الجمعة، 21 أغسطس 2009

رمضان المدينة .. ذكريات وشجون




  • بسم الله الرحمن الرحيم

    عند الحديث عن رمضان، تتوقف قليلاً، وتلتفت يميناً ويساراً، تفكّر من أين تبدأ، ولكن لن يطول بك التفكير؛ فسرعان ما تحلّق بك روحانية هذا الشهر المبارك إلى موطن الذكرى، ذكرى صيام هذا الشهر، شهر الصيام والقيام، وموسم الرحمة والغفران، ومضاعفة الحسنات؛ حيث تجد نفسك بين حنايا المدينة المنورة، بين ظهراني أحفاد الأنصار، أولئك الذين آووا ونصروا حين عز الملجأ وانعدم النصير.إنها طيبة الطيبة التي يأرز إليها الإيمان كما تأرز الحية إلى جحرها؛ من هذه البقعة الطيبة المباركة؛ حيث تستهل من تلك الديار أحاديث شوق، ومناجاة..
    في المدينة المنورة، ومن جوار أكرم الخلق، وسيد ولد آدم - عليه الصلاة والسلام -، تتلقاك السماحة، ويشدك الكرم الذي يتجلّى في أبها صوره في رمضان؛ حيثُ الجودُ حرارةٌ تحت الجلود، تعلّمه وتأدّب به أحفاد الأنصار من جدهم المصطفى، معلم الناس الخير، إمام الهدى محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أجود مَن أقلّت الغبراء، وأظلّت الخضراء، وكان أجود ما يكون في رمضان!!
    هذه موائد الرحمن تصطف بأيدي أهل الخير والإحسان، مترامية الأطراف في كل شبرٍ من بقاع المسجد النبوي الشريف، يتسابق الخيرون على مدّها، كل يبغي احتواء الخير بين أطرافها، وعلى امتداد جنباتها!!
    مازلت أشتم من هناك رائحة الرطب المدني، واللبن، والماء، فطرة رسول الهدى - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وأنت داخلٌ من أي باب شئت من أبواب المسجد النبوي لابد أن تجد نفسك مجذوباً من هذه اليد، أو تلك، أو مدعواً بكلمة طيبة رقيقة من هذا الشاب، أو تجد نفسك محاطاً من شيخٍ كبير يرجوك أن تكون في ضيافة مائدته، تستشعر أنك بين ذويك وأحبائك؛ سماحة في الخُلق، وأدبٌ في المأكل والمشرب، وعذوبة في الحديث، ولاعجب أن يكون هذا خُلقهم وهم في جوار خير البشر..
    نسائم المدينة في رمضان عبقة نديّة، يتمايل نخيل قباء عند الفجر استبشاراً وسروراً بزائريه للصلاة فيه أسوة بفعل النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى تلال أُحد يتراءى لك الزائرون فرادى وزلفى، كالعقد المنظوم يحلقون ببصرهم في ساحة أُحد، وكأني بأحدهم يرمق حبات رملها؛ ويود لو يقبّل حصباءها، حيث موطئ أكرم الخلق..
    وفي هذه المدينة الكريمة تجد لرمضان حياةً خاصة تنطلق ابتداءً من قبل صلاة المغرب حين يخرج للإفطار في تلك الرحاب الطيبة أغلب ساكنيها.


  • الأخ نبيل عبدالوهاب هو أحد أصحاب السفر الممتدة في ساحات المسجد النبوي، والذي التقيناه وهو واقف أمام الداخلين إلى المسجد النبوي يمسك بهذا، ويرجو ذاك أن يكونوا في ضيافة مائدة والده، التقيناه بعد جهدٍ جهيد في إقناعه أن يحكي لنا عن رمضان في طيبة الطيبة، فيقول:


  • "يكلفني والدي من بعد صلاة العصر بساعة تقريباً أن أحضر إلى المسجد النبوي مصطحباً معي -أنا وإخواني- عدداً من الحافظات الغذائية، والأكياس التي تحتوي على كل ما تحتاجه مائدتنا، من تمور، وقهوة، وأنواع الخبز المدني الذي يُعرف بـ (الشريك) أو (الفتوت)، إضافة إلى اللبن، والسمسم، ويستطرد الأخ نبيل:


  • "فتقريباً هذه العناصر هي أبرز ما تشتمل عليه جميع موائد المسجد النبوي الشريف خاصة في الداخل، أما خارج المسجد وفي محيطه وعلى ساحاته الخارجية فتتعدّد الأصناف وتتنوع؛ فتشمل الفواكه، والخضار، بل وبعض الإدامات المطبوخة التي يأتي بها أهل الخير لتسد جوع الصائمين من الزائرين للمدينة المنورة، وأبرز ما يعرفه أهل المدينة وزائروها، هو حملات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - إذ إن عدداً كبيراً من السيارات الكبيرة تحوم منذ العصر على منازل المدينة خصوصاً في أحيائها القديمة، أو في المساكن التي تُعرف بـ (الرباط)، وهي مساكن يوقفها أهل الخير مجاناً للفقراء والمساكين، فتقوم تلك السيارات بتوزيع ماء زمزم في أكياس، إضافة إلى التمر هدية من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، كما كان - رحمه الله -، وأسكنه فسيح جناته يمدّ الموائد على جميع جوانب المسجد النبوي الشريف من جميع جهاته الأربع، وتُصبّ فيها أفضل طبخات الأرز، والدجاج، وأنواع الفواكه المختلفة، إضافة إلى ما سبق توضيحه من وجبة الإفطار الاعتيادية، وذلك هديةً منه - رحمه الله - في احتواء زائري المدينة وساكنيها، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، فكم ستدمع عينٌ في رمضان هذا وهي تتذكره، كان في رمضان السابق بيننا، وكأنه بأفعاله العظيمة تلك واحد منا".
    ويستطرد حكاية رمضان في المدينة، فيقول: "أقوم وأشقائي بافتراش السفرة وتوزيع ما ذكرته من قهوة، وتمر، ولبن، وسمسم، وخبز، وماء زمزم على جميع أطراف السفرة بحيث يكون لكل صائم نصيبه من كل هذه المجموعة كاملة، ثم نقف ونتوزع أنا وأشقائي في أكثر من مكان نتسابق مع أصحاب الموائد الأخرى على اجتذاب أكبر عدد ممكن من الزوار، والداخلين إلى المسجد النبوي، وعند اقتراب موعد الأذان نعود إلى المائدة جميعنا إلا واحداً يقف عند المائدة مباشرة لكي يلحق بما تبقى من الداخلين والواصلين إلى المسجد النبوي الشريف.. وبعد صلاة المغرب ننطلق إلى المنزل لاستكمال وجبة العشاء، والجلوس مع بعضنا جلسة أسرية حميمية بعدها نتوضأ جميعنا مع الوالدة والأخوات ونذهب إلى المسجد النبوي لأداء صلاة العشاء والتراويح ثم العودة للمنزل"..

    رمضان في مكة.. الحج بصورة مصغرة
    يقول - عليه الصلاة والسلام -: (عمرةٌ في رمضان تعدل حجة معي).. ومكة المكرمة في شهر رمضان، هي صورة مصغرة، ورسم مبسط لموسم الحج، فتجد الحرم المكي بساحاته الداخلية والخارجية وأنت تنظر إليها من أعلى برجٍ، وكأنها مفروشة برداء أبيض، تختال كعروسٍ حسناء في ليلة زفافها، يقصدها المعتمرون تبركاً بهذا الشهر الكريم، وطمعاً فيما عند الله - سبحانه وتعالى -.

    موسم واحد.. وعادات متباينة
    رمضان في مختلف أنحاء العالم هو شهر الخير، والبر، والرحمة، والإحسان، وتتمثل فيه أبهى معاني التكافل الاجتماعي بين المسلمين، في سابقة يتفرّدون بها عما سواهم من الأمم، مهما كانت أحوالهم المعيشية، أو أوضاعهم الاقتصادية، فإنك تلمس روح المبادرة لإطعام بعضهم البعض دون منٍّ أو أذى ممتثلين إلى نداء نبيهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر!!
    إلا أن ذلك الأمر لا يمنع أن تتفرد كل بلاد بما يخصها من عادات، وتقاليد في كيفية قضاء يومها الرمضاني، وأكثر ما يميز رمضان المملكة هو أمران: انتعاش الأسواق التجارية، وتكثيف الدورات العلمية في المساجد؛ فيؤكد الأخ بسام الزاهر ذلك الأمر بقوله: إن حركة السوق التجارية في الرياض مثلاً تصل أوجها في الأسبوع الأخير من شعبان، وتصل الذروة في اليومين الأخيرين منه، فيبدأ التراجع في معدل الحراك التجاري الاستهلاكي حتى يصل إلى المستوى الطبيعي في الخامس من رمضان، ويستمر كذلك حتى العشرين منه، فيبدأ بعدها بالصعود إلى أعلى استعداداً للعيد والإنفاق السخي على شراء مستلزماته؛ فتصل حرارة التسوق إلى قمتها تقريباً في الخامس والعشرين، ويستمر ذلك حتى آخر يومٍ في رمضان، وبعدها تنطفئ الحركة تقريباً، وتُغلق معظم المراكز التجارية، والأسواق، استعداداً للمشاركة في أفراح وابتهاجات عيد الفطر المبارك.

    رمضان = مطبخ
    ولأن رمضان أصبح مرادفاً رائعاً لكلمة (طهي) ومشتقاتها فإنه لن نجد أفضل من أم حمود.. ربة بيت ماهرة كما تصف نفسها ويصفها من حولها من الجيران، فهي قد تضاهي في براعة طهيها أمهر الطبّاخين إن لم تكن أمهرهم فعلاً.. وعن ذلك تقول: "للأسف.. وأركز عليها مرة أخرى (للأسف) بأننا قد تشبعنا عقلياً، وفكرياً، ومعنوياً، بأن رمضان يعني ميزانية واضحة، وجبّارة للمطبخ، نعم لا ننكر بأننا ولله الحمد نعي معاني الخير، والطاعة في رمضان، بل ونشتاق إليها لنتقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - من خلاله، ولكننا نعاني أيضاً من داء الأكل المفرط، بل إنه أصبح لكل فردٍ من أفراد العائلة وجبته المفضلة التي ينتظرها من رمضان إلى رمضان.

    البذخ والتبذير.. داءٌ عضال
    الأخت طيف. س. معلمة تربوية، عندما بادرناها بسؤالنا عن الكلمة التي ترتبط بذاكرتها بمجرد ذكر شهر رمضان، فتقول بشكل مباشر وتلقائي: (التبذير).. وتستطرد قائلة: "إن التبذير داءٌ عضال.. ومرض فتّاك، لا يأتي رمضان إلا ونعاود الشكوى منه، ونستمرّ طيلة الشهر نحذّر منه تارة، ونقع فيه تارة، وما إن ينقضي هذا الشهر الكريم، نبدأ بالتحسر على ما بدر فيه من ذلك الأمر، حتى ننسى كل شيء عند استقبال رمضان القادم".
    وتضيف خلود الأحمد ربة بيت: "ما إن يقترب أذان المغرب حتى تزدحم المائدة بأكثر من عشرين صنف من المأكولات، ابتداءً من كأس الماء وصحن التمر، ومروراً بالمشويات، والمشروبات الساخنة، والمشروبات الباردة، والحلوى، والمعجنات، فلا تعلم يدك أين تسير، وبماذا ستبطش"، وتردف الأخت خلود قائلة: "نحمد الله ونشكره على نعمه ظاهرة وباطنة، ونسأل الله أن يديمها علينا، وأن يحفظها من الزوال، نحن نتمنى دائماً ألاّ نصل إلى مرحلة الإسفاف في هدر الطعام.
    رحلتنا مع رمضان لا يمكن أن تنقطع، أو تتوقف، ولن يحدّ هذه الرحلة إلا ما يقطع الحديث جبراً كانتهاء المساحة المخصصة لذلك كما هو الحاصل معنا الآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري