الكاتب البلجيكي لوكاس كاترين
يمكن وصف الكاتب البلجيكي لوكاس كاترين (مواليد 1947) بأنه كاتب مثير للمشاكل، صريح، ويملك لساناً موجعاً في الحق، فبسبب من آرائه التي لا تعجب الكثرة في الغرب، صار الرجل في حكم المغضوب عليه من قبل العديد من المؤسسات والأحزاب اليمينية المتطرفة في عدائها لكل ما هو أجنبي.
وقدّم هذا الكاتب حتى الآن أكثر من عشرين كتاباً يدافع في أغلبها عن الحضارة العربية والثقافة الإسلامية والحق الفلسطيني، ربما نستطيع أن نحدد تاريخياً رحلته مع عشق العالم العربي منذ كان في الثانية والعشرين من عمره، وتحديداً في العام 1969 حين قام بأولى رحلاته -التي ستتعدد فيما بعد- إلى العالم العربي، حيث زار سوريا ولبنان والأردن وفلسطين.
في العام 1970 قدم كاترين أول برهان على تعلقه بحب العالم العربي، يتمثل في فيلمه التسجيلي الأول "لكنْ حينما يتم تجويعي" (But when I am made hungry) الذي تناول فيه على مدى 35 دقيقة أوضاع الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين بالأردن وسوريا. وربما كان هذا الفيلم من أوائل الأفلام التسجيلية الغربية التي أرخت للظروف الحياتية البائسة التي تحياها آلاف العائلات الفلسطينية في شتات المخيمات.
في كتابه الجديد "كتاب رسوم عربي صغير" الصادر مؤخراً عن دار إيبو البلجيكية، يرد لوكاس كاترين التقدم العلمي الذي يتمتع به الغرب اليوم إلى الحضارة العربية والعلوم الإسلامية التي تم جلبها إبان قرون طويلة من الصراع بين الشرق والغرب.
ويبرز الكاتب ذلك ليس فقط من خلال تتبعه الدقيق لمراحل نهب هذه العلوم ونسبتها فيما بعد إلى الغرب، بل أيضاً عبر قراءته المتأنية لأحوال أوروبا التي كانت تنعم بالجهل والتخلف عندما كانت الحضارة الإسلامية تشهد أوج عظمتها العلمية والثقافية والمعمارية والفنية والموسيقية والأدبية.
ولا يقف بحث كاترين فقط عند حدود المنجز العلمي المنهوب من الثقافة العربية من قبل أوروبا، بل يمتد إلى الواقع الراهن وسبل غرس القيم الأخلاقية التي تنتهجها طرق التعليم الأوروبية حيال عقول الأطفال، والتي تبدو في أوضح تجلياتها في ما تحمله كتب الرسوم والأفلام الكرتونية الموجهة إليهم وتصب أكثرها في كراهية العرب واحتقارهم والسخرية منهم. ويضرب مثلاً على ذلك بسلسلة "تان تان" البلجيكية الشهيرة وغيرها من سلاسل كتب الأطفال التي تصدر في العديد من الدول الأوروبية.
يبدأ كاترين رحلته لرد الاعتبار إلى الثقافة والحضارة العربيتين من مالطا، حيث يتبارى علماء اللغة هناك كل يوم -على حد تعبيره- في تقديم إثباتات واهية للتدليل على أن لغتهم المالطية لا علاقة لها بالعربية، في حين يؤكد هو أن المالطية كلها جاءت من العربية، بل إن التركيبات اللغوية التي يتعامل بها الشعب المالطي يومياً لا علاقة لها بأي لغة أخرى سوى العربية، ويتتبع ذلك في تاريخ مالطا التي ظلت تحت الحكم الإسلامي منذ العام 869 وحتى العام 1249م.
كتاب لكاترين "حرب الألف عام ضد الإسلام"
|
أصل الكراهية
كُتب تاريخ الغرب بكثير من التحامل والتجني على المسلمين منذ الحروب الصليبية وحتى يومنا هذا، وهو ما يتفق معه كاتبنا في كتابه الجديد، بل ويفند أسبابه ومراميه وإرهاصاته الأولى، حيث يشير إلى أن الكنيسة الغربية أثناء شنها الحروب الصليبية على العالم الإسلامي صورت الإسلام باعتباره ديناً متوحشاً.
ومن ثم يتناول الكاتب الحال التي كانت تبديها الكنائس الغربية في تصويرها للإسلام والمسلمين آنذاك، وخاصة الكنائس الرومانية التي كانت تحمل أحجارها صوراً لنساء مسلمات كان يتم تصويرهن محجبات في حين تظهر نهودهن وعوراتهن بادية للعيان، في إشارة واضحة إلى شهوانية الشرق التي لا تحدها حدود، والتي تقع موقع الرضا من الصورة الموجودة في عقول الغربيين عن المرأة الشرقية ومدى شهوانيتها، وهو ما كانت تقف الكنيسة الغربية ضده آنذاك وتصوره باعتباره رجسا من عمل الشيطان.
لكن ورغم هذه الرؤية المتدنية التي انتهجتها الكنيسة الغربية في تبرير حروبها الصليبية على العالم الإسلامي، فإن التأثير الثقافي العربي والإسلامي ظل في تطور الغرب، ويستدل الكاتب على ذلك بسيرة الفنان والرسام الفلامنغي الشهير يان فان آيك (Jan van Eyck) ورحلته إلى الشرق، إذ سافر إلى القدس عام 1426م، وبعدها بثلاث سنوات سافر إلى غرناطة (1429) فجلب لدى عودته إلى الغرب معارف فنية لم يكن الغرب يعرف عن سرها شيئاً وقتذاك.
ويعتبر كاترين أن هذا الفنان وما تركه بعد ذلك من منجز فني هو أحد الدلائل على أن الحضارة الغربية مدينة بالكثير إلى الحضارة العربية والثقافة الإسلامية، ويضيف قائلا "لكننا رغم هذا نشعر اليوم كأن ثقافتنا الغربية محت الحضارة العربية بممحاة قوامها الإنكار والاحتقار والإهانة، وكأن حضارتنا وتقدمنا العلمي من صنعنا نحن. وحتى يومنا هذا، ما زال هناك العشرات ممن ينكرون على العرب والمسلمين فضل الريادة، وكأن عقولنا غير قابلة لتصديق فكرة أننا كنا يوماً ما الأسوأ والأكثر تخلفاً".
كتاب كاترين "فلسطين.. آخر البلاد المحتلة"
|
تشويه العرب
وفي استعراضه للتأثيرات المتعددة التي خلفتها الحضارة العربية والإسلامية في الثقافة الغربية لا يهمل لوكاس كاترين شيئاً، فيتحدث عن العلوم الإسلامية من الهندسة والجبر وعلوم الفلك والجغرافيا والطب، إضافة إلى المذاهب الفلسفية وكتب ابن رشد وابن سينا وكتب المتصوفة، وصولاً إلى العمارة الإسلامية وكتب التفسير والنص القرآني وتاريخ العرب الحديث.
وفي ختام كتابه الجديد يتناول كاترين الصراع العربي الإسرائيلي منذ العام 1948 بعد إعلان قيام دولة إسرائيل وحتى اليوم، محللاً كيف تغيرت النظرة الغربية للعالم العربي والإسلامي إلى الصورة الأسوأ تبعاً لهذا الصراع، وكيف ساهم الإعلام الأميركي والصهيوني في تغيير هذه النظرة عبر تصوير الإسلام على أنه العدو الأكبر للغرب حاليا.
وفي هذا الإطار يستشهد كاتبنا بقصة دالة لتأكيد هذا التشويه المتعمد لصورة العرب والمسلمين، حيث يشير إلى أحد أعداد سلسلة كتب الأطفال المصورة "تان تان" التي صدرت أوائل الستينيات تحت عنوان "الذهب الأسود" ويحكي كيف يتم اختطاف بطل القصة من قبل مجموعة إرهابية يهودية تطلق على نفسها اسم "إرغون".
ولكن في إصدار جديد للقصة ذاتها عام 1971، نفاجأ بأن القصة تبقى على صورتها الأولى في كل تفاصيلها، باستثناء أن المجموعة الإرهابية اليهودية يتم استبدالها بمجموعة إرهابية فلسطينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري