الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009

غزة من الحصار إلى الجدار

  • "إنه فولاذ قوي، صنع في الولايات المتحدة الأميركية وتم اختبار مقاومته للقنابل، ولكي تكون الصورة أوضح هو أكثر متانة من خط بارليف الذي بُني على الضفة الشرقية لقناة السويس قبل حرب أكتوبر".
    تلك هي كلمات السيدة كارلين أبو زيد المفوضة السابقة لأونروا أمام طلبة الجامعة الأميركية بالقاهرة قبل رحيلها عن منصبها بأيام، وبتمعن في هذه الكلمات فإن حالة من هذا النوع لا تقام إلا مع كيان معادٍ على عكس تصريحات كل السادة المسؤولين في مصر عن حسن الجوار بين مصر وغزة، بل إن الأمر يؤصل لحالة حرمان واضحة تجاه المدنيين في غزة.يعطي القانون الدولي للدول الحق بأن تمارس سيادتها على أراضيها وباختيار الأنظمة التي تراها مناسبة لحماية حدودها، وهذا ما يتوافق تماما مع تصريحات السيد أبو الغيط وزير خارجية مصر. ولكن وفي كل ظرف وزمان تبقى حقوق الدول في العرف والقانون الدوليين مقيدة بالتزامات معينة أهمها عدم الإضرار بالدولة أو الشعب أو الكيان المجاور، ولا تنتهي عند احترام القانون الدولي الإنساني، حيث نص أهم بنود العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية على التالي، "لجميع الشعوب تحقيقا لغاياتها الخاصة أن تتصرف بحرية في ثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأي من الالتزامات الناشئة من مقتضيات التعاون الاقتصادي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة والقانون الدولي، ولا يجوز بأي حال من الأحوال حرمان شعب ما من وسائله المعيشية الخاصة".
    أي أن كل ما يمكن أن يؤثر على وسائل العيش للناس هو انتهاك فاضح للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، كذلك نجد الفقرة الثانية من المادة الأولى عينها في العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. هذا المبدأ ليس حديث الولادة بل بدأت نقاشاته منذ أكثر من 110 سنوات مع ولادة اتفاقيتي لاهاي وتقييم عدالة أي إجراء بمدى الضرر الذي يمكن أن يلحق بالسكان المدنيين.
    إن القيود المفروضة على حركة الناس والبضائع من مصر إلى غزة لا يمكن أن تصنف بأنها عقوبات اقتصادية، كما أنها لا تستوفي شروط الحصار أو العزل وفق القانون الدولي، ويختصرها الدكتور هيثم مناع بالقول "هي حالة بلطجة دولية وإقليمية يتهرب من تحمل مسؤولية شرعنتها مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية فيما يجعل الحكومة المصرية المسؤول القانوني الأول عن تبعاتها".
    ليس من التحامل القول إن الإغلاق للمعبر الوحيد لتوفر شروط المعيشة الدنيا الطبية والغذائية فرض لأغراض العقاب السياسي المترجم فعليا في عقاب جماعي. ووفقا لأكثر من عرف دولي (حالة إغلاق الحدود السويسرية أثناء الحرب العالمية الثانية مثلا)، يستحق المسؤولون عن فرضه المحاكمة وفق القانون الدولي. ولا يمكن مقارنة الإغلاق المفروض على القطاع بعقوبات اقتصادية كتلك التي تطبق ضد دول ذات سيادة أو حتى بحصار عسكري كالذي يتم اللجوء اليه لاحتلال منطقة معينة أو لمنع وصول الأسلحة إليها.
    لقد كان واضحا وجليا ومعلنا أن الغرض من فرض الإغلاق على قطاع غزة وكذلك الظروف التي فرض فيها يشيران إلى أن الهدف من فرضه هو الضغط على السكان المدنيين في قطاع غزة من أجل التأثير على سلوك المسلحين الذين يحكمونهم بطرق متعددة، وهذا يعني أنه تمّت معاقبة المدنيين المحميين بموجب القانون الدولي بشكل حقيقي على الأفعال التي ارتكبتها المقاومة الفلسطينية، وهذا زج خطير للسكان المدنيين في صراع عسكري/سياسي لا دخل لهم به.
    ليس هناك هدف واضح للحصار، يعرف الحصار بأنه عملية تطويق منطقة معينة بهدف حملها على الاستسلام ودوما كان الهدف من الحصار ومنذ بدء التاريخ هو فرض الاستسلام، وفي محاكمات نورمبرغ أقرت المحكمة الدولية الاستثنائية والعسكرية أنه في حالة الحرب لا يكون الحصار شرعيا إلا إذا فرض الحصار على أرض الأعداء بهدف إجبارهم على الاستسلام.
    وبالمثل فند كتيب الجيش الأميركي الميداني الصادر في العام 1956 الذي يفصل قوانين الحرب تعريفا مماثلا للحصار لذلك من أجل اعتبار أي عملية حصارا فإنه يجب أن يكون الهدف النهائي منها حمل الآخر على الاستسلام، ويتساهل القانون الدولي بشأن بعض الأضرار التي تصيب المدنيين في زمن الحصار عندما يكون للحصار هدف عسكري واضح يتم تحقيقه بالمحصلة، ولدى تحقيقه ينتهي الحصار ويتم تعويض المدنيين عن نتائجه (الأمر الذي رفضه مجلس حقوق الإنسان ومن قبله اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان مطالبا باعتبار الوضع الإنساني وليس الوضع العسكري شرطا لنهاية أي حصار).
    ومصر بإغلاقها لقطاع غزة والقيود التي تفرضها وفرضتها لم تكن تهدف إلى حمل الآخر على الاستسلام والقيود التي فرضتها وتفرضها مصر على غزة لم تشتمل الحماية الإنسانية للمدنيين التي تم تعريفها بوضوح في دليل قانون النزاعات المسلحة الصادر عن وزارة الدفاع البريطانية واشترطت "حماية المدنيين وعدم تجويعهم أثناء الحصار بل وتعويضهم عن أي أضرار وتخليصهم من نتائجها فيما بعد". وهناك قيود وضعها القانون الدولي تشترط أن يكون الحصار يستهدف العسكريين بالدرجة الأساسية ولفترة زمنية محددة لحملهم على الاستسلام.
  • لا يمكن اعتبار العمل الذي تقوم به الحكومة المصرية ضد قطاع غزة أنه مجرد عزل، فهو يرتقي من حيث المسؤولية الجنائية إلى درجة أعلى من العزل. يتشابه الحصار والعزل في أن كليهما يهدف إلى حرمان الخصم من الإمدادات اللازمة للقيام بعمليات قتالية وقت النزاع حسب تعريف البروتوكولين الإضافيين الملحقين باتفاقيات جنيف الصادرين في 8 يونيو/حزيران 1977 وما تلاه من تعريفات، وأيضا ينطبق على العزل ما ينطبق على الحصار لفرض الاستسلام على الطرف الآخر من خلال عدة وسائل، بما في ذلك منع العدو من الحصول على السلاح الذي من شأنه أن يعزز قدرته القتالية، حسب القانون الدولي.
    والجدار الحديدي المنوي إقامته يستهدف البضائع المدنية والغذاء، منع الغذاء ليس ضرورة بل انتهاك، ولا يوجد أي نسبة مئوية لاحتمال استخدام الحليب القادم من مصر للإضرار بالأمن القومي المصري، بل إن كل ما فعلته وتفعله الحكومة المصرية مؤخرا لا يتماشى مع التعريف القانوني لحكم العقوبات أو حتى متطلبات فرض العقوبات من جانب واحد.
    حيث إن الأساس في فرض العقوبات على الدول والكيانات هو اختصاص المنظمات الدولية ولا يتم اتخاذه بقرار من دولة واحدة ضد أخرى بفرض الحظر عليها ومنع الوصول إليها.
    ودوما كان تعريف العقوبات المتفق عليه عرفا في القانون الدولي أنها قرار لمجموعة من الأمم بموجبها توقف التجارة أو تفرض تدابير معينة على دولة أخرى أو كيان يمتلك خصائص الدولة لتحقيق هدف معين لتغير سلوك هذه الدولة أو الكيان، ويسمح ميثاق الأمم المتحدة لمجلس الأمن أو لمنظمة إقليمية مكونة من عدة دول بفرض هذه العقوبات.
    حيث تشير المادة 41 من الميثاق إلى بدائل اقتصادية يتم اللجوء إليها بدلا من الحرب لإكراه بلد ما على سلوك معين، ولا يعد استخدام التدابير الواردة في المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة قانونيا إلا إذا اقر مجلس الأمن الدولي بأن الدولة أو الكيان المستهدف يشكل تهديدا بموجب المادة 39 من الميثاق نفسه، ما يعنى أن ما تنوي مصر فعله لم يحظ بموافقة مجلس الأمن أو حتى منظمة إقليمية وبمجرد تردد الأنباء عن النية بإقامة الجدار الحديدي ارتفعت الأسعار في غزة ارتفاعا جنونيا، حيث وصل سعر كيلو الدقيق إلى عشرين دولارا في مجتمع يوجد به نحو 750 ألف شخص تحت خط الفقر.
    كيف لا و80% من السلة الغذائية لقطاع غزة مصدرها مصر والأنفاق، ثم كيف للحكومة المصرية أن تقرر منفردة وضع جدار حديدي في عمق أرض يوجد بها خزان جوفي مائي مشترك؟
    ألا يكفى قطاع غزة الفقير مائيا أصلا والأعلى تلوثا في العالم في المياه المصائد الإسرائيلية شرق غزة وسرقة مخزونه الجوفي ما جعل كل الاحتياطي لأكثر من 1.5 مليون إنسان لا يكفي لأكثر من أربع سنوات قادمة، لتأتي مصر وتضع حاجزا اصطناعيا على عمق 30 مترا سيكون ارتطامه بالصدع المتكون في عمق الخزان الجوفي أمرا أكيدا، ما سيفتح الباب عميقا أمام تسرب مياه البحر المالحة إلى الخزان، ناهيك عن المعلومات المؤكدة بأن السلطات المصرية بدأت منذ أسابيع بمد خراطيم ضخمة للمياه في عمق الأرض وعلى طول الحدود تجر مياه البحر وتضخها أسفل الحدود للمساعدة في انهيار التربة وتحليل الرمال وتقليل كلفة الحفر، ألن ينشأ هذا الجدار في بيئة رطبة ما سيسمح بانتقال عناصر نادرة مكونة لهذا الجدار للمياه الجوفية الملوثة أصلا.
    ألا تنتهك مصر بإغلاقها المستمر لغزة والجدار الذي تنوي إقامته الحق فى الحياة والصحة وحرية الحركة والتنقل والحصول على مياه نقية والحماية من الجوع وتوفير ظروف العيش الكريم، وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي صدقت عليها جمهورية مصر العربية؟ ألا تعني الفقرات المتعلقة بمسؤولية الدول غير الطرف في الصراع في إيصال الإغاثة الغذائية والدولية حصرا الحدود المصرية في حالة قطاع غزة؟
    فى الدورة الـ51 للجنة الفرعية لحقوق الإنسان (1999)، أقرت اللجنة قواعد منظمة لتدابير الحظر والحصار تتكثف بالمحدودية الزمنية أولا، وعدم الضرر بالسكان المدنيين ثانيا، ورفع الحصار لأسباب إنسانية ولو لم يتحقق الغرض من فرضه ثالثا. ها نحن أمام تصرف يحرم سكان القطاع على الأقل من 80% من المواد الأساسية الضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة، أي أننا أمام جريمة ترتكب عن سابق إصرار ومعرفة بالنتائج الكارثية لها.لقد ضربت الخطوة المصرية أيضا نضالات المجتمع المدني العالمي في تعزيز مفهوم الجدار عملا غير أخلاقي، وساعدت إسرائيل في اختراق حاجز نفسي عميق لدى المواطن الغربي بعدم تقبله فكرة الجدار الإسرائيلي بذريعة وجود جدار مصري عربي؟
    صنعت الدول القانون الدولي ولم تعدم فيه نقاطا رمادية تدافع بها عن أي جنوحات محتملة. ولكن نزعة الإنسان العميقة للبقاء جعلته يثبت قواعد تحول دون السماح بإبادة الجنس أو القبول بفكرة سيادة الهمجية.
    وبهذا المعنى شملت معاهدة لاهاى (1899) تدبيرا احتياطيا يطلق عليه اسم (بند مارتنز) يمس مباشرة آليات التطبيق. وقد تطور (بند مارتنز) كقاعدة أساسية في القانون الدولي الإنساني لسد الثغرات القائمة بين أنواع الحماية المختلفة، وللتذكير فهو ينص على التالي "إلى أن يتم إصدار مجموعة مبادئ كاملة لقوانين الحرب، ترجح الأطراف السامية المتعاقدة أنه فى الحالات غير المتضمنة في اللوائح، تبقى الشعوب تحت حماية ومظلة مبادئ القانون الدولي، تلك المبادئ التي نتجت عن المعاملات بين الدول المتحضرة والتي نتجت عن القوانين الإنسانية وبما يمليه الضمير العام".
    هذا المبدأ العام يحوّل المبادئ التي نتجت عن المعاملات بين الدول المتحضرة والتي نتجت عن القوانين الإنسانية وما يمليه الضمير العام إلى مقياس معياري قانوني من الواجب تطبيقه حين لا تتطرق بنود محددة في الاتفاقيات والأنظمة المرفقة لها لقضايا عينية ظهرت في الحرب أو رافقت حالة حرب مثل حالة غزة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري