الاثنين، 24 أغسطس 2009

لك الله يا غزة !!




  • قد جاءنا -والحمد لله- هذا الشهر الكريم العظيم الذي تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُصفَّد فيه الشياطين، ويعتق ربُّنا رقابنا من النار، فأسأل الله أن يجعله شهرًا مباركًا على الأمة الإسلامية جميعًا، يوحِّد فيه شملها، ويجمع فيه شتاتها، ويرفع فيه راياتها، ويُعلي فيه قدرها، وينصرها فيه على عدوها.. إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
    ويتوقع الكثيرون أننا في بداية هذا الشهر الكريم سنتحدث مع القراء في كيفية المحافظة على القيام والصيام وقراءة القرآن.. وهذه الأمور هي -والله- من أجلِّ الأعمال، وأعظم القربات، لكننا كما ذكرت في مقالي السابق
    "رمضان الأخير" لا يجب أن ننعزل عن أحداث الأمة الجسام مهما كانت ظروفنا وأحوالنا، فليس هناك معنى للانقطاع عن متابعة هموم الأمة في شهر رمضان؛ فالتاريخ لا يتوقف، وأعداء الأمة لا يتوقفون عن الكيد والتدبير، والمجاهدون لايتوقفون عن جهادهم وحركتهم. ومن هنا فإنني وجدتُ أن الحديث عن موضوع غزة الأخير، وهو الصدام بين حماس وجماعة جند الله، لهو من الموضوعات المهمَّة التي لا ينبغي أن تفوت دون التعليق عليها، وشرح أبعادها، ليس لذات الحدث فقط، فإنه قد يكون حدثًا عابرًا، ولكن في الأساس لأنه يوضِّح لنا الفرق بين المناهج الفكرية المختلفة التي تنتشر في أمتنا، ومنها الصالح ومنها الطالح، وطالما قلت: إن أكبر الكوارث وأعظمها أن يختلَّ الفكر، وتضيع الرؤية، فعندها قد يُقاتِل المسلم من أجل أمرٍ هو في الحقيقة معصية، وقد يضحِّي بنفسه من أجل عمل لا ينبغي أصلاً أن يعمله.. وصدق الله إذ يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
    غزة الصامدة الأبية
    وأجدني من قلبي ومن كل جوارحي أقول: لكِ الله يا غزة.. تلك المدينة المسلمة الصامدة الأبِيَّة..
    وكأنه لم يكن كافيًا أن يحدث الصدام المروِّع مع اليهود بكل طغيانهم وجبروتهم، ولم يكن كافيًا أن تُجابه حماس قوى العالم التي وصمتها بالإرهاب، ولم يكن كافيًا أن تتزعم أمريكا والأوربيون حملة مقاطعة الصامدين في غزة، ولم يكن كافيًا أن تتخلى الدول العربية المجاورة وغير المجاورة عن نصرة المسلمين المحصورين في غزة، ولم يكن كافيًا الطعن من الظهر الذي تقوم به السلطة القديمة المتعاونة صراحةً مع اليهود..

    لم يكن كل ذلك كافيًا حتى وجدنا رجلاً "يخرج" على الشرعية القانونية في هذا البلد الذي يموج بالاضطرابات؛ ليعلن قيام إمارة إسلامية جديدة تعتمد على بضع عشرات فقط من الرجال، ومتحديًا للكيان الإسلامي المجاهِد حماس، وموجِّهًا سلاحه إلى الإخوة الأشقاء، وداعيًا إلى شق الصف وزعزعة الاستقرار.
    ولله في خلقه شئون!!
    ثبات حماس
    لقد مرت حماس بظروف صعبة للغاية طوال السنوات الأخيرة، وتعرضت لأزمات عديدة كانت الواحدة منها كفيلة بتقويض أركان الكيان بكامله، لولا أن الله حفظهم وثبتهم، وليس هذا إلا للصدق الذي في قلوبهم، والحميَّة التي في صدورهم، والتوقير الذي في كل أعضائهم للكتاب والسُّنَّة، والاتّباع الحثيث لمنهج الحبيب . ولقد كتبت قبل ذلك بعدة شهور مقالاً بعنوان
    "حماس.. وما أدراك ما حماس" عبَّرت فيه عن إعجابي -بل انبهاري- الشديد بهذه الجماعة المؤمنة التي رفعت رأس المسلمين جميعًا، وكانت نقطة مضيئة مشرقة في عالم مليء بالظلام.
    وفي ظل هذه الظروف الصعبة إذا بنا نُفاجَأ بظهور عدة تنظيمات مسلَّحة، تدعو إلى "الخروج" على الحكومة التي أجمع علماء الأمة على مصداقيتها وجهادها وتضحيتها وحسن تاريخها وواقعها، وكان آخر هذه التنظيمات ظهورًا هو تنظيم "جند الله"، الذي ينتمي -كما يقول أصحابه- إلى السلفية الجهادية، ولا أدري أي سلفٍ يتبعون؟! ولا أي جهاد يقصدون؟!
    وهل كان من منهج السلف أن يدخلوا في صراعات جانبية مع إخوانهم المسلمين المجاهدين؟ أم هل كان الجهاد وسيلة لشق الصف المسلم؟!
    الخوارج وانحرافهم الفكري
    إننا رأينا أمثال هذا النوع من التنظيمات في مواطن كثيرة من التاريخ الإسلامي، ولعل أبرزها أولئك الذين خرجوا على رابع الخلفاء الراشدين الإمام الجليل، والعالم التقي، علي بن أبي طالب .. وهم الذين تنبأ رسول الله بخروجهم، وأُطلق عليهم في التاريخ لقب "الخوارج"، ولم يمثِّلوا مرحلة تاريخية فقط، بل ظلوا يمثلون انحرافًا فكريًّا رأيناه في أكثر من بقعة من بقاع العالم الإسلامي، وفي أكثر من مرحلة من مراحل مسيرة الأمة.
  • وقد حاربهم الإمام الجليل علي بن أبي طالب بعد أن دعاهم بالحسنى إلى العودة إلى الصف المسلم، فأبوا وتعنتوا، فكانت المعارك التي بشَّر رسول الله بأن المقاتلين فيها من الصف المسلم سينالون أجرًا عظيمًا من الله وهذا الذي دفع علي بن أبي طالب أن يقود المسلمين في هذه اللقاءات.
    صفات الخوارج
    وقد وقفت مع هذه الفرقة التي خرجت على الخليفة المجاهد علي بن أبي طالب، وحلَّلت صفاتها، ونظرت في جذورها وواقعها وطرق تفكيرها وتعاملها مع الأحداث، وخرجت بعِدَّة صفات لها، تجعلنا نتعرف على أشباهها في حياتنا، ومن ثَمَّ نستطيع أن نُسقِط أحكامها على أمثالهم في واقعنا.. فكانت صفاتهم على النحو التالي:
    الصفة الأولى: الجهل بالدين..
    فعلى الرغم من كونهم يَظهرون للعوام بشكل الملتزمين، بل الدعاة والخطباء، إلا أنهم لا يعرفون من أحكام الدين إلا قليلاً، وبالتالي فهم يأخذون قرارات مبنيَّة على جهلٍ، وقلما تأتي هذه القرارات بخير.
    الصفة الثانية: سهولة التكفير..
    وليس أبلغ من ظهور هذه الصفة فيهم من أنهم كفَّروا عليًّا ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- وعمرو بن العاص وسحبوا بذلك هذا الحكم على كل أتباعهم وجيوشهم من الصحابة والتابعين. وهكذا فقد كفَّروا المجتمع بكامله، وتبعًا لهذا التكفير فقد انسلخوا كُلِّيَّة من مجتمعاتهم، وصاروا جسدًا منبوذًا مرفوضًا من الجميع، كما جرَّهم هذا إلى تطبيق أحكام الكفار على المجتمع المسلم، وفي هذا ما فيه من الخطورة والفساد.
    الصفة الثالثة: التساهل في الدماء..
    وهذه تابعة لما قبلها.. فما أسهل أن يقيموا الأحكام بالقتل وإزهاق الأرواح، وقد لا يكلفون أنفسهم بجمع الأدلة، ولا إقامة الحجة، ولا التماس الأعذار، ولا سماع آراء المتهمين! إن الأمر عندهم لا يعدو أن يكون طعنة خنجر، أو طلقة رصاص، وكأنها تُطلَق على ما لا روح فيه.
    الصفة الرابعة: الغلظة الشديدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
    فهم لا ينظرون إلى الآيات الكريمة {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]؛ فمع كون الرسول مؤيَّدًا بالوحي، ومدعومًا بأقوى الحجج وأعظم البراهين، إلا أنه ما كان له أن يحتفظ بالناس من حوله إلا بلين الجانب ورقة العاطفة. أما هؤلاء فيتعاملون مع الناس بغلظة شديدة، وبعنف ظاهر، وبترفُّع وتكبر بارزين، وهذا يجعل مكانتهم في قلوب الناس واهية، وهذه الغلظة من أبرز صفاتهم مع أقرب الأقربين منهم.
    الصفة الخامسة: عدم احترام العلماء..
    فهم يتطاولون على جهابذة العلماء، وعلى أكابر الفقهاء، وقد ترى الرجل منهم -وقد لا يصل إلى درجة طالب علم- يتهكم على عالم جليل قضى أربعين سنة أو خمسين سنة في البحث والتنقيب، والتعليم والتدريس، والدعوة والجهاد.. وما أسهل أن تراهم يقولون: هم رجال ونحن رجال! فهم لا يعتبرون بدرجة علمية، ولا تاريخ مُشرِّف، وكما قال رسولنا : "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا"
    .
    الصفة السادسة: من أصحاب مدرسة الرأي الواحد..
    فهم لا يؤمنون بتعدد الآراء في المسألة الواحدة، وأن الكثير من القضايا الحسَّاسة والمهمة قد شهدت اختلافًا بين عمالقة الفقه الإسلامي، وأنه لا يمنع أن يكون رأيك صوابًا، وأن يكون الرأي المخالف صوابًا كذلك.
  • ولا يدركون أن بعض الأحكام تناسب زمنًا ولا تناسب زمنًا آخر، أو تناسب بلدًا ولا تناسب بلدًا آخر، أو تناسب ظرفًا ولا تناسب ظرفًا آخر، وبالتالي فما أسهل أن يتهموا غيرهم بالتفريط وتضييع الدين؛ لأنهم لم يسيروا على مدرستهم الفقهيَّة التي من الممكن أن تكون فاسدة من الأساس!
    الصفة السابعة: التسرع في كل الأمور..
    فهم لا يدركون ما يسمى "بفقه المرحلة"، ومن ثَم يريدون كل شيء في لحظة واحدة، وكأنهم لم يطالعوا السيرة النبوية، ولم يدركوا بقاء الرسول في مكة ثلاثة عشر عامًا دون قتال، ولم يلحظوا قتاله للمشركين أولاً، وتأجيل ملفات الروم وفارس إلى أوقات أخرى تناسب الدولة الإسلامية.. ولم يشاهدوه وهو يَقْبَل بأمورٍ في بعض المعاهدات، ولا يقبل بها في مرحلة أخرى من مراحل بناء الدولة.
  • وهذا التسرع الذي يقع فيه هؤلاء، لا يضرهم فقط، بل يضر الجماعة المسلمة بكاملها، والأمة الإسلامية بشتى طوائفها، وقد يؤدِّي تسرعهم إلى إعاقة أعمال إسلامية لعلها تَبْعُد عن بلادهم آلاف الأميال.
    الصفة الثامنة: السطحية وعدم القدرة على التحليل..
    فالأحداث التي تحدث حولهم قد تكون معقدة جدًّا، وتحتاج إلى فقهاء أذكياء مهرة يستطيعون قراءة الأحداث بدقة، ويتمكنون من القراءة بين السطور، ويعرفون أهداف المعسكرات المعادية الكثيرة من حولهم، ويميِّزون بين العدو والصديق.. وهذا كله لا يتوفر عندهم، بل هم كما وصفهم رسول الله : "سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ
    -أي ضعاف العقول- لا يملكون القدرة على استنباط الأحكام السليمة في المواقف العادية، فضلاً عن المعقَّدة والشائكة؛ ولذلك ترى الرؤية غائبة عندهم، والأهداف غير واضحة، وقد يرى عوام الناس وبسطاؤهم ما لا يقدرون هم على رؤيته.
    الصفة التاسعة: ضيق الأفق جدًّا والنظرة المحدودة..
    فهم ينظرون إلى الدين من ثقب الباب، فلا يرون إلا جزئية واحدة، ولا يمكن أن يحيطوا بالصورة الشاملة، فتراهم يركِّزون على جانب ويُهملون جوانب، ويهتمون بأمر ويتغافلون عن أمور. كما أنهم لا يعرفون شيئًا عن "فقه الموازنات"، ولا يستطيعون الترجيح بين الأولويات، ومن ثَم فقد ينطلقون بحماسة لفعل أمر مندوب، وهم تاركون لأمر واجب، أو يحاربون شيئًا مكروهًا ولا يلتفتون إلى الحرام! وهذا بسبب أنهم أغلقوا حياتهم على قضية واحدة، فما عادوا يرون من الدين شيئًا غيرها.
    الصفة العاشرة: مخترقون أمنيًّا بشكل كبير..
    فلكونهم لا يهتمون بالتربية، ويتعجلون الثمرة، فهم يقبلون الأتباع دون دراسة، ويرفعون من قدر المتحمِّسين دون تروٍّ، وهذا يجعل اختراقهم من قِبل الجهات المعادية أمرًا سهلاً ميسورًا. وما أكثر العملاء الذين يندرجون تحت صفوفهم، ويقومون بالإدلاء بالآراء الفاسدة، ويثيرون الفتن والقلاقل، ويدفعون إلى المصائب والكوارث! كما أنهم يصبحون عينًا على المسلمين، يكشفون خباياهم، ويبرزون عوراتهم، وينقلون أخبارهم، وهذا أمر قد يقوِّض أركان المجتمع المسلم كله، ويهدِّد أمن وسلامة المسلمين.
    كانت هذه هي صفتهم العاشرة، فتلك عشر كاملة!!
    كيف نتعامل معهم؟

    وأخيرًا فما الحكم إذا ما ظهر أمثال هؤلاء، "وخرجوا" على حكومة مسلمة رشيدة تبغي الخير للمسلمين، ليس في فلسطين فقط، ولكن في العالم الإسلامي كله؟!
    إن الحكم هو أن ندعوهم بالتي هي أحسن إلى العودة إلى الصف المسلم، وعدم شق عصا الطاعة، والانضمام تحت لواء المسلمين، وضم الجهود إلى الجهود في كيان واحد متَّحِد.
    فإن أبوا ذلك فليس هناك من حلٍّ إلا السلاح.. به يُردِع الله الفتنَ عن المجتمع المسلم، ويقي المجموع من شرور القلة، ويحفظ الأمة من شرور أعدائها.
    ومع كل ذلك فنحن لا نكفِّرهم ونُخرِجهم من الملة، بل نقول: إخواننا بغوا علينا، فإن عادوا إلى الصف استقبلناهم بالأحضان، وسعدنا بهم سعادتنا بأبنائنا، وفرحنا بهم فرحنا بأحب الناس إلينا.
    والحق أن هذا ما فعلته حماس المباركة، فقد ظهرت مشكلة هذه التنظيمات منذ فترة، وسلكت حماس الطريق الشرعي، والمحاورة والمناظرة، وتقديم الحسنى والكلمة الطيبة، ولكنهم أبوا إلا القتال، وإعلان إمارة إسلامية من ثلاثين شخصًا، فلم يكن هناك بدٌّ من حفظ الصالح العام بقتال الخارجين على الحكومة المسلمة الموفَّقة.
    وإني في هذه الأيام المباركة أناشد أهلنا في غزة، وفي فلسطين بكاملها، أن يوحِّدوا صفهم، وأن يجمعوا كلمتهم، وأن يعرفوا عدوَّهم، وأن يقفوا أمامه وقفة صلبة كما عودونا دائمًا. كما أناشد علماء المسلمين ودعاتهم أن يوضِّحوا الرؤية للناس حتى لا ينخدعوا بدعوة جهاد فاسدة، أو ينبهروا بقومٍ يريدون بهم شرًّا وهم لا يعلمون.
    وأخيرًا أدعو الأمة الإسلامية بكاملها أن ترفع أكفَّ الضراعة إلى الله أن يحفظ دين المسلمين ودماءهم وأعراضهم، وأن يحرِّر فلسطين، وكل بقاع الأمة الإسلامية.
    وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري