الأربعاء، 5 أغسطس 2009

عمرو بن العاص.. شبهات وردود )


  • قلما تجد فاضلا ليس له حساد ومفترون، وهذا الأمر لم يسلم منه عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ فقد اختُلق في حقه قصة باطلة بصفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما!!
    يقول نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقاهم أهل الشام فاجتلدوا، وحمل عمرو بن العاص فاعترضه علي وهو يقول:
    قد علمت ذات القرون الميل ... والخضر والأنامل الطفول
    إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه، واتقاه عمرو برجله فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ، فقال القوم: أفلت الرجل يا أمير المؤمنين، قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا، قال: فإنه عمرو بن العاص، تلقاني بعورته فصرفت وجهي!!
    وذكر القصة أيضًا ابن الكلبي، كما ذكرها السهيلي في الروض الأنف، وقال عن قول علي (إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرَّحِمَ): "ويروي مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي رضي الله عنه يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر الشهمي رواه ابن الكلبي وغيره:
    أفي كل يوم فارس غير منته ... وعورته وسط العجـاجة بادية
    يكف لها عنه عليٌّ سـنانه ... ويضحك منه في الخلاء معاوية!!
    والرد على هذا الافتراء والإفك المبين كالآتي:
    فراوي الرواية الأولى نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جَلْد، لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي رافضي جَلْد، متروك، قال عنه العقيلي: شيعي، في حديثه اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو خيثمة: كان كذابًا، وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضيًا غاليًا، ليس بثقة ولا مأمون. وأما الكلبي هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فقد اتفقوا على غلوه في التشيع.. قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟!! ما ظننت أن أحدًا يحدث عنه!!.. وقال الدارقطني: متروك.
    وعن طريق هذين الرافضين سارت هذه القصة في الآفاق، وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة، وتُعدُّ هذه القصة أُنموذجًا لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغَضِّ من جناب الصحابة الأبرار رضي الله عنهم في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي، بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصاص، وأصبح كثير منها من المسلمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف!!
    ولاية عمرو بن العاص على مصر
    وَلَّى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر، عام 41هـ، وهذا من باب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فعمرو فاتح مصر وواليها على عهد عمر وعثمان رضوان الله عليهم وهو أقرب الناس لتولي هذه الولاية المهمة..
    وقد تكاثرت الروايات الموضوعة والضعيفة في العلاقة بين عمرو ومعاوية رضي الله عنهما، واشتمل على مغامز خفية ومعلنة على الرجلين، وتشير بعضها إلى أن معاوية قد أعطى ولاية مصر لعمرو بن العاص مكافأة له نظير وقوفه إلى جانبه أثناء الفتنة التي أعقبت استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفي ذلك يقول الدكتور علي محمد الصلابي: "وهذا الأمر قد بينته في كتابي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن وقوف عمرو بن العاص مع معاوية في المطالبة بالتعجيل بتطبيق القصاص على قتلة عثمان لم يكن تضامنًا من عمرو مع شخص معاوية، بل كان نابعًا من اجتهاد عمرو الشخصي في هذه المسألة، حيث رأى رضي الله عنه الأخذ بالقوة من قتلة عثمان على الفور، فكان هذا الاجتهاد من عمرو بن العاص متطابقًا مع اجتهاد معاوية بن أبي سفيان في القضية نفسها"..
    وقد كانت ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه على مصر ذات صلاحيات واسعة بسبب ما كان يتمتع به من مقدرة إدارية فائقة، وقابليات سياسية وعسكرية متميزة، فقد واصل فتوحات الشمال الأفريقي ونظم أمر العطاء والإعمار والبناء والزراعة والري بمصر، وقد بقي في ولاية مصر حتى وفاته عام 43هـ.
    إعطاء مصر طُعْمَة لعمرو بن العاص
    تتعدد الروايات التي تنص على أن معاوية أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص لقاء تأييد الأخير له في حربه ضد علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم!!
    وجُلُّ هذه الأخبار تحوي روحًا عدائية لعمرو ومعاوية، وتصور اتفاقهما على حرب علي، كما لو كانت مؤامرة دنيئة أو صفقة مريبة، خان فيها الرجلان ربهما، ودينهما، وتاريخهما، مقابل عَرَضٍ زائل أو نصر سريع، وكأنه من المستحيل أن يبذل ابن العاص رضي الله عنه نصرة لقضية اجتمع حولها آلاف الرجال من الشام وغيرها، وهي الطلب بدم عثمان إلا إذا نال ولاية مصر وخراجها لنفسه.
    وبعض هذه الروايات تحوي سبابًا لهذين الصحابيين، كأن تزعم أن عمرًا فضل ولاية مصر على حُسنَى الآخرة وصرح بذلك؛ فقال: "إنما أردنا هذه الدنيا"، أو أنه قال لمعاوية: "لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك"، أو قوله: "إنما أُبايعك بها ديني" (أي بمصر) أو قوله لمعاوية: "ولولا مصر وولاياتها لركبت المنجاة منها؛ فإني أعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده".. إلى غير ذلك من الروايات.
    وهي روايات باطلة وموضوعة عند المسعودي، وكتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة وغيرها، تمسخ عمرًا بن العاص إلى رجل مصالح، وصاحب مطامع وراغب دنيا.
    وقد تأثر بالروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة مجموعة من الكتاب والمؤرخين، فأهووا بعمرو إلى الحضيض، كالذي كتبه محمود شيت خطاب، وعبد الخالق سيد أبو رابية، وعباس محمود العقاد الذي يتعالى عن النظر في الإسناد، ويستخف بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنهما انتهازيان، صاحبا مصالح، ولو أجمع النقاد التاريخيون على بطلان الروايات التي استند إليها في تحليله فهذا لا يعني للعقاد شيئًا!!
    فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة واهية لا تقوم بها حجة: "وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحة هذه الكلمات وما ثبت نقله ولم يثبت منه سنده ولا نصه، فالذي لا ريب فيه، ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه أن الاتفاق بين الرجلين، كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل إلى كل منهما، ولولاه ما كان بينهما اتفاق"!!
    وهناك عدة دلائل ترد على الروايات الضعيفة، والموضوعة والسقيمة التي لاقت رواجًا واستقرارًا في تشويه عمرو بن العاص ومعاوية بالظلم والبهتان، منها ما عرف من صحة إسلام وتقوى معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وتاريخهما المضيء في خدمة دين الله منذ أسلما..
    ففي معاوية يكفي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "اللهم اجعله هاديًا مهديًا، واهدِ به"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب". وأما عمرو بن العاص فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان حيث قال: "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص"، وفي حديث آخر - كما قدمنا - قال: "ابنا العاص مؤمنان: عمرو وهشام"، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصدق عمرو، إن لعمرو عند الله لخيرًا كثيرًا".
    وعلى هذا فإن بيعة عمرو لمعاوية في عهد عليّ كانت على الطلب بدم عثمان رضي الله عنه، فقد كان تأثُّر عمرو بمقتل عثمان عظيمًا، فعندما سمع خبر مقتل عثمان ارتحل راجلاً يبكي، ويقول: ياعثماناه أنعي الحياء والدين، حتى قدم دمشق، فقد كان من أقرب أصحابه وخلانه ومستشاريه، وكان يدخل في الشورى في عهد عثمان من غير ولاية، ومضى إلى معاوية رضي الله عنهم ليتعاونا معًا على الاقتصاص من قتلة عثمان، والثأر للخليفة الشهيد، لقد كان مقتل عثمان كافيًا لأن يحرك كل غضبه على أولئك المجرمين السفاكين، وكان لابد من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرؤوا على حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلوا خليفته على أعين الناس.
    وأي غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟! وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع، فمداره على الروايات المكذوبة التي تصور عمرًا: كل همه السلطة والحكم..
    ومن الدلائل على بطلان فرية إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص ما ذكره أبو مخنف - أحد رواة الفرية السابقة - أن دفْع معاوية لجيشه إلى فتح مصر وأخذها من يد أنصار علي بن أبي طالب سنة 38هـ، وكان عمرو قائده في هذه الحملة، أنه كان يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب لعظم خراجها.. فكيف يهب معاوية ذلك الخراج كله لعمرو بن العاص وهو في مسيس الحاجة إليه؟
    !
    ومن الدلائل أيضًا: أن معاوية كتب بعد استخلافه إلى عامله على خراج مصر وردان أن زد على كل امرئ من القبط قيراطًا، فرد عليه: كيف وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم؟! ولم يل وردان خراج مصر لمعاوية إلا في ولاية عمرو بن العاص؛ لأن من ولوا مصر بعد موت عمرو، وهم: عتبة بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، ومسلمة بن مخلد، كانوا يتولون صلاتها وخراجها، وهذا الرواية صريحة قاطعة في الدلالة على اهتمام معاوية بزيادة حصيلة الخراج في مصر، وفي ولاية عمرو بن العاص عليها.
    وهذا الاهتمام لا معنى له إلا إذا كان فائض الخراج في مصر يحمل إلى معاوية في دمشق ليواجه به وجوه الإنفاق المتنوعة، كما أن معاوية لم يكن يستحل أن يتنازل عن خراج مصر وهي من أغنى الأقاليم للدولة الإسلامية آنذاك لفرد واحد، وهو يعلم أنه حق الأمة كلها، وأنه لا يملك التنازل عنه، وقد روى ابن تميمة عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت ملكم فضلاً بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عام قابل قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة عليّ؛ فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاءَه عليكم.
    وإذا أضفنا إلى ذلك ما نعرفه من تنافس الأمصار الإسلامية مع بعضها، ووجود معارضة للأمويين في مصر كانت حديثة العهد منذ تبعية مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى دخلها عمرو بن العاص سنة 38هـ، لازددنا
    يقينًا أن أهلها لم يكونوا يقبلون ما يزعمه الرواة حول إعطائها طعمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه..
    وعلى ذات السبيل نذكر أن من رجال مصر من بذل في سبيل نصرة معاوية مثلما بذل عمرو بن العاص، إن لم يَفُقْهُ، كمعاوية بن حديج وأصحابه من العثمانية، وهؤلاء لا يقبلون بحال أن يمتاز عمرو عليهم كل هذا الامتياز، ونذكر أن معاوية بن حديج هذا قد أرجع ابن أخت معاوية عبد الرحمن بن أم الحكم الذي ولاه معاوية مصر، من قبل أن يدخلها، ورفض أن يتولى إمارتهم، ورده إلى الشام على نحو غير كريم، فما استطاع معاوية أن يُغضِب ابن حديج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري