أفهم أن تختلف النخب المصرية في الإجابة عن السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ ولكن حين يحدث ذلك مع بعض المسؤولين الكبار في الدولة فمعناه أننا تائهون.
(1)
ذلك حدث معي على الأقل، حيث تحدثت مع عدد منهم -أحتفظ بأسمائهم- فلاحظت أن كل واحد منهم مستغرق في تفاصيل الموقع الذي يشغله، لكنه ليس على ثقة من وجهة السفينة التي هو جزء منها. الأمر الذي أعطاني انطباعا بأن الخرائط الكلية لم تتبلور بعد، وأن الرؤية الإستراتيجية للحكومة لا تزال تحت التشكيل. وهو أمر لا يفاجئنا حين يكون الرئيس قد تسلم مهامه منذ ثلاثة أشهر فقط، وحين يكون عمر الحكومة كلها لا يتجاوز شهرين، إلا أنه يقلقنا ويصدمنا إذا استمر لوقت أطول.
لقد قيل لي إن رئيس الجمهورية ينام ثلاث ساعات فقط في اليوم، وإنه عاد من رحلته الآسيوية إلى القاهرة في الساعة الخامسة مساء، ثم استدعى مساعديه إلى مكتبه في الساعة السابعة. علمت أيضا أن رئيس الوزراء يعقد في المتوسط عشرة اجتماعات في اليوم، وأنه يذهب إلى مكتبه من الثامنة أو التاسعة صباحا، في حين يبدأ اتصالاته الهاتفية من بيته بعد طلوع الشمس نحو السادسة صباحا. وبسبب غرق كل منهما في المهام الموكولة إليه، فهمت من المساعدين لهما أن كلا منهما لا يحسب رحلاته إلى الخارج بالأيام ولكن بالساعات، وقد استغرقت رحلة الرئيس مرسي إلى طهران سبع ساعات، في حين أن رحلته الأخيرة إلى أنقرة طالت بعض الشيء حتى استغرقت 12 ساعة.
ربما يعتبر البعض ذلك من قبيل التفاني في أداء العمل والإخلاص الزائد في تحمل المسؤولية، وهو ما أحسبه كذلك ولا أشك في أنه يتم بنية صادقة وصافية، لكن ذلك لا ينفي أنه يعد من علامات قلة الخبرة بالإدارة أو سوئها. وكان تعليقي على ما سمعت من معلومات عن الجهد الكبير الذي يبذله الدكتور مرسي ورئيس وزرائه الدكتور هشام قنديل، أنه ربما كان من المفيد والجيد أن يظل المرء يركض طول الوقت، ولكن الأهم أن يترتب على الركض تقدم إلى الأمام.
(2)
في الأسبوع الماضي فاجأنا وزير المالية ببيان غير مألوف لأنه لم يجاملنا فيه، قال الرجل إن ثمة عجزا في موازنة السنة المالية 2011-2012 يبلغ 170 مليار جنيه، في حين أنه كان مقدرا ألا يزيد العجز على 134 مليار جنيه. وذلك معناه أن هناك نحو 36 مليار جنيه زيادة في العجز لم تكن في الحسبان.
وأحد الأسباب الرئيسية لذلك العجز مصدرها زيادة الأجور التي تمت تحت ضغط مطالبات الفئات المختلفة. فقد تبين أن بند الأجور وصل إلى 122 مليار جنيه في حين كان المستهدف 110 مليارات فقط، وهو ما يعني أن الاستجابات التي تمت حمَّلت الميزانية عبئا قدره 12 مليار جنيه.
هناك أيضا أسباب للعجز تمثلت في انخفاض الموارد العامة للدولة خصوصا الموارد الضريبية نتيجة توقف النشاط الاستثماري والإضرابات والاعتصامات العمالية، الأمر الذي أدى إلى تراجع إيرادات الدولة. عن السنة المالية الحالية (2012-2013) قال الدكتور ممتاز السعيد إن مصروفاتها تقدر بمبلغ 533 مليار جنيه، في حين أن الإيرادات في حدود 392 مليار جنيه. وهو ما يعني أن موارد الدولة لا تغطي سوى 74٪ من مصروفاتها، ويعني أيضا أن مصروفات الدولة في السنة المالية الحالية التي تمثل 135 مليار جنيه، لا توجد لها إيرادات تغطيها. الأمر الذي تضطر معه الدولة للجوء إلى الاقتراض، الذي يترتب عليه زيادة الدين العام.
لم تكن صراحة البيان هي الملاحظة الوحيدة عليه، ولكن عدم الاهتمام الإعلامي به، إلى حد تجاهله من جانب بعض الصحف، كان ملاحظة أخرى مثيرة للدهشة. وفي كل الأحوال فإنه يحسب له أنه واجه الرأي العام بجرأة مطلوبة لوضع الناس في الصورة كما يقال. صحيح أن بعض الوزراء -منهم وزير التعليم مثلا- أعلن للمطالبين بزيادة أجورهم أنه لا توجد لديه فلوس تمكنه من أن يلبي ما يطلبونه، إلا أننا لا نزال نفتقد الشفافية والمصارحة في مخاطبة المجتمع، الأمر الذي يبدو معه ذلك الخطاب الذي مررنا به استثناء لا يحتمل التعميم.
وإذ تقدر مبادرة وزير المالية إلى مصارحة الرأي العام بحقائق الوضع الاقتصادي إلا أننا لا بد أن نلاحظ أنه وضعنا في صورة المشكلة ولم يتطرق إلى الحل. وهو يعذر في ذلك لأن مفتاح الحل ليس بيده، ولكنه يكمن في جوهر سياسة الحكومة ورؤيتها الإستراتيجية للتعامل مع الوضع الاقتصادي في مجمله.
(3)
أمضيت الأسبوعين الأخيرين في حوارات مع بعض الخبراء حول معالم الرؤية الإستراتيجية التي ينبغي الانطلاق منها للتعامل مع الأزمة الراهنة في مصر، ولم يكن هناك اختلاف في الرأي حول ضرورة اتباع سياسة المصارحة التي تجعل الرأي العام ونخبه المختلفة على إدراك كاف بحقائق الأوضاع الداخلية أولا بأول، ليس فقط التزاما بحق الناس في المعرفة ولكن أيضا لإشراك الجميع في المسؤولية إزاء ما يجري.
الرؤية التي توافقنا عليها خلصت إلى مطلبين ضروريين في المرحلة الراهنة هما: إعلان برنامج للإنقاذ الاقتصادي يراعي التقشف الذي تبدأ فيه الحكومة بنفسها, وإطلاق طاقات الشعب المصري واستدعاؤه لكي يقف في الصف الأول لجبهة مواجهة الأزمة.
- فيما خص الإنقاذ الاقتصادي تثار العناوين التالية على سبيل المثال:
* تخفيض وترشيد الإنفاق الحكومي والحد من صور الإسراف، التي منها الحد من سفر الوفود الرسمية التي تؤدي مهام تستطيع السفارات أن تنجزها.
*إعادة النظر في المكاتب الفنية الملحقة بالسفارات والتي قيل لي إن ما يصرف عليها يعادل ميزانية وزارة الخارجية كلها.
*إعادة النظر في أوجه الإنفاق التي تذهب إليها حصيلة الصناديق الخاصة، وقدرت بمبلغ 36 مليار جنيه.
*النظر في استثمار 53 قصرا رئاسيا و400 سيارة مرسيدس مخزنة في الرئاسة ويتم تجديدها بين حين وآخر.
*الجدية والحزم في تطبيق الحد الأقصى للدخول الذي لا تزال الحكومة تتراخى في تنفيذه وعاجزة عن وضع يدها على الخريطة الحقيقية له على أرض الواقع، نظرا لتلاعب كبار المسؤولين ومراوغتهم (أحد الأكاديميين تبين أنه يتقاضى دخلا شهريا قيمته مليون في حين ذكر في الأوراق الرسمية أن دخله 63 ألف جنيه فقط).
*إعادة النظر في أوضاع الثروة العقارية بعدما تبين أن مساحات هائلة من الأراضي تلحق إما بالقوات المسلحة أو بوزارة الداخلية، وتستثمرها تلك الجهات لصالحها مقابل مبالغ تافهة، وأحيانا بوضع اليد وقوة السلاح.
* ترشيد استهلاك المياه والطاقة الكهربائية، بعدما تبين أن 25٪ من حصة مصر في المياه تهدر سنويا ولا تستفيد منها الزراعة المصرية، في حين أن بعض الأماكن في أشد الحاجة إليها.
* التعامل بشجاعة ومسؤولية مع ملفات الإنتاج الصناعي والزراعي وقطاع التشييد، وكلها ملفات حافلة بالمشكلات والعقد، التي لم يتم التعامل معها بشكل جاد إلى الآن.
* ترشيد الدعم مع استمرار حماية الطبقات الفقيرة، بحيث يتحمل القادرون الأسعار الحقيقية للسلع، بعدما تبين مثلا أن بعض أصحاب المصانع يحصلون على الطاقة بالأسعار المدعومة، في حين يبيعون منتجاتهم للناس بالأسعار العالمية.
* النظر في أمر الأخذ بنظام الضرائب التصاعدية، بحيث يدفع كل مواطن الضرائب التي تتناسب مع دخله الحقيقي.
- المجال الآخر المتعلق بإنقاذ الاقتصاد المصري المتمثل في إطلاق طاقات المجتمع والإفادة من خبرات أهله وخيرات أرضه فيه كلام كثير، لأن من حدثتهم في الأمر انتقدوا بشدة تركيز خطاب السياسيين والمسؤولين على فكرة الاعتماد على الخارج في هذا الصدد، سواء تمثل ذلك في المسارعة إلى الاقتراض من المؤسسات الدولية، أو في الحديث المستمر عن جذب المستثمرين الذين يصورونهم بحسبانهم المخلِّصين وطوق النجاة الذي لا غنى عنه، وهو منطق وصفه بعضهم بأنه تعبير عن الكسل العقلي ووصفه آخرون بأنه تعبير عن عدم الثقة في النفس.
إن لدينا في مصر خبرات مهدرة ومراكز للبحوث منسية ومهملة، ومشروعات للتنمية الذاتية تحارب بشراسة من قبل جبهة الاستيراد والاتكال على الخارج، كما أن لدينا ثروات غير مستغلة في مجالات الطاقة الشمسية ورمال سيناء والساحل الشمالي والسياحة بشكل عام.
إن ما ذكرته مجرد أمثلة، ولا أشك أن لدينا عقولا قادرة على أن تثري ذلك الباب، وتسهم بشكل كبير في تحقيق الإنقاذ المطلوب، الأمر الذي يدعوني إلى طرح السؤال التالي: لماذا لا تدعى العقول المصرية المعنية بالموضوع إلى مؤتمر يمثل فيه الجميع، وتطرح فيه قضية الإنقاذ هذه على بساط البحث، بدلا من أن يتولى الأمر نفر محدود من المسؤولين أو الأشباح الذين نسمع عنهم ولا نراهم.
(4)
لا أستطيع أن أنهي قبل أن أشير إلى تجربتين للإنقاذ الاقتصادي في كل من ماليزيا والبرازيل، تمنيت أن يخضعا للدراسة من جانب أولي الأمر في النظام المصري، الذين ما برحوا يمدون أبصارهم خارج الحدود.
في نهاية عام 1997 ضربت الأزمة اقتصاد نمور آسيا، الذي كان يعد نموذجا للتعافي والنمو، فانهارت العملات المحلية وتدهورت البورصات وتفاقمت البطالة وتراجعت الصناعة.. إلخ. وكانت ماليزيا من ضحايا ذلك الإعصار، فسارع صندوق النقد إلى عرض مساعداته بطريقته التي أعطت الأولوية لحرية السوق بتداعياتها التقليدية. كان مهاتير محمد رئيسا للوزراء آنذاك، فقرر رفض وصفة الصندوق، وبدلا من ذلك شكل مجلسا قوميا للإنقاذ الاقتصادي ضم رئيس الوزراء ونائبه مع النقابات والمجتمع المدني جنبا إلى جنب مع رجال البنوك والمستثمرين وممثلي الشركات.
أدار المجلس سياسة ماليزيا الاقتصادية طوال عامين، ظل خلالهما يعمل تحت رئاسة الدكتور مهاتير خمسة أيام كل أسبوع، بمعدل ثلاث ساعات كل يوم. واتخذ مجموعة من الإجراءات منها تثبيت العملة في مواجهة الدولار وتقييد خروج رأس المال، وساعد على هيكلة ديون الشركات الخاسرة... إلخ. وفي عام ٢٠٠٠ تعافي الاقتصاد الماليزي واستعاد حيويته، بعدما ضرب عرض الحائط بنصائح صندوق النقد.
البرازيل كانت أسوأ حالا، بعدما خضعت طويلا لقهر الاستبداد وعفونة الفساد، وجاء رئيسها لويس أناسيو لولا في عام 2009، رافعا شعار "البرازيل القوة العالمية الخامسة"، ومعلنا أن بلاده تملك طاقات كامنة قادرة على دفع تمكينها من ارتقاء أعلى درجات النمو، ذكّر الرجل جماهير شعبه بما تملكه بلاده من ثروات طبيعية من النفط والغاز والمياه واليورانيوم.
وكان بعض من سبقوه قد بذلوا جهدا ملموسا في توفير قوة عاملة متعلمة، تنامت في ظل التدابير التي أرست دعائم الاستقرار في الاقتصاد البرازيلي، وتضافرت تلك الجهود التي استثمرت طاقات البلد وقدرات البشر لكي تدفع بالبرازيل إلى مصاف الدول المتقدمة والواعدة. وكانت إرادة القيادة وثقتها في قدرة المجتمع على النجاح من العوامل التي أسهمت في تحقيق النهوض المنشود.
أخيرا إذا كنت قد لاحظت أنني تحدثت عن بعض جوانب الرؤية الإستراتيجية إزاء الأوضاع الداخلية، ولم أتحدث عن السياسة الخارجية رغم أهمية الملف بالنسبة لمصر، فتفسيري لذلك أن السياسة الداخلية هي الأساس في أي سياسة خارجية، والتي أرجو أن يكون لها حديث آخر في وقت لاحق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري