|
-الكتاب: أغلبية مسلمة في بروكسل عام 2030 -جمع وتقديم: شمسي شريف خان -عدد الصفحات: 256 -الناشر: جمعية الفكر والناس, بلجيكا -الطبعة: الأولى نوفمبر2011 |
البلجيكيون هم الأكثر خوفا ورعبا، إذ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 عقدوا مؤتمرا دعوا إليه السياسيين والإعلاميين والخبراء الديمغرافيين والاجتماعيين ورجال الدين، ليتدارسوا فيما بينهم كيف يواجهون المستقبل المنبئ بانقلاب في الوضع يصير فيه المسلمون هم الأغلبية في بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي وأرض الكاثوليكية التاريخية، وحيث يترأس الحكومة الائتلافية سياسي لا يخفي "مثليته" الجنسية.
ومن مفارقات التاريخ أن بروكسل ليست عاصمة لبلجيكا فقط، ولكنها عاصمة الاتحاد الأوروبي، وعلى مقربة من مقر الاتحاد الأوروبي حيث وضع فنان النحت جيف لامبو مجسدا ضخما للأجساد العارية للذكور والإناث وسماها "النزوات البشرية" يوجد المسجد الأعظم الذي دعمته المملكة العربية السعودية.
وجمعت أشغال المؤتمر في كتاب جامع صدر نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 ضمن سلسلة منشورات الجمعية للسنة 55 (العدد 84) بعنوان "أغلبية مسلمة في بروكسل عام 2030: كيف نستعد للعيش المشترك" وتولت تنظيم المؤتمر وطبع الكتاب جمعية علمانية اسمها "الفكر والناس" تأسست عام 1954، بتعاون مع الجامعة الحرة ببروكسل وصحيفتي "لوفيف" و"ليبر بيلجيك". وأشرف على العمل كله شمسي شريف خان عضو المكتب التنفيذي للجمعية وجاك لومير رئيس الجمعية.
وشمسي شريف هذا، مولود بتركيا من أم تركية وأب كردي، تابع دراسته بالثانوية الفرنسية التركية بمدينة غالاتاساري، وحاصل على دبلوم في العلوم الاجتماعية، ودكتوراه في الحقوق من الجامعة الحرة ببلجيكا. شارك في تأسيس اللجنة البلجيكية لجمعية "لا عاهرات ولا خاضعات" وهو عضو مؤسس في شبكة "الحركات من أجل بناء دولة علمانية" وعضو مؤسس للجمعية الأوروبية من أجل الفكر الحر.
من الأسماء المشاركة إيلي برنافي، السياسي اليهودي الذي شغل منصب سفير إسرائيل بفرنسا، والمؤرخ والكاتب والأستاذ بجامعة تل أبيب، والمستشار العلمي لمتحف أوروبا ببروكسل. ومنها إيريك دو بوكيلايير الناطق الرسمي باسم أساقفة بلجيكا سابقا، والمسؤول عن ملتقى لوفان لانوف حاليا، وكورين توركيسن الباحثة المنشغلة بالإسلام والتنظيم القانوني والسياسي له في بلجيكا، من آخر كتبها "الفاعلون الدينيون في المجال العام: الوسائل والأهداف والآثار" و"الإسلام في بروكسل". ومنهم كريستيان لابورت المختص في علم الاجتماع وخريج الجامعة الكاثوليكية بلوفان والصحفي بجريدة لوسوار وبلجيكا الحرة، وتخصص في المجتمع الفلاماني ودياناته، وآخرون.
أندلس وأناضول
يتصدر المغاربة طليعة المسلمين في بلجيكا، ويتراوح عددهم بين 350000 و600000 نسمة طبقا لتقديرات سفير المغرب ببلجيكا سمير الضهر التي أدلى بها في تصريح لجريدة "لوفيف ليكسبريس" ونشرت بالعدد الأسبوعي بتاريخ 25 سبتمبر/ أيلول - أول أكتوبر/ تشرين الأول 2009.
ويأتي الأتراك في المرتبة الثانية بحوالي 200000 نسمة، وبالمغاربة والأتراك يصل العدد إلى 800000 نسمة من مجموع 1.1 مليون نسمة عام 2010، سيصبحون مليونين عام 2018 وفق توقعات الديمغرافيين الذين يرجعون سبب التكاثر الإسلامي إلى خصوبة في التناسل لدى المرأة وتزايد في نسبة التجمع العائلي.
وتقول توقعات المتوقعين إن سكان بروكسل سيكون عام 2030 حوالي 1296871 نسمة، وستكون نسبة المسلمين فيها 29.7% أي 385431 نسمة.
شمسي شريف خان كان أكثر المشاركين قلقا من "الإسلام الذي يظهر والأديان الأخرى التي تختفي" ومن "الأندلس الجديدة للمغاربة" و"الأناضول الصغرى للأتراك". ولذلك لا شيء حاليا يمنع أن يفوز الشبان المسلمون المنحدرون من أصول مهاجرة بالمناصب السبعة عشر ببروكسل في الانتخابات المقبلة، ما دام 18 من 48 من النواب البرلمانيين الحاليين للتحالف الحاكم منحدرين من أصل مهاجر.
ويركز شمسي شريف على "المساجد العامرة والكنائس الفارغة" فتلك حقيقة يراها رأي العين كل يوم على أرض الواقع "ولا تحتاج –في نظره- لأرقام ومعطيات إحصائية". أكثر من ذلك فقد صارت لا تكفي المصلين من ضيقها وروادها، فلا يزيدون عددا فقط بل يزيدون ورعا والتزاما. لذلك يوصي شمسي شريف بدراسة نسبة التردد على المدارس الدينية. ويبالغ في التحذير حتى يعلن عن تخوفه من وجود أساتذة مسلمين سينشئون "المدارس الحلال".
أسئلة القلق
القلق من تحول المسلمين إلى أغلبية في 15 عاما فقط، دفع المتخوفين إلى تقديم مقترحات لمواجهة الموقف، منها كيف نحافظ على تعددية معينة في الحياة اليومية، وتنظيم العلاقة بين الديني والسياسي، وتوريث التراث المادي والمعنوي للمدينة التاريخية، وكيف نضمن حرية التعبير، وهي مقترحات الصحفية والكاتبة ماري سيسيل رويين بصحيفة "فيف ليكسبريس".
ودافع القس إيريك دو بوكيلايير عن "الإسلام الديمقراطي" الذي سيعلم أبناءه بصوت عال أن القرآن يقول لا عقوبة تطبق في هذه الأرض على الذين يرتدون عن دينهم أو يغيرونه بدين آخر، فكيف الحال بالنسبة لغير المسلمين الذين يجهرون بدينهم دون خوف ولا مواربة. وأضاف الراهب، مقدما تأويله للقرآن، أن آيات الوعد والوعيد موجهة فقط بالمجال الروحي، وذلك ما يتوافق مع الفصل 18 من الإعلان الدولي لحقوق الإنسان بشأن الحرية الدينية.
من جانبه، يرى شمسي شريف خان أن أول ما ينبغي فعله لتحقيق التعايش هو "إصلاح الإسلام" فذلك "ركن أساسي لحماية الديمقراطية" ويقر الرجل بأن المهمة شاقة وتتجاوز حجمه وقدرته هو ومن معه بكثير، إلا أن "إصلاح هذا الدين ممكن في السياق البلجيكي، بل سهل في بروكسل عن طريق تقديم كل الدعم والمساندة لدعاة وممثلي "الإسلام الليبرالي الحداثي الحالي الخالي من الأحكام التشريعية، وإسلام الوجدان والباطن المنقطع الصلة بالخارج" وهذا أمر يشاطره فيه الرأي الإسرائيلي إيلي برنافي ورجل الدين الكاثوليكي، بل الأمر لا يقتصر على بلجيكا ولا أوروبا وحدها، ولم يعد خافيا أنها دعوة عالمية منظمة تنتظم شخصيات علمية وسياسية وفنية و"دينية" تتحالف مع منظمات وهيئات تشتغل بتنسيق كامل على الصعيد الدولي ولها فروع قطرية في معظم بلدان العالم التي يوجد فيها التيار الإسلامي بمختلف فصائله وأطيافه.
ويذهب شمسي أبعد من ذلك، فيحذر من "انفصال" و"تمزق" في العاصمة بسبب التغيرات الديمغرافية والدينية المتوقعة، ويشكك في قدرة الأمير فيليب في خلافة أبيه ملك بلجيكا على قيادة البلد وجمع شتاته، فيقترح نظاما سياسيا علمانيا سماه "ملكية جمهورية" لمكافحة النزوع الهوياتي الطائفي.
أساطير السياسيين
التوقعات بهيمنة الإسلام وغلبة المسلمين العددية شكك فيها عدد من المختصين أبرزهم كورين توركسين وجان هيرتوجين عالم الاجتماع، وقالت كورين كيف يقبل علميا أن تبنى الإحصائيات والتوقعات على عينة لم تتوفر فيها الشروط العلمية؟ فلا يقبل أن يكون 650 شخصا موضع استطلاع وبحث في العلوم الاجتماعية حيث يشترط أن يكون الحد الأدنى للعينة التمثيلية هو 1000 شخص. فضلا عن أن عدد المسلمين الذين استجابوا للبحث هو 167 شخصا فقط، دون الحديث عن مدى التزامهم بالدين الإسلامي أو كانوا متحللين منه.
كورين توركيسن وجهت انتقادات علمية شديدة اللهجة لصناع القلق والرهاب من السياسيين والعلميين، فتحدثت عن "أساطير السياسيين المعاصرين" وهم يتحدثون عن مسلمي أوروبا وبلجيكا جاعلين كل المسلمين، ملتزمين ومتحللين، في سلة واحدة، وهي ترى أنه لا بد من الفرز والتصنيف لهؤلاء المسلمين حتى نعلم "من هي الفئة التي متحدث عنها ويصح عليها قولنا" وهل المقصود هو الالتزام الديني أم الميراث الثقافي؟ هل هو التدين أم الثقافة؟ فالدراسات تظهر أن الإحالة إلى المرجعية الدينية لا تشغل مجموع السكان من أصل مسلم، سواء كانوا من الجيل الأول أو من الجيل الثاني أو من الجيل الثالث، ولكنها تشغل فئة قليلة يصعب إحصاؤها رقميا.
وأما المناطق التي توجد فيها أغلبية ساحقة من ذوي الأصل المسلم في العاصمة البلجيكية وفي المدن الأخرى، فالتجمعات المسلمة فيها ليست اختيارا مقصودا وواعيا، ولكنها نتيجة مسلسل مركب يجمع عوامل تاريخية واقتصادية وحضرية واجتماعية وسياسية، ولها أيضا وظيفة اجتماعية هي تحقيق الانسجام الاجتماعي. وللعاصمة البلجيكية والأوروبية خصوصية إذ أن التجمعات المسلمة توجد بقلب العاصمة وليس في الهوامش والضواحي كما هو الحال في باريس، وبذلك تصبح المسألة حساسة جدا ويتعامل معها السياسيون وبعض الخبراء الاجتماعيين بأسلوب سياسوي شعبوي.
الواقع الحقيقي
منذ الدراسات الصادرة عام 1984 لرواد التخصص في الحضور المسلم في بلجيكا، مثل فيليس داسيرتو وألبير باستونييه، قدر عدد المسلمين الملتزمين الذين يترددون على المساجد بحوالي 10% فقط. ويبدو أن هذا العدد مرشح للارتفاع بالنظر إلى الأرقام التي يسوقها مديرو المساجد، رغم أنها ذاتية غير موضوعية. لكن على الناظرين المهتمين أن ينظروا إلى النصف الآخر من الكأس، كما تؤكد كورين، إذ أنه يجب "ألا ننسى العدد المتزايد لمحاولات انفتاح المساجد وسعيها للحوار الثقافي والتبادل المعرفي والديني وتنظيم الأبواب المفتوحة" فالمسلمون لم يعودوا طائفة مغلقة منغلقة منذ مدة.
وتتوقف الخبيرة بقوة عند التحديات الديمغرافية الحقيقية للعاصمة البلجيكية، فتتساءل: لماذا التركيز فقط على المسلمين، مع أن العاصمة يعيش بها 45 جنسية مختلفة، يتصدرها الفرنسيون قبل المغاربة، ومعظم غير البلجيكيين أتوا من 15 بلدا أوروبيا قبل أن يتوسع الاتحاد الأوروبي. فالتحديات التي ستواجهها العاصمة لن تكون أبدا ذات صبغة دينية، ولكنها سياسية وسوسيو اقتصادية.
على رأس التحديات السياسية –وفق كورين- مواجهة التصاعد الخطير لرهاب الإسلام وكراهية المسلمين، والخطاب الشعبوي اليميني الذي يركب موجة الخوف من الأجانب.
وباختصار، فإن التحدي المقبل بالنسبة لأهل بروكسل أن يقبلوا أن الإسلام أيضا بلجيكي، وأن بلجيكا أيضا مسلمة "وعلينا العمل على ظهور نخبة مسلمة محجبة أو غير محجبة، في مواقع اقتصادية جيدة ومواقع علمية ممتازة، ذلك وحده هو الكفيل بالقضاء على الطائفية".
خلاصة
نختم هذه القراءة بملاحظتين هامتين: الأولى أن المراجعات الفكرية والسياسية للعلمانية الجارية في أوروبا وفي العالم وكيف يمكن تطوير نظامها السياسي والقانوني لمواجهة صعود الأديان، وحضور الإسلام في "العالم المسيحي العلماني" ظاهرة لافتة وجديرة بالدراسة والمتابعة، وهي مراجعات فرضها الدين الإسلامي الجامع بين الوجدان والوجود، والباطن والظاهر، والإيمان والعمل، ورفضه للفصام النفسي والديني والواقعي، وحرصه على جمع الإنسان في "قلب واحد" إذ {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}.
والملاحظة الثانية أن هذا النقاش الثري والصاخب لم يعد قطريا كما أسلفت الإشارة إليه، ولكنه نقاش وسجال عالمي، فحيثما وليت وجهك قبل المشرق والمغرب، والشمال والجنوب، وفي العالم الإسلامي والعالم المسيحي، والعالم العلماني والعالم الديني، فستجد الأفكار نفسها حاضرة، أحيانا تتناطح، وأحيانا تتلاقح.
ومن المفارقات أن تجد مفكرين وسياسيين يقرون بأنهم مسلمون، لكنهم ضد حضور الإسلام في العمل السياسي حتى في البلدان الإسلامية تاريخا وجغرافية ودستورا وأغلبية، وبالمقابل تجد مفكرين وسياسيين غير مسلمين يدافعون عن العطاء الديني للإسلام في السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق حتى في البلدان المسيحية والعلمانية. أليست هذه إحدى تجليات "الظهور الإسلامي الثاني على الدين كله" أو "الإسلامية العالمية الثانية"؟