عندما طُرد أهالي المناطق المنكوبة عام 48 من بيوتهم, حملت كل واحدة من الأمهات “مفتاح” دارها, بعد أن أغلقت نوافذه, وغطَّت ما تبقَّى من طَحِينٍ, وحَمَلَت بعض ما “يقوّتها” وأبناءها من جبنٍ وزيتِ زيتونٍ وبعض الزَّعتر, وعلى الرّغم من قلّة ما حملته تلك الأمهات من متاعهنَّ, وأثاثهنَّ, ظنًا منهنَّ أنها حالة مؤقتة؛ غارة حربٍ وتنتهي, حلمٌ مزعجٌ يستيقظن منه سريعًا, إلا أنهنَّ بعد سنوات, اكتشفنَ أنهنَّ جميعًا قُمْنَ بالشيء نفسه, تركنَ بعض الملابس على أحبال أسطح بيوتهنَّ, وحملن مفتاح الدار بعد أن أغلقنه جيدًا, ورحلن!
مفتاح الدار الاستخدام العملي العودة
في البداية حمل مفتاح دارنا “معنًى عمليًّا”، حيث اعتقدنا أنَّ غيابنا لن يطول, وأننا سنعود إلى بيوتنا، ثم اتضحت قضية الاقتلاع، فانتقل المفتاح من مفهوم الاستخدام “العملي المباشر” إلى “المعنى الرمزي”, وكانت تلك البداية.
بداية “رمزيَّة” المفتاح, حيث تحوَّل من مجرد “شيءٍ” إلى “رمزٍ” يرتبط بـ”العودة”, وأصبح الخيط المربوط به المفتاح, المعلّق في رقاب الأمهات، جزءًا من أجسادهنَّ, وحياتهنَّ, وأصبح مكان المفتاح في الباب حلم كل ليلة, أن يعدن إلى بيوتهنّ, وحُلمي!
وتحوُّل “المفتاح” إلى “رمزٍ” للعودة لم يكن بالنسبة لنا – نحن المهجَّرين – فقط, بل لكل الفلسطينيين، وأخذ معنى القداسة, كناية عن التمسك الشديد بالعودة في ظل الاستهداف الدائم والمستمر لهذا الحق.
ثم تحوَّل “المفتاح” إلى “فكرة”؛ فكرة العودة, ودليلٌ وسندُ الملكية الوحيد لـ”دارنا”, أو “دكان” والدي المليء بالزيوت, وأرض زيتونيَّة كنا نقصدها كل صباح, أصبح ذلك المفتاح هو الشاهد الحيُّ على حقِّنا في العودة إلى ديارنا, وعلى الرغم من علم كثير منَّا أنَّ ما تركناه ربَّما لم يعد له وجود الدار، والأرض تغيرت معالمهما، إلا أنهم يعتبرون – وأعتبر – أنَّ التفريط في هذا المفتاح تفريطٌ في الوطن، ويوم العودة قادمٌ لا محالة!
لم يتحوَّل المفتاح يومًا إلى “مبكى”.. لم يتحول إلى رمزٍ مثيرٍ للحزن والشفقة؛ إنَّما أصبح دافعًا لَحوحًا مؤلمًا, جعل أبي يُصرُّ على العودة إلى قريتنا بعد تهجيرنا عنوةً في جُنح الليل دون ترتيب, وإحاطة القرية بأسلاكٍ شائكةٍ وأبراج مراقبة, ليجمع بعض المتاع, ويغلق باب البيت, ويحضر المفتاح!
كثيرون غيرُه, خاطروا وحاولوا زيارة قريتنا وغيرها, لمشاهدة بيوتهم أو “أطلالها”, ولو على سبيل السياحة! يصطحبون أبناءهم, أو أحفادهم, ليعرّفوهم, ويفهّموهم حقوقهم, وحدود بيوتهم وأراضيهم, ليطلعوهم على معالمها، حتى يكونوا على دراية بها حين عودتهم.
إلا أنَّ المفتاح, “مفتاح العودة”, لم يَثبُت على ذلك, ولم يكتف بما قدم, فقد اتَّخذ شكل السلاح؛ كي لا ينسى الجميع أنَّ طريق الوصول إلى قراهم وبلادهم لن يكون إلا بالمقاومة, فمن يملك ذلك المفتاح إنَّما يملك ثلاثة أشياء، هي: “المكان” الذي سيعود إليه، و”الرغبة” في العودة لهذا المكان، و”التأكيد” على حق العودة لهذا المكان, مهما كانت التضحية!
حتى إنَّ مواليد ما بعد النكبة, مثلي, أولئك الذين لم يروْا يومًا بيوت آبائهم رأَوْا “مفاتيحها”, مشفوعةً بكثيرٍ من الحكايات عن بيوتهم التي هُجِّروا منها, أو بمعنى أدق: “طُردوا أو اقتُلعوا منها”, ومُنِعُوا من العودة إليها.. مُنِعُوا من العودة إلى شجر التين في فناء البيت, ورائحة البحر فوق سطحه.. مُنعوا من أيام جمع الزيتون, وأيام عصره, ليتذكروا دائمًا أراضيهم التي سرقها اليهود، وحديث أجدادهم عن حياتهم وزراعتهم، وشكل بيوتهم وبواباتها, وذلك الطريق الطويل المُنتهي إلى ربوةٍ مُرتفعة, تُشرف عليها قبور القرية, أصول قريتنا البعيدة, التي تمتد إلى أزمانٍ سحيقة في التاريخ, تلك القبور لأولئك العظماء أجدادي, لم يعد لها وجود, نبشوها.. هدموها.. جرفوها!
يتمنى من بقيَ حيًّا من أجدادي, وكل من يحيا اليوم من ذلك الجيل جَدّي, الذين خرجوا من تلك الديار أطفالًا؛ أن يعودوا إلى ديارهم، ولو كان يوم عودتهم هو آخر يومٍ في حياتهم, لديهم أمل أن يتحقق لهم الأمر أو لأبنائهم أو لأحفادهم, فأمل العودة موجود في نفوس كل اللاجئين.
أجدادي, وأنا, ونحن, كلنا نرفض أي مبادرات أو دعوات للتعويض، يتساءل الواحد منَّا قبل أن يُسأل: “عن ماذا سيعوضوننا؟ عن 60 سنة مهجَّرين من بلادنا! أم عن أراضينا التي ضاعت! أم عن إذلالنا وتدنيس كرامتنا؟!”, ثم نُجيب: “تعويضنا الوحيد الذي نقبل به هو عودتنا إلى بلادنا الأصلية، حتى لو اضطررنا للعيش هناك في العراء أو المغاور”.
غداة النكبة، قال القادة الصهاينة يومها “عنّا”؛ عن الفلسطينيين: “الكبار سيموتون، والصغار سوف ينسون”. وها هي النكبة تدخل عامها الثالث والستين، وإذا كان الكثيرون من الكبار قد ماتوا، فإنَّ أجيال الصغار، جيلًا بعد جيل، لم تنس، ولن تنسى. إنَّ النكبة ذاكرة شعب، ذاكرة وطن، لا تقوى الأيام على إطفاء شعلتها، مهما اشتدت أعاصير التحديات، وطال الزمن. ولا يزال مفتاح الدار التي سُلبت ذات يوم، إرثًا تتناقله الأجيال، وأمانة في الأعناق.
وما زالت أمي تحتفظ -وكثير مثلُها- بمفاتيح بيوتهم التي أحضروها معهم عام النكبة، فيما سلّم من وافاهم الأجل هذا “الكنز” -كما نُسمّيه- إلى أبنائهم وأحفادهم, تَضع الجدة السبعينية حول رقبة حفيدتها سلسلة فيها مفتاح دارها (الجدة وحفيدتها), وتقول لبنِيها: “ديروا بالكم على المفتاح.. ديروا بالكم على دارنا!”.
محمد إمام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري