مؤلف هذا الكتاب أستاذ اللسانيات واللغات الحديثة ومدير البرنامج العربي في جامعة سفك ببوسطن بالولايات المتحدة الأميركية. له 24 كتابًا ألفه أو ترجمه أو حرره، منها أربع مجموعات شعرية للراحل محمود درويش مترجمة إلى الإنجليزية، إضافة إلى تأليفه كتبا عديدة بالعربية عن الولايات المتحدة الأميركية، من منظور نقدي. في عام 1983 حصل على وسام أوروبا، قدمه له ماريو زكاري نائب رئيس البرلمان الأوروبي تقديرًا لجهوده في (حوار الحضارات)، بما يعني أنه شخصية علمية وفكرية تحظى باحترام عبر الحضارات، علمًا بأنه يعرف نفسه بأنه سوري المولد فلسطيني بالاختيار. هو أيضًا رئيس تحرير مجلة (جسور/ jusoor) الإنجليزية، ومؤسسها أيضًا، والتي يصدرها بالتعاون مع جامعة سيراكوس الأميركية.
صفحات المحتوى
عندما اقتنيت هذا الكتاب لقراءته، عنوانه دفعني للظن بأني سأقرأ بيانا دعائيا سياسيا، وهو، وبكل صراحة ما أخر اقتنائي له ودفعني، المرة تلو الأخرى، لتجنب المزيد من ارتفاع في ضغط الدم والإحباط، مع أني كنت أتابع كتابات الدكتور منير العكش باهتمام حقيقي، حيثما توفرت الفرصة.
لكنني اكتشفت بعدما عاينت الكتاب، للتأكد من منحاه العلمي، بأني كنتُ مخطئا. تقويمي لأي مؤلف، أرى أنه يتناول موضوعا يمكنني الادعاء بأني مطلع عليه، يبدأ بالعنوان حيث كثيرًا ما أتجنب اقتناء أي مؤلف محتواه ذو طابع يحمل الإثارة.
بعدها أقرأ صفحة المحتوى، والمقدمة وأقفز بعد ذلك إلى قراءة الاستنتاجات. فإن تبين لي توافر التناسق العلمي بين المكونات الثلاث، أبدأ بالقراءة، متجاهلاً العنوان (الإثاري) منطلقًا من تجربتي مع ناشر غيّر من عنوان مؤلف لي، خلافًا للعقد، ووضع بدلاً منه عنوانًا إثاريًا جر عليَّ غضب نقاد وزملاء، ونقمتهم، ظنًا منهم أني المسؤول عن ذلك.
هذا توضيح للقارئ غير المطلع على بعض خفايا النشر في عالمنا، ولا علاقة له بناشر الكتاب موضوع هذه القراءة، ولذا وجب التنويه.
كنت من قبل قرأت كتبا علمية تتعامل نقديًا مع تاريخ الولايات المتحدة الأميركية كتبها مفكرون أوروبيون وأميركيون وفي مقدمتهم المؤرخ الأميركي هَوَرَد زِن صاحب كتاب (التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأميركية/ A People's History of the United States) الذي رحل عنا أخيرًا، إضافة إلى كتاب مؤرخ تاريخ الكنيسة الأول عالميًا الألماني كارلهاينس دشنر صاحب كتاب (المولوخ – إله الشر. تاريخ نقدي للولايات المتحدة الأميركية) فقلت لنفسي: هل ثمة من جديد في تاريخ تلك البلاد/الدولة لم نقرأه بعد.
أكثر ما أثار دهشتي في المؤلف ودفعني لقراءته بتركيز إشارة الكاتب في المقدمة إلى معلومات رسمية عن اقتراح برنامج حكومي أميركي في وثيقة وضعها هنري كيسنغر عام 1974 لقطع دابر نسل 13 دولة بينها مصر العربية، ضمن فترة ربع قرن. وتأكيده أن هذه السياسة متبعة إلى الآن، في عهد الرئيس الأسود البشرة، وإن تحت مسميات محايدة ذات مضمون إنساني.
التخلص من النسل
موضوع الكتاب إذن هو التخلص من نسل أمم ترى المؤسسة التي تحكم الولايات المتحدة أنها تشكل عبئًا على برامجها. كنت سمعت عن هذه الوثيقة السرية عندما أفرج عنها، لكنني كنتُ منشغلاً وقتها في عالم آخر. ومعنى ذلك أيضًا أن محاربة الفقر والجهل تتم بالتخلص من الفقراء والمهمشين والمستضعفين.
المؤلف اختار الإشارة إلى هذه الوثيقة مدخلاً للخوض في تاريخ نشأة عقدة التفوق الأنغلوسكسوني على بقية مخلوقات الأرض، فتبين له، وعن حق، أن أصولها تكمن في التطرف الديني البروتستانتي، الذي يعد نفسه الاستثناء وخليفة الله على الأرض (ينقل المؤلف عن ممثلي هذا المنحى العنصري قناعتهم، بل إيمانهم بأن الولايات المتحدة يحدها شمالاً القطب الشمالي، والقطب الجنوبي جنوبًا، أما حدودها الشرقية فتبدأ بالإصحاح الأول من سفر التكوين، وحدودها الغربية يوم القيامة). أي إنها مملكة الرب على الأرض وهي وريثته في هذا العالم، ثقافيًا واقتصاديًا.
لا شك في أن أي إنسان عاقل سينظر إلى هكذا فكر بابتسامة على "هبل" أصحابه، لكن عندما يعلم المرء اتكاء هذه الأفكار والنظريات على مراجع عن الموضوع، كثيرة، أشار إليها الكاتب ضمن المؤلف وفي قائمة المراجع، لم يكتبها مجذوبون مصابون بجنون العظمة، وإنما علماء خريجو جامعات يشكلون مؤسسة قائمة بذاتها ترعاها إدارة المؤسسة الحاكمة في تلك البلاد وجامعات منها جامعتا واشنطن وجون هبكنز اللتان تبنيتا وثيقة هنري كيسنغر الموما إليها أعلاه، فلا بد من أن يصاب بالهلع، لا بل بالرعب، وهذه الصفة (كتاب رعب) التي أُطلقها على هذا الكتاب المهم فعلاً، لأنه يمس حياة كل منا في ديار العرب والإسلام أيضًا، لكنه يمس غيرنا من الشعوب أيضًا.
الرعب يتضاعف عندما نعلم مدى القوة العسكرية التي تملكها الإدارة الأميركية (هذا يذكرني بقول معلق سوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي: القدرات العسكرية (Fire Power) للولايات المتحدة لا تخيفنا. ما يخيفنا حقًا قدراتها العقلية (Brain Power).
التفوق العنصري
المؤلف عاد إلى جذور فكرة التفوق العنصري فعثر عليه في البدايات، في وهم التحدر من إسرائيل التوراة، وبالتالي وهم حق امتلاك الأرض وما عليها. فغزو أوروبا الغرب، عنى للأغلبية في ذلك الوقت، تماهٍ مع (خروج العبرانيين) إلى الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، كما تقول التوراة، وهذا ما يشرح تكرر ورود إطلاق المهاجرين الجدد أسماء مثل (فلسطين، إريحا، دمشق، لبنان. . . إلخ) على مستقراتهم الجديدة في "أميركا" التي قطنها وقت الغزو الأوروبي أكثر من مئة مليون هندري (الهنود الحمر) فأبادهم الغزاة القادمون من الشرق، وفق برامج وخطط، وليس بالصدفة، كما يثبت الكاتب، اعتمادًا على مؤلفات من شارك في أعمال الإبادة المروعة تلك، والتي شارك في بعضها أشخاص صاروا رؤساء على تلك الدولة المتشكلة حديثًا.
يلاحظ القارئ أن نصف صفحات المؤلف تحوي الهوامش وقائمة المراجع وكلها صادرة في الغرب، ما يمنح الكتاب صفة علمية بامتياز، مع أن المؤلف أنهاه بملحق محتواه سياسي تمامًا، ورغم أنه استخدم في بعض الأحيان أسلوبا أو تعبيرات تهكمية.
والمرء يعثر على جذور وَهَم تفوق العرق الأنغلوسكوني في أصل اسم إنجلترا (England)، الذي يعني، وفق قواميس الاشتقاق الإنجليزية (أرض الملائكة/ Angels' Land)، وثمة كتب كثيرة صدرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تؤكد [كذا!] تحدر الإنجليز من عبرانيي التوراة، تمامًا كما تؤكد وَهًم الدانماركيين بأنهم يتحدرون من سبط دان التوراتي الخرافي، ولذا وجب التوجه غربًا (لكن هذا عكس الفهم التقليدي لجغرافية الخروج التوراتي).
عقدة التفوق تعني، تطبيقيًا، حق التحكم بمصير الشعوب الأخرى والتخلص من أي معوق لذلك. هذه الأفكار العنصرية نشأت ليس حديثًا، وإنما نجدها في مؤلفات تدعي العلمية تعود للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومن المثير للاشمئزاز أيضًا النظريات التي تدعي العلمية بخصوص التكاثر السكاني وكيفية التغلب على الصعوبات الناتجة منه والمرافقة له، ذات منبع ديني ومنها نظرية مالتوس الذي يرى أن الحروب والأوبئة نعم إلهية لأنها تقضي على (فائض) السكان في العالم.
وهنا ترد نظريات (الداروينية الاجتماعية) = (البقاء للأفضل)، حيث صرحت مرغريت سانغر إحدى نجومها بالقول: أرحم ما تفعله الأسرة الكبيرة لواحد من أطفالها أن تقتله انطلاقًا من مبدأ (حق التضحية بالآخر).
وانطلاقًا من هذه الفرضيات اللاإنسانية، التطبيقية في السياسة، يرى المؤلف، ككثير من نقاد هذه الاتجاهات العنصرية المخيفة، أن هتلر، صاحب المحرقة، ما هو إلا تلميذ محرقة أميركا، حيث طبق ما قال به الآباء المؤسسون للفكر العنصري وتفوق نسل بشري على آخر (يوجيني/ Eugenics = علم تحسين النسل)، لكنه قرر في نهاية المطاف أن العنصر الآري يتفوق على غيره.
المؤلف، كما العديد من العلماء يتمسكون بصحة استخدام مصطلح المحرقة للإشارة إلى إبادة أكثر من مئة مليون هندري، رغم عنف معارضة الصهاينة المتمسكين بفرادية محرقة هتلر.
محرقة النازية
وهنا ينوه الكاتب إلى أن محرقة النازية قضت على (غير اليهود) أضعاف الستة ملايين يهودي المفترض أنهم قضوا فيها، حيث أبادت نحو عشرين مليون سلافي (شعوب الاتحاد السوفياتي سابقًا) عدا عن قتلها نحو نصف مليون سندي ورومة (الغجر)... إلخ.
ومن الأمور غير الطريفة إطلاقًا في مقام الحديث عن العنصر الآري الموجود في العقول المريضة فقط، ما يدعى عن لون بشرتهم الأبيض وزرق عيونهم وشقر شعورهم التي هي صفات الشعوب السلافية. العنصر الآري، إذا صح الكلام في هذا هم حمر الشعر، ذوو بشرة لونها يميل للحمرة مع كثير من النمش، ولون عيون داكن.
من الأمور المحزنة التي ينوه إليها المؤلف تورط بعض العاملين في المجال الفني في الترويج لأبطال وهميين كل ما عرف عنهم قتلهم آلاف الهنادرة بسلخ جلودهم وحرقهم. . . إلخ، ومنهم سدني بولاك مخرج فيلم (جرميا جُنسن) الذي عرف عنه أكل أكباد الهنادرة الذين قتلهم، مع أنه ينفي ذلك، علمًا بأن الممثل والمخرج الشهير رُبرت ردفرد أدى دور البطولة فيه.
الكتاب، رغم أنه مكثف إلى حد كبير، هو مدخل مهم لفهم كثير من منابع سياسات التفوق التي يمارسها الغرب، ليس تجاه الآخر فقط، وإنما تجاه الغير هم ضحايا نظام اقتصادي قائم على تحصيل الربح، أيًا كانت الوسائل، تمامًا كما بدأ هتلر بتطبيق النظريات العنصرية على الآخر، غير الآري، ثم انتقل، منطقيًا، إلى تمييز الآري الصالح من الآري الطالح.
ليت المؤلف يجد الوقت لإعادة كتابة مؤلفه هذا، بالتفاصيل المطلوبة، آخذين في الاعتبار عدم توافر هكذا مراجع مهمة في بلادنا وبلغتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري