الأحد، 21 أكتوبر 2012

الحجاب ( قصه للمنفلوطي )

قصه واقعيه
يحكيها الاديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي (رحمه الله)

قادتني الى مواقف كثيره وشدت فكري للعالم من حولنا الآن
....انقلها لكم كما قراتها.....

قال المنفلوطي (رحمه الله ):

الحجاب (قصه للمنفلوطي)
ذهب فلان إلى أوروبا وما ننكر من أمره شيئا، لبث فيها بضع سنين،
ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه منه شيء.

ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها، وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة.
وذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر،
وعاد بقلب ملفف مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها، والنقمة على السماء وخالقها.

وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس فوقها،
وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئا فوقها، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها.

وذهب برأس مملوءة حكما ورأيا،
وعاد برأس كرأس التمثال المثقب لا يملؤها إلا الهواء المتردد.

وذهب وما على وجه الأرض أحب إليه من دينه ووطنه،
وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما.

وكنت أرى أن هذه الصورة الغريبة التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان
العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغا،
لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق حتى تتصل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء،

وأن مكان المدنية الغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة؛ إذا انحرف عنها زال خياله منها.
فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق ولبسته على علاته وفاء بعهده السابق ورجاء لغده المنتظر،
محتملا في سبيل ذلك من حمقه ووساوسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره،
ما لا طاقة لمثلي باحتمال مثله،

حتى جاءني ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب، فكانت آخر عهدي به.

دخلت عليه فرأيته واجما مكتئبا فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء،
فسألته ما باله،
فقال: مازلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه،
ولا أدري مصير أمري فيه.
قلت وأي امرأة تريد؟.
قال: تلك التي يسميها الناس زوجتي، وأسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي.
قلت: إنك كثير الآمال يا سيدي فعن أي آمال تتحدث؟.
قال: ليس لي في الحياة إلا أمل واحد هو أن أغمض عيني ثم أفتحهما
فلا أرى برقعا على وجه امرأة في هذا البلد.
قلت: ذلك ما لا تملكه ولا رأي لك فيه.
قال: إن كثيرا من الناس يرون في الحجاب رأيي، ويتمنون في أمره ما أتمنى،
ولا يحول بينهم وبين نزعه عن وجه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال
يجالسنهم كما يجلس بعضهن إلى بعض إلا العجز والضعف والهيبة
التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد.
فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي القديم الذي وقف سدا دون سعادة الأمة وارتقائها دهرا طويلا،
وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها.

فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وأعظمته،
وخيل إليها أنني جئتها بإحدى النكبات العظام والرزايا الجسام،
وزعمت أنها إن برزت إلى الرجال فإنها لا تسطيع أن تبرز إلى النساء بعد ذلك حياء منهن وخجلا.

ولا خجل هناك ولا حياء: ولكنه الموت والجمود والذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد
أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن
حتى يأتيهن الموت فينتقلن من مقبرة الدنيا إلى مقبرة الآخرة،
فلابد لي أن أبلغ أمنيتي،
وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجا ينتهي بإحدى الحسنيين إما بكسره أو بشفائه.

فورد علي من حديثه ما ملأ نفسي هما وحزنا ونظرت إليه نظرة الراحم الراثي،
وقلت: أعالم أنت أيها الصديق ما تقول؟.
قال:نعم أقول الحقيقة التي أعتقدها وأدين نفسي بها، واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعا حيث وقعت.
قلت: هل تأذن لي أن أقول لك إنك عشت فترة طويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم،
فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوما من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء
مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم،
فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه؟.
قال: ربما وقع لي شيء من ذلك فماذا تريد؟.
قلت: أريد أن أقول لك إني أخاف على عرضك أن يلم به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك.
قال: إن المرأة الشريفة
تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها وعفتها في حصن حصين لا تمتد إليه المطامع.
فتداخلني ما لم أملك نفسي معه،
وقلت له: تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء،
والثلمة التي يعثر بها في زوايا رؤوسكم فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم؛
فالشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها،
فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم قلما نجدها.
والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافيا رائقا حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقع كدر.
والعفة لون من ألوان النفس لا جوهر من جواهرها، وقلما تثبت الألوان على أشعة الشمس المتساقطة.
قال: أتنكر وجود العفة بين الناس؟.
قلت: لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة بين البله الضعفاء والمتكلفين؛
ولكني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة
إذا سقط بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهما لصاحبه.
في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم؟
أفي جو المتعلمين، وفيهم من سئل مرة: لم لم تتزوج؟
فأجاب: نساء البلد جميعا نسائي! أم في جو الطلبة، وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه وأترابه حياء
وخجلا إن خلت محفظته يوما من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته،
أو أقفرت من رسائل الحب والغرام؟
أم في جو الرعاع والغوغاء، وكثير منهم يدخل البيت خادما ذليلا، ويخرج منه صهرا كريما؟
وبعد: فما هذا الولع بقصة المرأة، والتمطق بحديثها، والقيام والقعود بأمرها وأمر حجابها وسفورها،
وحريتها وأسرها، كأنما قد قمتم بكل واجب للأمة عليكم في أنفسكم، فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم؟! هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم، فإن عجزتم عن الرجال لأنتم عن النساء أعجز! أبواب الفخر أمامكم كثيرة، فاطرقوا أيها شئتم، ودعوا هذا الباب موصدا، فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلا عظيما وشقاء طويلا. أروني رجلا واحدا منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها؛ فأصدق أن امرأة تستطيع أن تملك هواها بين يدي رجل ترضاه! إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه، وتطلبون عندها ما لا تعرفونه عند أنفسكم، فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعدها أم تخسرونها، وما أحسبكم إلا خاسرين. ما شكت المرأة إليكم ظلما، ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها، فما دخولكم بينها وبين نفسها؟ وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟ إنها لا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم، ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيثما سارت وأينما حلت، حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلا إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها أهلها، فأوصدت من دونها بابها، وأسبلت أستارها؛ تبرما بكم وفرارا من فضولكم، فوا عجبا لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها! إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجا وسفورا، ويتدافق خلاعة واستهتارا، تودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك. لقد كنا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء فما زلتم به تثقبون في جوانبه كل يوم ثقبا والعفة تتسلل منه قطرة قطرة حتى تقبض وتكرش، ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة! عاشت المرأة حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها، راضية عن نفسها وعن عيشها، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها، أو وقفة تقفها بين يدي ربها، أو عطفة تعطفها على ولدها، أو جلسة تجلسها إلى جارتها تبثها ذات نفسها وتستبثها سريرة قلبها، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وأئتمارها بأمر زوجها، ونزولها عند رضاهما. وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام، فتحب زوجها لأنه زوجها، كما تحب ولدها لأنه ولدها، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب. فقلتم لها: إن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلا ولا أفضل رأيا، ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك، فازدرت أباها؛ وتمردت على زوجها وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرسا من الأعراس الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها، ولا يخبو أوارها. وقلتم لها: لابد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك؛ فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم. وقلتم لها: إن الحب أساس الزواج؛ فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج فعنيت به عنه. وقلتم لها: إن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها، وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق. فأصبحت تطلب في كل يوم زوجا جديدا يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم، فلا قديما استبقت ولا جديدا أفادت! وقلتم لها: لا بد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك. والقيام على شئون بيتك؛ فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها، والقيام على شئون بيتها! وقلتم لها: نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا، وشعورها شعورنا فرأت أن لابد لها أن تعرف مواقع أهوائكم، ومباهج أنظاركم لتتجمل لكم بما تحبون، فراجعت فهرس حياتكم صفحة صفحه فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات. والضاحكات اللاعبات والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن؛ فتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم، وتنزل عند محبتكم. ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضا، كما تعرض الأمة نفسها في سوق الرقيق فأعرضتم عنها ونبوتم بها. وقلتم لها: إنا لا نتزوج النساء العاهرات، كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جمعيا ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة ولقد أباها الخليع، وترفع عنها المحتشم، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت. وكذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعا وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها. فتعاجز الفريقان وأظلم الفضاء بينهما. وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالا مترهبين ونساء عانسات. ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون، وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها! نحن نعلم، كما تعلمون، أن المرأة في حاجة إلى العلم، فليهذبها أبوها أو أخوها، فالتهذيب أنفع لها من العلم، وإلى اختيار الزوج العادل الرحيم. فليحسن الآباء اختيار الأزواج لبناتهم وليجمل الأزواج عشرة نسائهم، وإلى النور والهواء تبرز إليهما وتتمتع فيهما بنعمة الحياة، فليأذن لها أولياؤها بذلك، وليرافقها رفيق منهم في غدواتها وروحاتها، كما يرافق الشاة راعيها خوفا عليها من الذئاب، فإن عجزنا عن أن نأخذ الآباء والإخوة والأزواج بذلك فلننفض أيدينا من الأمة جميعها نسائها ورجالها، فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها من الرجل على إصلاحها. أعجب ما أعجب له في شئونكم أنكم تعلمتم كل شيء إلا شيئا واحدا، هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموه قبل كل شيء، وهو أن لكل تربة نباتا ينبت فيها، ولكل نبات زمنا ينمو فيه. رأيتم العلماء في أروبا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها؛ فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء! ورأيتم الفلاسفة فيها ينشرون فلسفة الكفر بين شعوب ملحدة لها من عقولها وآدابها ما يغنيها بعض الغناء عن إيمانها؛ فاشتغلتم بنشرها بين أمة ضعيفة ساذجة لا يغنيها عن إيمانها شيء، إن كان هناك ما يغني عنه! ورأيتم الرجل الأوروبي حرا مطلقا، يفعل ما يشاء، ويعيش كما يريد؛ لأنه يستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخطاها، فأردتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلا ضعيف الإرادة والعزيمة يعيش من حياته الأدبية في رأس منحدر زلق؛ إن زلت به قدمه مرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك حتى يبلغ الهوة ويتردى في قرارتها. ورأيتم الزوج الأوربي الذي أطفأت غيرته وأزالت خشونة نفسه وحرشتها يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشاء، وتصاحب من تشاء، وتخلو بمن تشاء، فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتبلد، فأردتم الرجل الشرقي الغيور أن يقف موقفه، ويستمسك استمساكه. ورأيتم المرأة الأوربية الجريئة المتفتية في كثير من مواقفها مع الرجال تحتفظ بنفسها وكرامتها، فأردتم من المرأة الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها، وتحتفظ بنفسها احتفاظها! وكل نبات يزرع في أرض غير أرضه، أو في ساعة غير ساعته، إما أن تأباه الأرض فتلفظه، وإما أن ينشب فيها فيفسدها. إنا نضرع إليكم باسم الشرف الوطني والحرمة الدينية أن تتركوا تلك البقية الباقية من نساء الأمة مطمئنات في بيوتهن، ولا تزعجوهن بأحلامكم وآمالكم، كما أزعجتم من قبلهن. فكل جرح من جروح الأمة له دواء إلا جرح الشرف. فإن أبيتم إلا أن تفعلوا فانتظروا بأنفسكم قليلا ريثما تنتزع الأيام من صدوركم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم الجديدة سعداء آمنين. فما زاد الفتى على أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية، وقال: تلك حماقات ما جئنا إلا لمعالجتها؛ فلنصطبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها. فقلت له: لك أمرك في نفسك وفي أهلك فأصنع بهما ما تشاء، وائذن لي أن أقول لك: إني لا أستطيع أن اختلف إلى بيتك بعد اليوم إبقاء عليك وعلى نفسي؛ لأني أعلم أن الساعة التي ينفرج لي فيها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك تقتلني حياء وخجلا؛ ثم انصرفت. وكان هذا فراق ما بيني وبينه. وما هي إلا أيام قلائل، حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلانا هتك الستر في منزله بين نسائه ورجاله. وأن بيته أصبح مغشيا لا تزال النعال خافقة ببابه، فذرفت عيني دمعة، لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المذال، أو الحزن على الصديق المفقود؟ مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا ازوره فيها، ولا يزورني، ولا ألقاه في طريقه إلا قليلا فأحييه تحية الغريب للغريب من حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر، ثم انطلق في سبيلي. فإني لعائد إلى منزلي ليلة أمس، وقد مضى الشطر الأول من الليل، إذ رأيته خارجا من منزله يمشي مشية الذاهل الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة، كأنما هو يحرسه أو يقتاده، فأهمني أمره، ودنوت منه، فسألته عن شأنه، فقال: لا علم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة، ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سببا، وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب، فهل أستطيع أن أرجوك يا صديقي بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي هذا علني احتاج إلى بعض المعونة فيما قد يعرض لي هناك من الشئون؟ قلت: لا أحب إلي من ذلك. ومشيت معه صامتا لا أحدثه، ولا يقول لي شيئا، ثم شعرت كأنه يزور في نفسه كلاما يريد أن يفضي به إلي، فيمنعه الخجل والحياء، ففاتحته الحديث وقلت له: ألا تستطيع أن تتذكر لهذه الدعوة سببا؟. فنظر إلي نظرة حائرة، وقال: إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث، فقد رابني من أمرها أنها لم تعد إلى المنزل حتى الساعة، وما كان ذلك شأنها من قبل. قلت: أما كان يصحبها أحد؟. قال: لا. قلت: ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه؟. قال: لا. قلت: ومم تخاف عليها؟. قال: لا أخاف شيئا سوى أني أعلم أنها امرأة غيور حمقاء، فلعل بعض الناس حاول العبث بها في طريقها، فشرست عليه، فوقعت بينهما واقعة انتهى أمرها إلى مخفر الشرطة. وكنا قد وصلنا إلى المخفر، فأقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور، فوقفنا بين يديه فأشار إلى جندي أمامه إشارة لم نفهمها، ثم استدنى الفتى إليه وقال له: يسوءني أن أقول لك يا سيدي إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة برجل وامرأة، في حال غير صالحة: فاقتادوهما إلى المخفر فزعمت المرأة أن لها بك صلة، فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها. فإن كانت صادقة أذنا لها بالانصراف معك إكراما لك وإبقاء على شرفك، وإلا فهي امرأة عاهرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات، وها هما وراءك فأنظرهما. وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى، فالتفت وراءه فإذا المرأة زوجته وإذا الرجل أحد أصدقائه، فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت نوافذه وأبوابه عيونا وآذانا، ثم سقط في مكانه مغشيا عليه. فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ففعل وأطلق سبيل صاحبها، ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله ودعونا له الطبيب فقرر أنه مصاب بحمى دماغية شديدة، ولبث ساهرا بجانبه بقية الليل يعالجه حتى دنا الصبح، فانصـرف على أن يعـود متى دعوناه، وعهد إلي بأمره فلبثت بجانبه أرثي لحاله وأنتظر قضاء الله فيه، حتى رأيته يتحرك في مضجعه، ثم فتح عينيه فرآني، فلبث شاخصا إلي هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئا فلا يستطيعه، فدنوت منه وقلت له: هل من حاجة يا سيدي؟. فأجاب بصوت ضعيف خافت: حاجتي أن لا يدخل علي من الناس أحد. قلت: لن يدخل عليك إلا من تريد. فأطرق هنيهة، ثم رفع رأسه فإذا عيناه مخضلتان بالدموع، فقلت: ما بكاؤك يا سيدي؟. قال: أتعلم أين زوجتي الآن؟. قلت: وماذا تريد منها؟. قال: لاشيء سوى أن أقول لها إني قد عفوت عنها. قلت: إنها في بيت أبيها. قال: وا رحمتاه لها ولأبيها ولجميع قومها، فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء أمجادا، فألبستهم مذ عرفوني ثوبا من العار لا تبلوه الأيام. من لي بمن يبلغهم عني جميعا أنني مريض مشرف، وأنني أخشى لقاء الله إن لقيته بدمائهم، وأنني أضرع إليهم أن يصفحوا عني ويغتفروا زلتي، قبل أن يسبق إلي أجلي؟ لقد كنت أقسمت لأبيها يوم اهتديتها أن أصون عرضها صيانتي لحياتي، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي، فحنثت في يميني، فهل يغفر لي ذنبي فيغفر لي الله بغفرانه. نعم إنها قتلتني ولكنني أنا الذي وضعت في يدها الخنجر الذي أغمدته في صدري فلا يسألها أحد عن ذنبي. البيت بيتي، والزوج٬ زوجتي، والصديق صديقي، وأنا الذي فتحت باب بيتي لصديقي إلى زوجتي، فلم يذنب إلي أحد سواي. ثم أمسك عن الكلام هنيهة، فنظرت إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئا فشيئا، حتى لبست وجهه، فزفر زفرة خلت أنها خرقت حجاب قلبه، ثم أنشأ يقول: آه ما أشد الظلام أمام عيني! وما أضيق الدنيا في وجهي! في هذه الغرفة، على هذا المقعد، وتحت هذا السقف كنت أراهما جالسين يتحدثان فتملأ نفسي غبطة وسرورا، وأحمد الله على أن رزقني بصديق وفي يؤنس زوجتي في وحدتها، وزوجة سمحة كريمة تكرم صديقي في غيبتي، فقولوا للناس جميعا: إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته ويزعم أنه أكيس الناس وأحزمهم، قد أصبح يعترف اليوم أنه أبله إلى الغاية من البلاهة، وغبي إلى الغاية التي لا غاية وراءها. وا لهفا على أم لم تلدني وأب عاقر لا نصيب له في البنين. لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت أجهل، ولعلهم كانوا إذا مررت بهم يتناظرون ويتغامزون ويبتسم بعضهم إلى بعض، أو يحدقون إلي ويطيلون النظر في وجهي؛ ليروا كيف تتمثل البلاهة في وجوه البله، والغباوة في وجوه الأغبياء! ولعل الذين كانوا يتوددون إلي ويتمسحون بي من أصدقائي إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا من أجلي، ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم قوادا ويسمون زوجتي مومسا وبيتي ماخورا، وأنا عند نفسي أشرف الناس وأنبلهم! فوا رحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ساعة واحدة، ووا لهفا على زاوية منفردة في قبر موحش يطويني ويطوي عاري معي. ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه. وهنا دخلت الحجرة مرضع ولده تحمله على يدها حتى وضعته بجانب فراشه ثم تركته وانصرفت، فما زال الطفل يدب على أطرافه حتى علا صدر أبيه، فأحس به ففتح عينيه، فرآه فابتسم لمرآه وضمه إلى صدره ضمة الرفق والحنان وأدنى فمه من وجهه ليقبله، ثم انتفض فجأة واستسر بشره، ودفعه عنه بيده دفعة شديدة وأخذ يصيح: أبعدوه عني لا أعرفه، ليس لي أولاد ولا نساء، سلوا أمه عن أبيه من هو وأذهبوا به إليه! لا ألبس العار في حياتي وأتركه أثرأ خالدا ورائي بعد مماتي. وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت إليه وحملته وذهبت به، فسمع صوته وهو يبتعد عنه شيئا فشيئا فأنصت إليه واستعبر باكيا، وصاح: أرجعوه إلي فعادت به المرضع فتناوله من يدها وأنشأ يقلب نظره في وجهه ويقول: في سبيل الله يا بني ما خلف لك أبوك من اليتم، وما خلفت لك أمك من العار فأغفر لهما ذنبهما إليك؛ فلقد كانت أمك امرأة ضعيفة فعجزت عن احتمال صدمة القضاء فسقطت، وكان أبوك أحسن في جريمته التي اجترمها، فأساء من حيث أراد الإحسان! سواء أكنت ولدي يا بني أم ولد الجريمة فإني قد سعدت بك حقبة من الدهر فلا أنسى يدك عندي حيا أو ميتا!. ثم احتضنه إليه، وقبله في جبينه قبلة لا أعلم هل هي قبلة الأب الرحيم أو المحسن الكريم؟ وكان قد بلغ منه الجهد فعاودته الحمى وغلت نارها في رأسه، وما زال يثقل شيئا فشيئا حتى خفت عليه التلف، فأرسلت وراء الطبيب فجاء وألقى عليه نظرة طويلة ثم استردها مملوءة يأسا وحزنا. ثم بدأ ينزع نزعا شديدا ويئن أنينا مؤلما، فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلا ارفضت عن كل ما تستطيع أن تجود به من مدامعها. فإنا لجلوس حوله قد بدأ الموت يسبل أستاره السوداء على سريره إذا امرأة مؤتزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة، وتقدمت نحوه ببطء حتى ركعت بجانبه، ثم اكبت على يده الموضوعة فوق صدره فقبلتها، وأخذت تقول له: لا تخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك، فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب إلى ربك، أنها وإن كانت قد دنت من الجريمة لكنها لم ترتكبها، فأعف عني يا والد ولدي وأسأل الله عندما تقف بين يديه أن يلحقني بك فلا خير لي في الحياة من بعدك. ثم انفجرت باكية.. ففتح عينيه، وألقى على وجهها نظرة باسمة، كانت هي آخر عهده بالحياة وقضى. الآن عدت من المقبرة بعد ما دفنت صديقي بيدي وأودعت حفرة القبر ذلك الشباب الناضر، والروض الزاهر، وجلست لكتابة هذه السطور وأنا لا أكاد أملك مدامعي وزفراتي، فلا يهون وجدي عليه، إلا أن الأمة كانت على باب خطر عظيم من أخطارها فتقدم هو أمامها إلى ذلك الخطر وحده، فاقتحمه، فماتشهيدا(ليست صحيحه للاستدلال بها هنا) فنجت بهلاكه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري