاله ابن حزم (من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه). ولو أخذ الناس كلهم بهذا القول لعمَّ الائتلاف والخير، وتوارى الاختلاف والشر. فهذا من أفضل طرق الإنصاف والتماس الأعذار للناس.
لكنه يتطلب تدريباً نفسياً شاقاً، وتربية إيمانية عالية لقبول الحق، والتراجع عن الخطأ.
وقد عُنِي الإسلامُ بعلاجِ النفسِ الإنسانية من الهوى، وتطهيرها من الميْل والجَوْر، وتربيتها على الكمال والفضيلة والإنصاف.
وفي القرآن الكريم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ، إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا، وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
وهذا نداء للذين آمنوا للقيام بالقسط على إطلاقه، في كل حال وفي كل مجال. القسط الذي يمنع البغي والظلم، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه، مسلماً كان أو غير مسلم، ففي الحقوق يتساوى الناس، الأقارب والأباعد، الأصدقاء والأعداء، الأغنياء والفقراء. فليقوموا بهذا حسبةً لله، وتعاملا مباشرا معه، لا لمصلحة أحد من المشهود لهم أو عليهم. ولكن شهادة لله، وتجرداً من كل ميل، أو هوى، أو مصلحة، أو غير ذلك.
فمن الهوى الميل للذات أو الوالدين أو الأقربين، ومن الهوى أيضاً العطف على الفقير في موطن الشهادة والحكم، أو مجاملة الغني أو مضارته.
ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل، ليستشعر ماذا وراء الميل من تهديد خطير، يرتجف له كيانه!
والإنصاف لا يعني فقط أن نعطي الآخرين ما لهم من حقوق مادية، بل أن نعرف أيضاً ما لديهم من حسناتٍ ومَيْزات فنعترف بها، وأن نعرف ما يواجههم من عوائقَ ومشكلاتٍ، وما يُحيط بهم من ظروفٍ فنلتمس لهم الأعذار.
وعدم الإنصاف له أسباب عديدة.
أولها الطمع، وهو حب الإنسان للاستحواذ على كل شيء، فيدفعه ذلك إلى الأساليب الملتوية للحصول على ما يريد، ويتجاوز فيعتدي على حقوق الآخرين، ولا يقر لهم بها.
ثم هناك الحسد، وأنّى للحسود أن ينصف الناس وهو الذي يتمنى زوال النعمة عنهم لتحلّ عليه؟
وهذا يدفعه إلى إنكار حسنات الآخرين وإخفاء محاسنهم، والإكثار من ذمهم وقدحهم، ولن يستطيع أن يجد في غيره سوى المثالب.
وفي الحديث: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه).
والقذى جمع القذاة، وهي ما يقع في العين من تراب وغيره.
ولا علاج للحسد إلا أن يتذكر الحسود أنه يعترض على الخالق جل وعلا في تقديره للأمور وتوزيعه للنعم، وأن يعلم ما جاء في الحديث (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
وأخيراً فإن الإنصاف ليس أمراً سهلاً على النفس، لأنه خلاف هواها. لكن صعوبته لا تعني استحالة الوصول إليه، فالنفس بحاجة للتدريب لتعويدها عليه حتى تستسهله ويصبح سجية من سجاياها.
ezayk ya 3my w 3amel aih w aih a5bar se7tek tramna 3alik
ردحذفالسلام عليكم
ردحذفالحمد لله يا صادق تمام
طمني عليكم
تحياتي