- إنَّ من أكثر ما يلفت الانتباه من حديث رسول الله في هذه الأيام قوله : "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ". يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
ففي هذا الحديث يفتح رسول الله الباب أمام عقول المسلمين ليقارنوا بين الثواب العظيم للجهاد، وبين ثواب العمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحِجَّة؛ فالمسلمون يعتقدون -بالفطرة الإيمانية- أن الجهاد أعظم من كل عبادة؛ وذلك تصديقًا لحديث الرسول : "ذُرْوَةُ سَنَامِ الإِسْلاَمِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، وذلك فَهم صحيح في حالتين:
الأولى: التي ذكرها الحديث الأول: "... إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
الثانية: إذا تعيَّن الجهاد على المسلم؛ وذلك باجتياح العدو لبلاد المسلمين، أو إذا كلَّفه الإمام بالجهاد؛ لكفاءته، واحتياج المسلمين إليه، ووقتها يصير الجهاد أعلى المراتب، ولا يدانيه شيء من العبادات؛ حتى إن رسول الله عندما خرج لفتح مكة -وكان في رمضان- أمر الصحابة بالإفطار، وتَرْك الصوم -مع أنه فريضة عظيمة-، وفي الطريق كرَّر عليهم أمره مرة ثانية، ولمّا أُبلِغ بأن بعض المسلمين خالف أوامره، واستمر على صيامه؛ قال : "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ". فالجهاد هنا يَجُبُّ عبادة الصوم إذا أدتْ لتضييع الجهاد أو إضعاف المجاهدين.
أمَّا إذا لم يتيسر الجهاد، أو كان غير متعيِّن؛ فإن بقية العبادات لها بجانبه شأن كبير.. وها هو الرسول يبيِّن ما لهذه العبادات من مكانة عند الله في أيام العشر، حتى إنها تفوق أجر المجاهد إلا في الحالة التي ذكرها الرسول.
إن المسلم لا بد أن يضبط أولوياته على أحكام الشرع الكريم، وأن يعرف مكانة كل فعلٍ، وأن يفقه أن واجب الوقت من العبادات يفوق ما عداه؛ فوقت الصلاة للصلاة، وليس لقراءة القرآن مثلاً، ووقت الحج لا تفوق الحجَّ عبادةٌ ولا تقاربه، ولو ترك القادرُ حجَّ الفريضة ليقوم بالدعوة إلى الله مثلاً في بلده أو في أي بلد آخر؛ فقد أخطأ، وربما أَثِم.
كما أن هناك أمرًا يجب الانتباه إليه، فبعض المسلمين -أو كثير منهم- قد يربط طاعته لله وقيامه بالعمل الصالح بحدوث أمر كبير في حياته، قد يكون صعب المنال، أو يقترب من المستحيل؛ فالبعض يربط سيره على منهج الله بأن يفتح الله باب الجهاد لتحرير المسجد الأقصى مثلاً، أو يربط الإنفاق في سبيل الله تعالى بأن يصير ثريًّا واسع الثراء، وصاحب ملايين، والبعض قد يربط تلك الطاعة والاهتداء إلى منهج الله بأن ييسِّر الله له الحج، ولو كان فقيرًا معدمًا، ثم يبقى هؤلاء على حالهم الكسول عن طاعة الله، التي تُمنِّي نفسها بمعالي العبادة، بينما هي لا تقوم بالحدِّ الأدنى منها، وما فيها دنيء.
إن هؤلاء -في واقع الأمر- غير جادين في رغبتهم في التقرب إلى الله ، ولو كانوا جادين لانتظموا في الطاعة على حالهم تلك، وكم رأينا من أناسٍ سوَّفوا الطاعة، وعلَّقوها على العمرة أو الحج، ثم رزقهم الله تلك العبادة، ومع ذلك رجعوا سيرتهم الأولى، ولم ينتفعوا بالعبادة التي أجَّلوا الطاعة من أجلها.
وحديث الرسول حول أيام العشر خير ما يردُّ ما يتعلَّل به هؤلاء؛ فباب الطاعة مفتوح على مصراعيه، بل لهم في هذه الأيام ثواب لا يُتَصوَّر يفوق أجر الجهاد نفسه.
إن الله لم يترك لمسلم سبيلاً للتقاعس عن الطاعة، بل فتح باب الأمل لمن لم يستطع الحج، أو الجهاد في أجر عميم، وثواب جزيل. وهكذا ينبغي أن نفهم حديث رسول الله حول أيام العشر؛ فمن مَنَّ الله عليه بالجهاد في سبيله، فليسأل الله الشهادة في هذه الأيام، ومن لم يستطع فليداوم على أنواع الطاعات؛ فإنَّ الله مُكافِئُهُ، وكلٌّ مُيَسَّر لما خُلِق له.
الأربعاء، 25 نوفمبر 2009
بين الجهاد والعمل الصالح !!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري