- بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الفضلاء.. إن الناظر بعين بصره وبصيرته في هذا الزمن يرى أن حلقاتِ الإخلال الأمني تكاثرت، وخاصة في المجتمع المسلم، وقلتّ في واقعنا هيبةُ الدم المسلم وحرمتُه وعِصمته، ولقد أشار المسلم بالسلاحِ على أخيه المسلم، بل وأفرغ حشْوَه فيه، وهذا ما لم نكن نعهده في زمن الاستقرار الوارثِ، والطُمأنينة التي عمت المجتمع، فما الذي غيّر الأمر عن مجْراه؟ ولأي شيء يختلفُ اليومُ عن الأمس؟ وما هو السبيل للخروج من عُنُقِ الزجاجةِ القاتل؟ هذه كلُها أسئلة تستدعينا إلى التركيز على أهمِّ المُعطيات التي ينبغي الوقوفُ أمامها بصدقٍ، والتعاملُ معها بنيةِ إصلاحِ ما في النفس ليُصلح الله ما في الواقع، وهذه المعطيات ليست وربي بالقليلة، غير أن العُجالة تضطرني إلى ذكرِ بعضها؛ وذلك في الأمور التالية:
1. الأمر الأول: أن الاختلالَ الأمني المتمثِلَّ في كثرة القتل، وإزهاقِ الأنفسِ البريئة دون برهانٍ من الله - تعالى- لهو من علاماتِ آخر الزمان، المُنذرةِ بدنوِ الساعة التي لا يعلمها إلا الله - تعالى-، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يتقارب الزمان، وينقُصُ العمل، ويُلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثرُ الهرج!! قالوا: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: القتل، القتل )، وقد استخف الناس اليوم بالدماء استخفافاً عجيباً ذهبت معه عقولهم، ففي الحديث: ( بادروا بالأعمال خصالاً ستاً ... الحديث وذكر منها: واستخفافا بالدم )[ حديث صححه الألباني ]، وثبت في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( إن بين يدي الساعة الهرج ... الحديث وفيه: حتى يقتل الجار جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه!! قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال : إنه لينزع عقول أهل ذلك، ويخلف لهم هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء )[ حديث صححه الألباني ].
2. الأمر الثاني: أن استقرارَ المجتمع المسلم الذي يهنأ فيه بطعامه، ويُسيغ شرابه، ويجعلُ نهارَه فيه معاشاً، ونومَه سُباتاً، وليلَه لباساً؛ لا يمكن أن يتحقق إلا تحت ظلِ الأمن الوارف، فالأمن والآمان مطلب مُلحّ للمجتمعاتِ طُراً، لا ينكر ذلك إلا مكابرٌ أرعن، لأن الأمن إذا اختلّ فإن مغبته لن تكونَ قاصرةً على المُخِلِّ به فحسب، بل إنها ستَطَال نفسي ونفسك أيها المسلم، وولدي وولدك، وأسرتي وأسرتك، والواقعُ المُقَرَر هو أن المجتمع المتكاملَ من جميعِ جوانبه هو ذلكم المجتمع التي تتحقق فيه الأسس الأمنية الثلاثة ألا وهي: الأمن العسكري، والأمن الغذائي، والأمن الصحي، وهذه الأسس الثلاثة لا يمكن أن تتحقق جميعاً دون اختلال إلا تحت ظل الإسلام وشِرْعته، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوتُ يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )[ رواه الترمذي وابنُ ماجة ].
3. الأمر الثالث: أن أحداثَ التفجير التي وقعت في الأيام الخالية الماضية؛ والتي استهدفت معصُوميَ الدم فيها؛ لهي أمر لا يرضاه دينٌ ولا عقل ولا عُرف، وشجبُه واستنكاره درجةٌ واجبة من درجات تغيير المنكر، وأما الرضا به والفرح فهو لون من ألوانِ الخيانةِ في الباطن، فالنصوصُ الشرعية متكاثرة في بيان حرمةِ الدم المسلم، وعصمةِ دمه، وبيانِ احترامِ حق السلطان المسلم، وعدم الافتيات عليه وعلى أهلِ العلم، في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا مرّ أحدُكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبلٌ فليُمسك على نِصالِها )، وفي رواية: ( فليقبض بكفه أن يصيبَ أحداً من المسلمين منها بشيء )، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( من حمل السلاح علينا فليس منا )، وفيه أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( سباب المسلمِ فسوق، وقتاله كفر )، وروى الإمام أحمد في مسنده عن الحسن البصري أنه قال: ( إن عليا - رضي الله عنه - بعث إلى محمدِ بنِ مسلمة فجيء به فقال: ما خلّفك عن هذا الأمر [ يعني القتال في وقت الفتنة بينه وبين خصومه - رضي الله عنهم أجمعين -] قال: دفع إليّ ابنُ عمك [ يعني النبيَ - صلى الله عليه وسلم -] سيفاً فقال: ( قاتل به ما قُوتل العدو، فإذا رأيتَ الناس يقتلُ بعضهم بعضاً فاعمد به إلى صخرةٍ فاضربه بها، ثم الزم بيتك حتى تأتيك منيةٌ قاضية، أو يد خاطئة، فقال علي - رضي الله عنه -: خلو عنه )، ونقل بنُ عبد البر عن بعضِ السلفِ قوله: " أحقُّ الناس بالإجلال ثلاثة: العلماء، والإخوان، والسلطان، فمن استخفّ بالعلماء أفسد مروءته، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخف بأحد ".
4. الأمر الرابع: ضرورةُ تشخيصِ هذا البلاء تشخيصاً نزيهاً عارياً عن الشبهاتِ والأهواء، للوقوف على أسبابه، والبحثِ عن العلاجِ الأمثل له، شريطةَ أن لا يُجاوزَ التشخيصُ موضعَ الداء، بحيثُ إنه لا يجوز أن يُلقى باللائمة إلى غيرِ مرتكبي تلكم الأحداث، فلا يجوزُ أن يُنسبَ السبب إلى التدينِ مثلاً، أو إلى علومِ الشريعةِ ومناهجها، أو إلى العلماء والدعاةِ المخلصين، فإن السرقةَ في المسجد لا تستدعي هدم المسجد، كما أن عدم فهمَ الشريعة والتدين لا يعني إلغاءَهما عن واقعِ الحياة، ولو تستر لِصٌ في حجابِ امرأة فلا يعني ذلك إلغاءَ الحجابِ بالمرة، فليتق الله أولئك الذين يشوشون عندَ كلِ حدثٍ سانح، فيرمون أصالتنا وتمسُكنا بديننا ليكونَ هذا التشويش تُفهةً يتكأُ عليها أعداء الإسلام من الكفرةِ الحاقدين والمعجبين بهم، ليأتيهم مثلُ هذا التشويش على طبقٍ من ذهب؛ ليجتاحوا بلاد المسلمين بأدنى الحيل، وإن مثلَ الناعقين عبر وسائلَ متعددة في وجه الدين والتدين والمناهجِ النيرة والاستقامةِ المشهودة في المعتقد والفكر كمثل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بنِ عمرو - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ضاف ضيفٌ رجلاً من بني إسرائيل، وفي داره كلبة؛ فقالت الكلبة: والله لا أنبحُ ضيفَ أهلي، قال: فعوى كِراؤها في بطنها، قال: قيل ما هذا؟ قال: فأوحى الله - عز وجل - إلى رجل منهم هذا مثل أمة تكون من بعدكم؛ يقهرُ سفهاؤُها أحلامَها "، وحاصل هذا الأمر أيها الأحبة الفضلاء هو: أن يُعالجَ الفكر بالفكر، وأن لا يُستغلَ الخطأ في إذْكاء تفريقِ الكلمة، وإضعافِ التدين، فقد قُتل علي - رضي الله عنه - بأشدَ من هذا، ولم يُلقَ باللائمةِ على الدينِ وأهله، وإنما كانت اللائمةُ والردع على ذوي الفكرِ أنفسهم وهم الخوارج الذين خرجوا عليه، ورأوا أن قتله - رضي الله عنه -، وتخليصَ الأمةِ منه من أعظمِ القرباتِ إلى الله بزعمهم - عليهم من الله ما يستحقون -، بل لقد وصف أحد شعرائهم عبد الرحمنَ بنَ ملجِم قاتلَ عليٍ - رضي الله عنه - بأنه أوفى البريةِ عند الله ميزاناً ، والقائل هو عِمرانُ بنُ حِطَّانَ الخارجي الذي قال مادحاً قاتلَ علي:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها إلا ليبْلُغَ مِن ذي العرشِ رضواناً
إني لأذكُرُه يوماً فأحســـِبــُه أوفى البريةِ عند الله ميزانــــــــاً
كبُرت كلمة تخرج من فمه إن يقول إلا كذباً، وقد ردّ عليه بعضُ أهلِ السنةِ بقوله:
بل ضربةٌ من شقيٍّ أوردته لظى وسوف يلقى بها الرحمنَ غضباناً
إني لأذكُرُه يومــــــــــــاً فألعنُـــــه أيضاً وألعنُ عمـــــــرانَ بنَ حِطانــا
والشاهد من هذا أحبتي الكرام: أن الصحابةَ - رضي الله عنهم - لم يثْنِهم فِعلُ الخوارج عن زيادةِ تمسُكِهم بدينهم، واستلهامِ لُطفِ الله ورحمته بهم، والثباتِ على الدين، رغمَ ما اعتراهم من نوابتَ شذت عن سوادهمُ الأعظم.
5. الأمر الخامس وهو لا يقل أهميةَ عما مضى ذكره ألا هو: التأملُ في الحال والواقع، ومحاسبةُ النفسِ على التقصير والتفريطِ في جنب الله، وإصلاحُ مواطنِ الخلل في النفسِ والمجتمع، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبةٍ صادقة إلى الله (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) (( وضرب الله مثلاً قرية كانت أمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) (( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ))، إن الذنوبَ والمعاصي وضعفَ التمسكِ بشريعةِ الله في النفس والمال والمجتمع لهي من دواعي الاختلالِ الأمني، وترادُفِ الكوارث والخطوب، ما يستدعي اللجوءَ إلى الله، وارتقابَ لُطفه، وتغييرَ ما في النفس ليغيرَ الله الحال إلى ما هو خير (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ))، روى البيهقي وابنُ ماجةَ من حديثِ بنِ عمر - رضي الله عنهما - قال: " كنتُ عاشرَ عشَرةٍ رهطٍ من المهاجرين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل علينا بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين: خمس خصال أعوذ بالله أن تُدركوهن، ما ظهرت الفاحشةُ في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتُلوا بالطواعينِ والأوجاع التي لم تكن في أسلافيهم الذين مضوا، ولا نقصَ قومٌ المكيال إلا ابتلوا بالسنين، وشدةِ المؤونة، وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولا خفر قومٌ العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم يعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم )، وصدق ربنا يوم قال: ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير )).
الأحد، 4 أكتوبر 2009
لماذا أشهروا علينا السلاح؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري