تحضر القدس في المشهد الإعلامي العربي محملة بلغة سياسية تجعلها في كثير من الأحيان مجرد مادة لنشرة إخبارية تطول أو تقصر حسب الأحداث، في حين تحضر في المشهد الثقافي الفلسطيني محملة بالحنين، فهي من جهة صورة تحريضية للحفاظ على ما تبقى من قداستها، ومخزن للمشاعر من جهة أخرى.
وكان الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا قد كتب عن بئر أسراره الأولى هناك، كما مر إدوارد سعيد على أطياف مدينة علقت بذاكرته أكثر من أي مدينة أخرى، وأطلق درويش صرخته لمجندة إسرائيلية هناك "قتلتني لكنني مثلك نسيت أن أموت"، بيد أن المخرج الفلسطيني الشاب أحمد الضامن يبحث اليوم في علاقة الحجر بساكنيه بوصفها موضوعا لفيلمه "الحجر الأحمر".
ويعبر الضامن عن حساسية جيل يحفظ ذاكرة السالفين تماما، مطالعا صورتها عبر منازلها الأولى. وفي لفتة بارعة يختار عنوان فيلمه "الحجر الأحمر" محيلا المدينة المقدسة إلى صورة أخرى ترتبط بشقيقتها مكة المكرمة وحجرها الأسود.
البيوت وساكنوها
يفارق الضامن الموضوعة الدينية في الحديث الدائم عن القدس، ويذهب بعيدا بحاراتها وشوارعها متعمقا في جانبها الإنساني، إذ ينصهر البيت المقدسي مع المسجد والكنيسة المهددين.
ويذكّر الأرشيف الذي يوظفه الضامن بنكبة ونكسة ضاعت معها المدينة أو تكاد، ومعها الموسيقى بطلا لفيلم المخرج الذي عرف تأليفها وعزفها منذ كان في الثانية عشرة من عمره.
وفي أحد المشاهد، يتحدث جابي برامكي -الذي توفي أثناء إعداد الفيلم- عن بيته الحميم الذي غادره ولم يعد إليه، لكنه يحفظ تفاصيله غرفة غرفة، ويصف جيدا درابزينه الطويل.
لم يقيض لبرامكي أن يرى بيته الذي غالب دمعه مرارا وهو يحكي عنه، بل لم تتسن له مشاهدة الفيلم، كما تحدث طويلا عن أبيه -باني البيت- الذي مات بحسرته أيضا بعد مصادرة بيته مع كل ما يضمه من ذكريات بنائه.
وفي الفيلم المحمل بتراجيدية عالية، يلعب الضامن في موسيقاه التصويرية بين أوركسترا لحنية عالية وعزف منفرد للعود، محيلا حكي الشهود ومعها صور البيوت ذات الحجر الأحمر إلى مأساة تنتمي للكلاسيكيات العظيمة.
قصص العودة
ويروي منير فاشة، وسط خلفية موسيقية تحمل حديثه بكثير من الشجن، قصة أمه الخياطة وخالاته وهن يبنين من ليالي السهر الطويل في عشرينيات القرن الماضي بيتا يدهش ويؤوي عائلة حميمة، مارا بشغبه على درابزين البيت، وسكة الحديد القريبة.
يغادر منير ابتسامته ويحكي عن قصة الخياطة -وهي أمه- التي عادت مرارا لترى المنزل بعد أن أصبح مأوى المحتلين، لكن بكاءها الطويل في الطريق إليه يمنعها كل مرة إلى أن ماتت بحسرتها ولم تر البيت.
ويعاود الابن زيارة البيت، وفي كل مرة تطرده ساكنته الإسرائيلية حتى أصبح كابوسا يهددها، فهي السارقة وهو صاحب البيت الذي طُرد منه قسرا.
وكانت إسرائيل قد صادرت العشرات من بيوت الفلسطينيين إما قسرا وإما تحت طائلة قانون "أملاك الغائبين" الذي وضعته للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين الذين خسروا حق الإقامة في وطنهم، وخصوصاً في مدينة القدس.
ويُعتبر كل من نفي أو هرب أو رحل خلال الحرب أو بعدها غائبا، وبالتالي يخسر إقامته المؤقتة بالقدس، وحينها يكون من حق إسرائيل بموجب القانون الاستيلاء على أملاكه، حيث تعمل عادةً على تحويلها لجمعيات استيطانية، مثل جمعية العاد الاستيطانية التي استولت على أراض وبيوت كثيرة بدعوى أنها حارس أملاك غائبين.
وفي أقل من ساعة، يستعيد الضامن في الفيلم، الذي يأتي ضمن سلسلة "فلسطين تحت المجهر" ومن إنتاج الجزيرة، ذاكرة البيوت وساكنيها، وكأنهم غادروها أمس، ملقيا الضوء على جريمة المحتل التي تتواصل فصولها بمصادرة المدينة المقدسة وتهويدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري