الخميس، 6 أغسطس 2009

فشل الإسلام السياسي.. التحديات الفكرية والسياسية

  • آخر مأساة لا مثيل لها وغير محتملة تمثلت في تعرض المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة (من نساء وأطفال ومسنين) لجرائم حرب حقيقية ارتكبها الجيش الإسرائيلي وبررها جميع مسؤولي هذه الدولة، وهي تذكرنا بالسياق الإقليمي "للشرق الأدنى" -ومأساة الفلسطينيين على وجه الخصوص- كما تذكرنا بالغياب التام للعدالة والأخلاق في التعامل الدولي مع هذه المسألة... وهو أمر يفسر، إلى حد كبير، صعود الحركات الإسلامية بمختلف تنويعاتها.
    الإسلام السياسي أطياف متنوعة
    "من السهولة أن نتبين البون الشاسع بين حركة طالبان وموافقها المتشددة وبين التوجه الديمقراطي الصريح لدى حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا تحت قيادة الرئيس عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان"إن اختزال هذه الحركات، عبر وصفها بالجهادية فحسب، ليس سليما، خصوصا وأننا إذا نظرنا إلى هذا الصراع نجد أن قطاعات كبيرة من الشعب العربي الفلسطيني تنظر لحركة حماس على أنها حركة مقاومة وتحرر وطني، في حين يصفها بعض المسؤولين الغربيين بالمجموعة الإرهابية وكأنها لا تحظى بدعم شعبي واسع وتتمتع برسوخ محلي.
    وبشكل عام، وخلافا للاعتقاد السائد في الغرب، -خصوصا منذ هجمات الحادي عشر سبتمبر/أيلول 2001 – فإن الإسلام السياسي يمكن وصفه بأنه لا هو بالمتجانس ولا هو بغير القابل للتغير، كما أنه لا يمكن حصره في الشبكات الجهادية أو السلفيين الجدد. فالإسلام السياسي مصطلح عام يشمل في الواقع طائفة عقدية ومؤسسية وسياسية واسعة، كما يشمل تنوعا واسعا في التيارات والإستراتيجيات، ويشمل أيضا وفرة من الحساسيات والاتجاهات (تمتد من الاتجاهات الشرعية والمعتدلة أحيانا إلى تلك الأكثر تعنتا و تشدُّدا)؛ وما فتئت هذه الاتجاهات تتطور مع مرور الوقت. كما تعتمد إستراتيجياتها إلى حد كبير على السياقات السياسية والمحلية والإقليمية التي تشتغل ضمنها، وهي سياقات غاية في التنوع، وغالبا ما تؤدي إلى مواقف مختلفة نسبيا، خصوصا فيما يتعلق بالمشاركة الديمقراطية والقانونية في اللعبة السياسية وكذلك ما يتعلق باستخدام العنف.
    فلو نظرنا إلى البون الشاسع الذي يفصل، على سبيل المثال، بين الهذيان المعادي للغرب والمعادي للسامية (وحتى حرمان أو "تكفير" معظم المسلمين) الذي يدعو إليه تنظيم القاعدة وأتباعه أو البون الذي يفصل أيضا بين مناهضة حركة طالبان "المشؤومة" للفكر (لنتصور حظرا أو إزالة مفاجئة لأغنية عاطفية واحدة لأم كلثوم أو حتى إزالة بيت من شعر مجنون بني عامر في ليلى أو شعر امرئ القيس) أو سياسة طالبان البغيضة في استعباد المرأة، لتبين لنا في المقابل البون الشاسع بين كل هذا وبين التوجه الديمقراطي الصريح لدى حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، تحت قيادة الرئيس عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وهو حزب معروف بنزعته الأوروبية الجامحة. ولننظر كذلك إلى سلوك جماعة الإخوان المسلمين في مصر المدفوعة بهاجس الاعتراف بها وبسعيها الحثيث من أجل الشرعية السياسية، والتي قامت في مختلف الاستحقاقات الانتخابية السابقة (خلال العقدين 1990 و 2000) بتحالفات مختلفة (لا سيما مع حزب الوفد أو حزب الوسط)، وبصفة عامة، من خلال عدم موافقة جماعة الإخوان على استخدام العنف، الذي كان زعماؤهم قد دعوا إليه في بداية تاريخ الجماعة، كما دعت إليه مؤخرا جماعات رادكالية تناسلت في أصلها من جماعة الإخوان من المغرب إلى الخليج. وإذا استثنينا بعض التيارات المتطرفة والشبكات الأصولية الجديدة، فإن أجيال حركات الإسلام السياسي المعترف بها عرفت بعض التغييرات وذلك بظهور كوادر من الطبقة الوسطى قامت بمحاولات مختلفة لمنع الآثار السلبية التي خّلفتها سياسات طردهم من الساحة السياسية الرسمية من خلال الاستثمار والنضال في مجال نقابات العمال والقطاع التطوعي وفي المجتمع المدني والحركات الاجتماعية وذلك على غرار تجربة الإخوان المسلمين في مصر في إطار الاتجاه المناهض للعولمة المسمى كفاية...

    فجوة بين الكلام والفعل
    "لا تكمن أوجه القصور في فكر الإسلام السياسي في عجزه عن التعبئة بل في كونه غير قادر على سد الفجوة بين بلاغة الأقوال المتحيزة وبين قوانين الواقع الصارمة"ومع ذلك، فإن نظرية "انحسار الإسلام السياسي -أو على الأقل وصوله لـ"طريق مسدود "- يستحق في رأيي نظرة جادة ومتأنية.
    وكما ذكرت فمن المعلوم أن بعض الحركات الإسلامية أكدت أنها على استعداد لتقديم تنازلات بشأن قضايا حساسة مثل الشرعية والحداثة. ولكن كما تقول الحكمة: ما كل ما يتمنى المرء يدركه! يمكن لهذه الحركات أن تقطع دون شك شوطا نحو قبول صريح بالتعددية الفلسفية وتحقيق اندماج في قضايا التسامح والعلمانية والمساواة بين الجنسين وغير ذلك. إلا أن أيا من هذه الحركات المذكورة لم ينجح في صياغة مشروع واقعي للحكم وموثوق به وقابل للحياة.
    إن أوجه القصور في فكر الإسلام السياسي -حتى بالمعنى العام- لا تكمن في عجزه عن التعبئة (أبانت الحركات الإسلامية فعلا في هذا المجال عن قدرة كبيرة على تجنيد وإدماج مناضلين مدربين وجاهزين)، و لكنها تكمن في كونها غير قادرة على سد الفجوة بين بلاغة الأقوال المتحيزة وبين قوانين الواقع الصارمة.
    يرتاح زعماء الإسلام السياسي وهم يعتقدون ويجعلون غيرهم يعتقد أن بأيديهم حلولا معجزة "لمشاكل المسلمين" حيث يطالبون لتحقيق تلك الحلول بإخضاع جميع جوانب حياة المجتمع لمقتضيات الشريعة التي هي من جهة عبارة عن قانون إلهي يشكل مرجعية كلية، ومن جهة أخرى فإن هذه الشريعة عبارة عن بناء بشري تشكل على مدار التاريخ وخضع لإعادة تفسير وتكييف مع الوقائع المتغيرة بالضرورة. وعلاوة على ذلك فإن إيديولوجيا الإسلام السياسي في نهاية المطاف لا تهم أكثرية المواطنين العاديين وحتى البسطاء التي ينصب اهتمامهم على المشاكل الملموسة الأكثر حدة في الحياة اليومية مثل: القوة الشرائية والبطالة والسكن والتعليم والصحة الخ..
    ولا يبدو أن المتمسكين بعقيدة الإسلام السياسي قد تخلوا عن نظرتهم "الكليانية". ألا نجدهم في نهاية الأمر (وبوسائل مختلفة أيضا) يسعون للوصول للسلطة وإقامة حكم خاضع بالكامل لمقتضيات "الشريعة الإسلامية" (أو ما يعتبرونه كذلك) ؟ وما النموذج المغذي لهذا الخيال سوى "المدينة الإسلامية" أي المدينة المنورة في عهدها النبوي، على الرغم من أن واقع ممارسة السلطة والتنظيم السياسي والإداري لعالم إسلامي متسع الأرجاء يعود لأربعة عشر قرنا وهو ما يجعل الأمر بعيدا عن هذا المثال الديني/السياسي. ومذهبيا لا جديد في الأمر: ففي نظر معظم الإسلاميين فإن الإسلام كل لا يتجزأ حيث يمزج بين الحياة الدينية والحياة الزمنية (الدين والدنيا)، وبين الدين والحكم السياسي (الدين والدولة). وهنا يكمن أول مؤشر للفشل، إن لم يكن الإشكالَ المستعصيَّ لعقيدة الإسلاميين.

    "نجاح" التجربة الإسلامية التركية
    "في حين يتابع حزب العدالة والتنمية دون هوادة تحوله الديمقراطي فإن أفق معظم الحركات الإسلامية في العالم العربي في الوقت الحالي وغيرها لا يعدو سوى ممارسة الخطابة الشعبية"ثم إنه وفي عرض سريع لقرن زمني تقريبا من حصيلة أعمال الإسلاميين لا يتبين سوى النكسات وخيبات الأمل على جميع المستويات. وعلاوة على ذلك فإن التأكيد على أن مصدر هذه الإحباطات يكمن بشكل حصري تقريبا في القمع الذي يفرضه خصوم الإسلاميين في الأنظمة الحاكمة (صحيح أن هذه الأنظمة سلطوية غالبا وتستخف بمختلف التطلعات والمطالب التي يعبر عنه المجتمع المدني، وهي أنظمة طبقت سياسات تعليمية كارثية وفرضت نظما اتسمت بتفقير الحريات الفردية وغياب دولة القانون)، فهذا التأكيد إنما هو تفسير قاصر حتى لا نقول إنه بصراحة تفسير جزئي ومتحيز. وفي رأيي إن مثال "النجاح" الوحيد بالنسبة للإسلام السياسي (مع أنه غير كامل) يتمثل في حزب العدالة والتنمية التركي (وتستحق الحالة الإيرانية تحاليل أخرى).
    تقود حزبَ العدالة والتنمية أنتلجانسيا ليبرالية، معتدلة في مطالبها، وواقعية لدرجة الانتهازية، ومقاولة، وقد تلقت تعليمها في أفضل الجامعات في الغرب، ومتابعة بدقة لما يجري في العالم، وتقبل بتحديات العولمة، وهي أيضا جزء فعال في النقاش الدائر حول الحداثة... تعد العلمانية في تركيا ركيزة الجهاز المؤسسي؛ ولذلك فإن حزب رجب طيب أردوغان -الذي لا أحد يشك في تجذره الشعبي وتمثيله السياسي و دوره الحكومي (حاز على الأغلبية البرلمانية منذ سنوات كثيرة وظل يستقطب باطراد أعدادا كبيرة من المصوتين) كما أن توجهه هذا ليس موضع نقاش- يظل منغمسا في هذه التوجه العلماني. لقد أجرى حزب العدالة والتنمية التركي منذ سنوات عديدة تجديدا عميقا في توجهاته، وناضل من أجل انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي (هذا إن لم تكن تركيا قد انضمت بالقوة للاتحاد الأوروبي، واندمج الحزب منذ وقت طويل في الحداثة، والاقتصاد العالمي ولم يجر أي تعديل سوى تعديل على هامش السياسة الخارجية المفضلة باستمرار من طرف إسطنبول... وهذا كله يفسر مقاربة أكثر طموحا للغاية ومبادرات أكثر جرأة جدا من تلك الصادرة عن الحركات الإسلامية الأخرى في العالم. في حين يتابع حزب العدالة والتنمية دون هوادة، وحتى أثناء ممارسته أعلى المسؤوليات، تحوله الديمقراطي، فإن أفق معظم الحركات الإسلامية في العالم العربي في الوقت الحالي وغيرها لا يعدو سوى ممارسة الخطابة الشعبية. وبإيجاز أقول إن "النجاح" النسبي الذي حققه حزب العدالة والتنمية قد دفع مقابله ثمنا باهظا: إنكار كامل (على الأقل) للمبادئ الأساسية للإسلام السياسي التقليدي!

    الإسلام السياسي والحداثة
    "الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان: "فمن يزعم أنه يأخذ بالتكنولوجيا الحديثة وفي الوقت نفسه يرفض محتواها الفلسفي ويرفض القطيعة الأبستيمولوجية والمنهج العلمي والاضطرابات الاجتماعية التي آذنت بشكل أو بآخر بميلاد الحداثة فزعمه ببساطة من باب الأوهام""لقد ظلت معظم الحركات الإسلامية مستمرة بشكل حتمي في اجترار حنظل ثقافة الاستياء. فبعيدا عن تقديم أي أفق قابل للتطبيق وموثوق به، فإن إيديولوجيا هذه الحركات ما فتئت تنغرس في خضم العداء الشديد لحداثة ممقوتة، نظرا لأن السياسات التي اتبعتها معظم الحكومات (أحيانا باسم الحداثه) أنتجت كثيرا من القلق والإقصاء من طرف الأنظمة المحلية المعادية للديمقراطية القائمة على الاستفادة المادية والمحسوبية وتفشي الفساد و"سوء التنمية" - زيادة على إشكالية "أزمة الهوية"، وفشل كارثي للنظام التعليمي، والفقر، والبطالة الجماعية، وتفكك قيم التضامن والعدالة، ووهن معظم الأنظمة العربية على المستوى الإقليمي- وهذا ما يفسر إلى حد كبير انجذاب جزء من الشعب نحو الخطابة الأصولية الجديدة. وإيديولوجيا الإسلام السياسي لا تسمح بالحديث عن نجاح هذا التوجه بالصفة التي أقصد.
    وعلاوة على ذلك، فإن بعض المحللين لا يتردد البتة في التأكيد على أن المثقفين الإسلاميين يعرفون الغرب جيدا، لكونهم قد أقاموا فيه على وجه الخصوص، وما يقومون به هو مجرد رفض للهيمنة الغربية. ومع ذلك يبدو أن هذا القول عرضة للالتباس. فمن جهة أولى لا تزال معرفة المثقفين الإسلاميين بالغرب، في رأيي، سطحية في نهاية الأمر، ومن جهة ثانية فإن وضعية الإسلام السياسي تخلط ما بين الحداثة الفكرية و سياسات القوة والهيمنة لدى معظم المسؤولين الغربيين (سياسية السلطة)، أي بعبارة أُخرى إديلوجيو الإسلآم السياسي يخلطون ما بين الإمبريالية والمسار الفلسفي والسياسي للمجتمعات الغربية. فسيد قطب (1906-1966) كان يزعم أنه هو أيضا على معرفة بالغرب. فبعد إقامة بالولايات المتحدة وجيزة وغير سارة (على حد تعبير قطب)، كانت في حدود 1948 إلى 1950، نجد أنه لا ينظر إلى العالم الغربي إلا بنظرة ملؤها الرعب والروع؛ فهذا الكون –حيث "الانحلال الأخلاقي" و"الدعارة"، و"السلوك الفاحش الذي لا يمكن إصلاحه"، حسب قوله- هو بالتأكيد أمر ممقوت. وسنجده يمقت المجتمعات الإسلامية نفسها (واصفا إياها بالجاهلية) لأنها، في رأيه لم تعد تقاد نحو (ولا موجهة نحو) المثال الروحي المتعالي. أصبحت هذه الرؤية، كما نعلم، نموذج الرؤية الجهادية للعالم. وهذا يعني -إن صح التعبير- أن السفر اليوم نحو العالم الغربي أو استخدام شبكة الإنترنت لا تكفي لمعرفة هذا العالم الغربي!
    ومن المهم هنا أن نذكر بالتحليلات المفيدة جدا التي ذكرها الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان حين يتحدث عن النظرة المبتورة (المشوهة؟؟) فمن يزعم أنه يأخذ بالتكنولوجيا الحديثة وفي الوقت نفسه يرفض محتواها الفلسفي ويرفض القطيعة الأبستيمولوجية والمنهج العلمي والاضطرابات الاجتماعية التي آذنت بشكل أو بآخر بميلاد الحداثة، فزعمه ببساطة من باب الأوهام. يعلم الجميع أنه قد وقعت في أوروبا سلسلة من القطيعات أدت تدريجيا إلى التأكيد على قيم معينة أسست للحداثة السياسية والفكرية: العلمانية، وبعبارات أخرى الفصل بين المجالات الدينية والسياسية، حقوق الرجل والمرأة، والتفكير النقدي، والمنهج العلمي، و الاستقلال والحكم الذاتي للفرد، والحريات الشخصية والعامة، ودولة القانون، و تأسيس فضاء عام أو مساحة ديمقراطية للمداولات والنقاشات التعددية والدسترة الديمقراطية... ناهيك عن "روح من الثقة "، وهذه الحالة الذهنية قد قلبت تاريخيا وبقوة جميع المحرمات التقليدية وشجعت على ظهور المقاول أو المنظم الشومبتري
    (1)، وشجعت كذلك ديناميكيات الابتكار وتمثل الإبداع، وتعزيز المهارات الفردية، والحركية (الفكرية والمهنية والاجتماعية)، والمنافسة والمبادرة الحرة والعقلانية. إلا أنه والحالة هذه فإن ما يفعله كثير من الإسلاميين من تظاهر بتبني منتجات التكنولوجيا الحديثة، (وهل لهم غير ذلك؟) مع الرفض الصارم للعقلانية الناتجة عن التنوير، لا يمكن اعتباره إلا استسلاما لإغراء مزدوج: إما أنهم ينزلقون في بحر من التنافر أو، بعبارة أخرى، يقعون فيما يصفه ببراعة داريوش شايغان "الانفصام الثقافي"؟
    الحضارة الإسلامية والعلوم "الدنيوية"
    "ظهرت عقول موهوبة نابعة من هذه الحضارة الإسلامية ومارست البحث بحرية، وخصوصا في مجال التأمل الفلسفي، دون اعتماد على اللاهوت (أو الفقه). فقام هؤلاء بشرح أرسطو وأفلوطين وزينوفون وبارمنيدس أو أفلاطون "يتظاهر الإسلاميون بنسيان أنه في نطاق العالم الإسلامي المتسع الأرجاء، وعلى المستوى العقدي والفلسفي، لم يكن هناك أي اتفاق نهائي ومطلق بين العلماء والمفكرين حول العلاقة بين الروحي والزمني أو بين السياسة والدين، بل هناك مجموعة واسعة من الآراء والأحكام والتقييمات. وإلا فإننا لن نفهم لماذا كان للإسلام وعلى امتداد قرون عدة، حضارة عظيمة منحت مكانة بارزة للعلوم "الدنيوية" (الجبر والرياضيات وعلم الفلك، والطب، والصيدلة، والبصريات، والهندسة والتكنولوجيا، والزراعة، الخ..)، فضلا عن الفلسفة اليونانية القديمة، والعمارة، والفنون والموسيقى والأدب والشعر، الخ. ومصطلح "الإسلام" هنا غير مقيد بنظام فقهي-لاهوتي أو عقدي ديني (على هذا المستوى نفسه، هناك أيضا تنوع لا حصر له)، ولكن أعني بالمصطلح هذا الكون الحضاري والفكري والعلمي والأنثروبولوجي والاجتماعي والثقافي والمؤسسي والفني والجمالي الغني للغاية، والكثيف والمعقد. ويرجع الفضل جزئيا إلى هذا الإرث التنويري الإسلامي في جعل الجزء الغربي من القارة الأوروبية ينهض، ثم يسمو نحو الحداثة، وذلك بفضل إعادة العلاقة الفكرية الفلسفية مع العقل اليوناني. فقد ظهرت عقول موهوبة نابعة من هذه الحضارة الإسلامية ومارست البحث بحرية، وخصوصا في مجال التأمل الفلسفي، دون اعتماد على اللاهوت (أو الفقه). فقام هؤلاء بشرح أرسطو وأفلوطين وزينوفون وبارمنيدس أو أفلاطون كذلك. ومن بين هذه العقول الموهوبة : الفارابي (870-950)، وكذلك ابن سينا (توفي1037)، وابن رشد (1126-1198) إضافة إلى ابن ميمون (1135-1204). أما بالنسبة للمؤرخ المغاربي ابن خلدون (1332-1406)، فهو من بسَط منهجية تاريخية أو لنقل فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع أو علم الإنسان، منهجية لا علاقة لها على الإطلاق بالنبوة أو بشكل أعم لا تمت بصلة لاعتبارات سلطة العقيدة الدينية أو محتواها الجوهري؛ فالمعيار الوحيد للمعرفة العلمية للمجتمعات -حسب ابن خلدون- فيما عدا نقاش العلماء المبني على أسس، إنما يكمن في ملاحظة البيئة على أفضل وجه ممكن، وملاحظة السلوكيات، والعصبية بين الطوائف البشرية المدروسة، وملاحظة المجموعات المكونة للنخبة وطبيعة السلطة السياسية، والمعايير اللازمة لبقاء هذه السلطة، وقيام الملك وزواله وغير ذلك.
    وفي الحصيلة فإن هذه العقول لم تترد في المغامرة في مجالات التأمل الفلسفي، مما مهد الطريق لغيرهم من المفكرين الأوروبيين. ومن هنا تشكلت صدمة الوعي الغربية التي تجاوزت اللاهوت المسيحي غير المنتج سلفا لتلد عقولا كانت نبراسا من أمثال بيير آبلار (1079-1142)، وروجر بيكون (1214-1294)، وريمون لول (1235-1315)، ومارسيل دو بادو (1275-1343) وجون دزنس سكوت (1266-1308) وتوما الأكويني (1228-1274).

    وفي هذا المستوى على وجه الخصوص فقد بقي الإسلاميون المعاصرون في رأيي، دون مستوى حركة الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر. ومع ذلك أليس من المنطقي أكثر اعتماد القطيعة بدلا الاستمرارية بين هذين الاتجاهين؟ ويذكر أن من أبرز ممثلي الفكر الإصلاحي -مذهب هدفه إجراء تحول حداثي للثقافة، ولكن أيضا للتقدم الاجتماعي- وبعضهم (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومحمد إقبال وعلي عبد الرازق) يضع بوضوح مسألة إدماج فن التأويلية المعاصرة (l’herméneutique contemporaine) في قلب مطلب إعادة التفسير وإصلاح الإسلام، ويرغب هؤلاء علاوة على ذلك، وبقوة، في أن تعتمد الدول الإسلامية على الحداثة (وتكيفها) وذلك بإحياء تراث الماضي الغني -دون السعي إلى فرض نموذج سياسي معين. وأمّا مِن جانبهم فدعاة النهضة العربية ذهبوا إلى أبعد مدى في هذا الاتجاه. وفي هذا الصدد، ليس من قبيل المبالغة أن نذكر بشأن هذين الاتجاهين (الإصلاح الإسلامي و النهضة العربية) وجود فصل بين اللاهوتي والسياسي، ليس هذا هو الحال كما نعرف بالنسبة لغالبية الحركات الإسلامية في الماضي أو الحاضر.
    تحديات لابد من مواجهتها
    من الخطأ الفادح أن نخلط ما بين سياسات القادة الغربيين الظالمة (معظم الوقت) والحداثة الفكرية في تاريخ وحاضر الغرب. فعلى سبيل المثال (وحتى لا أُعقد الأمور أترُك هُنا جانبا الاتجاه الاشتراكي) فإن للفلسفة السياسية الليبرالية (ينبغي عدم الخلط بينها وبين الليبرالية الاقتصادية المتشددة الذي نادى به فردريش فون هايك وميلتون فريدمان وقد أظهرت الأزمة المالية الراهنة عدم جدوى هذه الليبرالية الاقتصادية المتشددة بل وخطورتها) ومنذ جون لوك ومونتسكيو وبنيامين كونستان وألكسيس توكيوفيللي تاريخا طويلا.
    يجب أن تقوم السلطة المشروعة والعادلة على أساس المصلحة العامة من جهة وعلى الفصل بين السلطات (في هذه الحالة استقلال السلطة القضائية)، وعلى الاحترام الصارم للحريات الفردية. وهذا يعني ضمنا، حرية الضمير، والتسامح الديني، والفصل بين المجالات. هذه الإنجازات، التي كان الفلاسفة العرب والمسلمين قد أثروها بلا شك، ذات طابع عالمي (بمعنى أنها تتجاوز الخاصيات الثقافية لهذا الشعب أو ذاك).
    على هذا المستوى أي مستوى النظر الفكري فإن مذاهب الإسلام السياسي -على حد علمي- ليست حريصة على تقديم جواب واضح ومقنع، وخاصة بالنسبة للإشكالية الهامة المتعلقة بالقبول التام بقيم التعددية والديمقراطية، وهذه الإشكالية في حد ذاتها مشروطة بالضرورة بوجود قطيعة بين اللاهوتي والسياسي. ومن دون الرد على هذا السؤال يبقى الإسلاميون وهم يسعون أن يظهروا بالمظهر الذي يريدون كمن يلعن ويعطي المواعظ ويصلح الأخطاء والأخطر من ذلك، يزعم أنه من أصحاب الطهارة والحقيقة... وهذا الموقف للأسف موقف متناقض مع أي تفاهم "حواري" قائم على الأخلاق واحترام الشأن العام، كما أنه متناقض بالكامل مع النبل وروح العمل السياسي! ولا أحسب أن كل شخص يمكنه أن يقبل ما يمليه عليه ضميره (أخلاق العقيدة)، ولكن لا ينبغي لأحد أن يسعى إلى فرض اليقينية الذاتية على "زملائه" (أخلاق المسؤولية).
    وهناك تفسير نهائي وممكن وهو أن الصعوبات الحالية التي يتعرض لها الإسلاميون ينبغي أن ننظر إليها بجدية: فهذه الأطراف تعاني على الأرجح من القلق العام الذي تسببه إيديولوجيتهم. ، فالطبقات الوسطى وعلى وجه الخصوص الأكثرُ ثقافة (ومنها النساء) تخاف من أي مساس بحرياتها الخاصة والعامة، والتي –مهما كانت ناقصة وهشة- فإنها موجودة فعلا، وحتى في أنظمة محدودة الديمقراطية: وخصوصا في المجال الجمعوي وتعددية الصحافة، والنقابات العمالية التي لا تترك فرص التعبير بحدة عن متطلباتها في كثير من الأحيان ودينامية المبدعين (الفنانون والسينمائيون ورجال المسرح والكتاب)، وغير ذلك. ويجب على القادة العرب الموافقة على خلق قوة دفع حقيقية لإرساء الديمقراطية والانفتاح فيما يتعلق بدمج الإسلاميين. إن الرهانات حاسمة: أولا وفي سبيل الحداثة التي لا غنى عنها لا بد من منح المواطنين كرامتهم والاعتراف بمواطنتهم وتكييف تقاليدهم المتنوعة في هدوء واعتراف كاملين؛ هذا فضلا عن وجود مصداقية في المحافل الدولية للدفاع عن التطلعات والمطالب العربية (وخاصة حق الفلسطينيين الشرعي والذي لا يقبل الطعن في إقامة دولة قابلة للحياة)... ومن ناحية أخرى على الإسلاميين البرهنة على فهمهم للسياسة باعتبارها فن الممكن، وأنها سيرورة مستمرة من التفاوض الديمقراطي كما أنها سعي متواصل لاتفاق مهما كان مؤقتا فإنه يحظى بالمقبولية عند الناس... وذلك من أجل تحقيق أفضل الظروف للعيش معا.
    _______________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري