الأحد، 8 نوفمبر 2009

حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية


  • الدولة هي مجموعة من الأفراد يقطنون إقليمًا معيَّنًا، وينظم حياتهم قانون واحد، والغاية من هذه الدولة هي إقامة حكم الله في الأرض. وأهل الذمة هم مواطنو الدولة الإسلاميَّة من غير المسلمين، والذمَّة تعني: العهد والضمان والأمان، وهي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديُّنًا وامتثالاً للشرع، وشمل الإسلام برعايته كلَّ مَن يعيش في ظلاله فقال تعالى: "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[1]".
    حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية: للأقلِّيَّات في الدولة الإسلاميَّة حقوق مثل ما للمسلمين، ومن هذه الحقوق حقُّ حرِّيَّة الاعتقاد، فقال تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[2]: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ..."[3]: "مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
    [4]. وحق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر فتكفلهم الدولة الإسلامية، كما قال عمر بن الخطاب لأحد عماله عندما وجد شيخًا من أهل الذمة: انظر هذا وضُرَبَاءَه، فوالله ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًّا ثم نخذله عند الهرم. وللأقلِّيَّات غير المسلمة في الدولة الإسلاميَّة الحقّ في تولِّي وظائف الدولة كالمسلمين إلا ما غلب عليه الصبغة الدينيَّة.. وكذلك لهم حق حماية أموالهم وكرامتهم، فقال ", وأعطى عمر بن الخطاب أهل إيلياء أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها. وهناك حق حماية النفس، وفي ذلك يقول
    ولهم حق الحماية من الاعتداء الخارجي، وهذا الحق مرتبط بقضية الجزية، فالجزية ضريبة سنويَّة على الرءوس، مفروضة على أهل الذمة، وتؤخذ من رجالهم البالغين القادرين المشاركين في القتال فقط، وذلك نظير أن يُدَافع عنهم المسلمون ونظير إشراكهم في المرافق العامة، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُرَدُّ إليهم جزيتهم. أما مقدار الجزية فيقول الله تعالى:
    "لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا
    [5]وإنما ترجع إلى تقدير الإمام الذي عليه أن يراعي طاقات الدافعين ولا يرهقهم، كما عليه أن يرعى المصلحة عامَّةً للأمَّة وفي كل الأحوال فهي دائمًا أقل من مقدار الزكاة المفروض على المسلمين.
    [1] (سورة الممتحنة: 8).
    [2] (البقرة: 256).
    [3] البخاري: كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم (2930)، النسائي (4666).
    [4] أبو داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (2654)، البيهقي: السنن الكبرى، 9/205.
    [5] (الطلاق:7).

    القانون الإسلامي العام تجاه الأقليات
    في البداية يجب علينا تحديد بعض المصطلحات المهمَّة قبل البدء في تحديد الحقوق التي تتمتَّع بها الأقلِّيات غير المسلمة داخل الدولة الإسلاميَّة، ومن هذه المصطلحات مصطلح دولة؛ والتي وردت لها عدَّة تعريفات ومن هذه التعريفات أنها مجموعة من الأفراد يقطنون إقليمًا معيَّنًا، ويخضعون لسلطان الأغلبيَّة أو سلطان طائفة منهم.والغاية من هذه الدولة هي إقامة حكم الله في الأرض، وحمل الناس على طاعة الله والعمل بكتابه وسُنَّة نبيِّه r، وحفظ الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه، وصونه من التحريف والتبديل والتعطيل، وقمع الفتن وإماتة البدع وإحياء السُّنَنِ، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، بما يُحَقِّق صلاح أمور الناس، وتدبير أمور الدنيا وفقًا للتعاليم الدينيَّة، وقد أجمل ذلك كله الماوردي في عبارته: "حراسة الدين, وسياسة الدنيا به"[1].
    أما مصطلح أهل الذمَّة فقد أُطلق على مواطني الدولة الإسلاميَّة من غير المسلمين، وبخاصَّة اليهود والنصارى الذين كان لهم عهد مع المسلمين، والذمَّة في اللغة تعني: العهد والضمان والأمان؛ لكونهم به صاروا في ذمَّة رسول الله وفي ذمَّة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم؛ ليعيشوا في حماية الإسلام وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنِّين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، ثمَّ اتَّسع هذا المعنى الاصطلاحي ليشمل أهل الكتاب كافَّة - أي أصحاب التوراة والإنجيل من النصارى واليهود، ومَن لا كتاب لهم مثل المجوس - مقابل التزامهم بواجباتهم تجاه مجتمع المسلمين.
    ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن عبارة أهل الذمَّة ليست عبارة تنقيص أو ذمٍّ, بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديُّنًا وامتثالاً للشرع, وإن كان بعضهم يتأذَّى منها فيمكن تغييره؛ لأن الله لم يتعبَّدنا به، وقد غيَّر سيدنا عمر t لفظ الجزية الذي ورد في القرآن استجابة لعرب بني تغلب من النصارى الذين أَنِفُوا من الاسم، وطلبوا أن يُؤْخَذَ منهم ما يُؤْخَذُ باسم الصدقة
    [2].

    القانون الإسلامي العام تجاه الأقليات
    من عظمة التشريع الإسلامي أنه شمل برعايته كلَّ مَن يعيش في ظلاله، فوَجَدَت الأقلِّيَّة غير المسلمة في المجتمع المسلم أو في الدولة الإسلاميَّة ما لم تجده أقلِّيَّة أخرى في أي قانون وفي أي بلد آخر من حقوق وامتيازات؛ وذلك لأن العَلاقة بين المجتمع المسلم والأقلِّية غير المسلمة تحكمها القاعدة الربانيَّة: "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون
    [3]".
    فهاتان الآيتان حدَّدتا الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يجب أن يُعامِل به المسلمون غيرهم، وهو البرُّ والقسط لمن لم يناصبهم العداء، وكل النوازل والمستجدات ينبغي ردُّها إلى ذلك الأساس، وما كان للعَلاقة بين المسلمين وغيرهم أن تخرج عن الإطار العامِّ والهدف الأسمى الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، وهو قيام الناس بالقسط، لذلك يقول عامَّة المفسِّرين عن الآية الأولى: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز بِرِّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم. وقال القرطبي: هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.
    وإذا كان جُلُّ المفسِّرين على أن المقصود بـ "القسط" في الآية السابقة هو العدل، وإذا كان العدل في حدِّ ذاته واجبًا على المسلم تجاه الجميع أعداءً كانوا أو أصدقاء، لقوله تعالى: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
    [4] فإن القسط هنا قد أَخَذ اعتبارًا آخر وهو الإحسان بالمال؛ فقال ابن العربي: "وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ": أي تعطوهم قسطًا من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يُقاتل.
    هذه هي نظرة الإسلام لغير المسلم، نظرة فريدة يتمتَّع فيها غير المسلم بحقوق وامتيازات تتَّضح في النقاط التالية :

    حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية
    القاعدة الأولى في معاملة الأقلِّيَّات في الدولة الإسلاميَّة هي أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وذلك غير أمور محدَّدة مستثناة...
    [1] الماوردي: الأحكام السلطانية.
    [2] أبو بكر بن أبي شيبة: مصنف ابن أبي شيبة، 3/88، الطبري: تاريخ الطبري، 3/158، د. عصام أحمد البشير: معالم حول أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، موقع الإسلام اليوم.
    [3] (سورة الممتحنة: 8، 9).
    [4] (سورة المائدة: 8).
    أولاً: حقُّ حرِّيَّة الاعتقاد
    لم تكن الشريعة الإسلامية هي التي تأمر بإكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، فقضية العقيدة في الإسلام هي قضية اقتناع بحت بَعْدَ طول تروٍّ وبحث ونظر، وقد أعلن الإسلام المبدأ العظيم في ذلك في قوله تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[1]", وقوله تعالى: "أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[2]
    يقول ابن كثير في تفسير الآية الأولى: أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكْرَهَ أحدٌ على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونَوَّر بصيرته دخل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبه, وختم على سمعه وبصره فإنه لا يُفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا
    [3].
    ومن أبرز ما يمكن أن نتلمَّسه في التدليل على ذلك ما كان من كفالة الرسول لليهود الحرِّيَّة في البقاء على دينهم، وقد تبعه على ذلك الخلفاء الراشدون من بعده، ومن ذلك ما فعله عمر بن الخطاب مع أهل إيلياء (القدس)، حيث وقَّع معهم صلحًا نصَّ فيه على حرِّيَّتهم الدينيَّة، وحُرْمَة معابدهم وشعائرهم، ومما جاء فيه: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسْكَن كنائسهم، ولا تُهدم ولا يُنتَقَص منها، ولا من حيِّزها، ولا مِن صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارُّ أحد منهم..."
    [4].
    [1] (البقرة: 256).
    [2] (يونس: 99).
    [3] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 1/682.
    [4] تاريخ الطبري 3/ 105.
    ثانيًا: حق حماية النفس
    كما حرص الإسلام على حياة بنيه المسلمين وعصمة دمائهم، فقد حرص كذلك على حياة غير المسلمين وعصمة دمائهم، وفي ذلك يقول r: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا"[1]فدماؤهم وأنفسهم معصومة - كما يقول الدكتور القرضاوي - باتِّفاق علماء المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أنَّ قتل الذمِّيِّ كبيرة من كبائر المحرَّمات لهذا الوعيد الذي جاء في الحديث[2]..
    وبهذا النهج اقتدى صحابة رسول الله والمسلمون من بعدهم، فهذا هو عليٌّ وقد أُتِيَ برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمَّة، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه، فقال: إني قد عفوت، قال: فلعلَّهم هدَّدوك وفرقوك. قال: لا، ولكنَّ قَتْلَه لا يردُّ علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ. قال: أنت أعلم؛ مَن كانت له ذمَّتنا فدمه كدمنا، ودِيَتُه كدِيَتِنَا، وفي رواية أخرى: "إنما بذلوا الجزية لتكونَ دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا"، وبمثل ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه في مسلم قَتَل ذمِّيًّا، فأمره أن يدفعه إلى وَلِيِّه، فإن شاء قَتَلَه، وإن شاء عَفَا عنه، فدُفِعَ إليه فضرب عنقه
    [3].
    يقول الدكتور القرضاوي: وكما حمى الإسلام أنفسهم - أهل الذِّمَّة - من القتل حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب، فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم، ولو تأخَّروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات الماليَّة المقرَّرة عليهم كالجزية والخَرَاج، هذا مع أن الإسلام تشدَّد كل التشدُّد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة
    [4].
    بل إن من الطريف في ذلك أن الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وأوغلوا فيها توقَّفوا عن قتل أهل الذِّمَّة خشية نَقْضِ عهدهم، يقول ابن حجر: "الخوارج لما حَكَمُوا بكفر مَن خالفهم استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذِّمَّة فقالوا: نَفِي لهم بعهدهم"
    [5].
    [1] البخاري: كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم (2930)، النسائي (4666).
    [2] يقصد الحديث السابق.
    [3] عبد الرزاق بن همام: مصنف عبد الرزاق 10/ 101، 102 .
    [4] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [5] ابن حجر: فتح الباري 19/ 389.
    ثالثًا: حق الكرامة
    الناس كل الناس في نظر الشريعة الإسلاميَّة هم أبناء هذه العائلة الإنسانيَّة التي كرَّمها الله بغضِّ النظر عن الدِّينِ أو اللون أو الجنس، يقول تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[1]".
    وإذا كان اختلاف الناس آية من آيات الله كما قال : "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ
    [2]"، فإن هذا الاختلاف لا يجوز - كما يقول المُزَيْنِيُّ - أن يكون سببًا في التنافُر والعداوة، بل إنه يجب أن يكون سببًا للتعارُف والتلاقي على الخير والمصلحة المشتركة؛ فالله تعالى يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[3]".
    وانطلاقًا من هذه المكانة العالية التي خصَّ الله تعالى بها البشر كان لا بُدَّ إذًا من مراعاة الكرامة الإنسانيَّة للإنسان، مسلمًا كان أمْ غيرَ مسلمٍ، ولا أخال أنَّ دِينًا يُوازي الإسلام في حفظ كرامة الإنسان، حتَّى الذي من غير أهله، فهو يُؤَكِّد على أنَّ أصل البشر واحدٌ، وأنهم متساوون في الإنسانية والحقوق، وميزان التفاضُل الذي وضعه القرآن الكريم إنما هو ما يُقَدِّمه هذا الإنسان من خيرٍ للإنسانيَّة كلِّها، وذلك مع الإيمان الحقِّ بالله تعالى؛ قال تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
    [4]".
    وقد أكَّد رسول الله هذا المبدأ في خطبته في حجة الوداع في العام العاشر من هجرته، حيث قال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ ؟"
    [5].
    ومن صور المحافظة على كرامة غير المسلمين - كما يقول المزيني - حقُّهم في مراعاة مشاعرهم حال المجادلة، ومجادلتهم بالحسنى، قال تعالى: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
    [6]".
    وقد بلغ من تكريم المولى تبارك وتعالى للإنسان أنَّه نهى المسلمين أن ينالوا من الآلهة التي يعبدها المشركون بالسبِّ، حتَّى لا يؤدِّيَ ذلك بهم إلى النيل من الله الإله الحقِّ، وفي ذلك تكريم للإنسان؛ فاحترام شعوره نحو الأشياء التي يقدِّسها احترامًا لكرامته؛ قال تعالى: "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
    [7] وفي ذلك يقول الإمام القرطبي عن أهل الذمَّة: "فلا يحلُّ لمسلم أن يسبَّ صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية"[8].
    وحذَّر أيضًا الرسول من ظُلم أهل الذِّمَّة وانتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصمًا للمعتدي عليهم، فقال: "مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
    [9]، وكان ذلك واقعًا عمليًّا في عهده لأهل نجران - كما سيأتي - أنه: "لا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ رَجُلٌ بِظُلْمِ آخَرَ"[10].
    ولهذا كله اشتدَّت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين، بدفع الظلم عن أهل الذِّمَّة، وكفِّ الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبَلِهم، فكان عمر يسأل الوافدِينَ عليه من الأقاليم عن حال أهل الذِّمَّة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذًى، فيقولون له: ما نعلم إلا وفاءً
    [11]. أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كُلاًّ من الطرفين وفَّى بما عليه، وهذا أيضًا عليُّ بن أبي طالب يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا"[12].
    ولعلَّ أشهر الأمثلة في مراعاة كرامة الأقلِّيَّات غير المسلمة قصَّة الْقِبْطِيِّ مع عمرو بن العاص والي مصر؛ حيث ضرب ابنُ عمرٍو ابنَ القِبْطِيِّ بالسوط، وقال له: أنا ابن الأكرمين. فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المدينة وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرًا وابنَه، وأعطى السوطَ لابن القبطي، وقال له: اضرب ابن الأكرمين. فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر، وقال له: أَدِرْها على صلعة عمرو، فإنما ضربك بسلطانه. فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني. ثم التفت عمر إلى عمرو، وقال كلمته الشهيرة: "يَا عَمْرُو، مَتَّى اسْتَعْبَدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا ؟!"
    [13].
    وممَّا يستحقُّ التسجيل في هذه القصَّة: أنَّ الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيَّتهم في ظلِّ الإسلام، حتَّى إنَّ لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حقٍّ، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يُحَرِّك بها أحدٌ رأسًا، ولكنَّ شعور الفرد بحقِّه وكرامته في كَنَفِ الدولة الإسلاميَّة جعل المظلوم يركب المشاق، ويتجشَّم وَعْثَاءَ السفر الطويل من مصر إلى المدينة المنوَّرة، واثقًا بأن حقَّه لن يضيع، وأن شَكَاتَه ستجد أذنًا صاغية.
    [1] (الإسراء: 70).
    [2] (الروم: 22).
    [3] (الحجرات: 13).
    [4] (الحجرات: 13).
    [5] إبراهيم بن محمد الحمد المزيني: التعامُل مع الآخر شواهد تاريخية من الحضارة الإسلاميَّة، والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده, وصححه الألباني.
    [6] (العنكبوت: 46).
    [7] (الأنعام: 108).
    [8] تفسير القرطبي 7/ 61 .
    [9] أبو داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (2654)، البيهقي: السنن الكبرى، 9/205.
    [10] البلاذري: فتوح البلدان، 1/78، ابن كثير: البداية والنهاية، 5/66 .
    [11] الطبري: تاريخ الطبري، 3/184 .
    [12] البيهقي: السنن الكبرى، 8/34، ابن قدامة: الشرح الكبير، 10/630.
    [13] ابن الجوزي: تاريخ عمر، ص129،130، ابن الحكم: فتوح مصر، 195 .
    رابعًا: حق حماية الأموال
    كما أن أموال المسلمين معصومة فكذلك أموال الأقلِّيَّات غير المسلمة معصومة؛ إذ يحرم أخذها أو الاستيلاء عليها بغير وجه حقٍّ، وذلك كأَنْ تُسْرَق أو تُغْصَب أو تُتْلَف، أو غير ذلك مما يقع تحت باب الظلم، وقد جاء في عهد النبي إلى أهل نجران: "ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمَّة محمَّد النبي رسول الله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير..."[1]. وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما أن: "امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحِلِّهَا[2]".
    وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يَعُدُّونه -حسب دينهم - مالاً، وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين، فالخمر والخنزير لا يُعتبران عند المسلمين مالاً مُتَقَوَّمًا، ومَن أَتْلَفَ لمسلم خمرًا أو خنزيرًا لا غرامة عليه ولا تأديب، بل هو مثاب مأجور على ذلك، لأنه يُغَيِّر منكرًا في دينه، يجب عليه تغييره أو يُستحب حسب استطاعته، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين لا لنفسه ولا ليبيعها للغير، أما الخمر والخنزير إذا ملكهما غير المسلم، فَهُمَا مالان عنده، بل من أنفس الأموال، كما قال فقهاء الحنفيَّة، فمن أتلفهما على الذِّمِّيِّ غُرِّمَ قيمتهما
    [3].
    [1] البلاذري: فتوح البلدان، 1/77، ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/258، 288.
    [2] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [3] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    خامسًا: حق حماية الأعراض
    كما اهتمَّ الإسلام بحفظ الدِّين والنفس والمال، وفي سبيل حفظ بقيَّة الحقوق الأساسيَّة للإنسان باعتبارها حُرُمات معصومة، فإن الإسلام وكما يحمي عِرض المسلم فكذلك يحمي عِرض غير المسلم، فلا يتعرَّض للأقلِّيَّات غير المسلمة بما يؤذيها في النفس، أو في الأهل، أو في العمل، أو في غير ذلك مما يعدُّ انتهاكًا للأعراض، وعليه فلا يجوز في حقِّهم السبُّ، أو الغيبة، أو الاتهام بالكذب، أو التشنيع بالباطل، أو ذكر أحد منهم بما يكره في نفسه أو نسبه أو خَلْقِه أو خُلُقه، أو غير ذلك ممَّا يتعلَّق به.
    وهذا ما لم يهتمَّ به تشريع سماوي ولا أرضي بحقِّ أية أقلِّيَّات في أي زمان أو مكان غيرُ الإسلام، يقول الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي: "إن عقد الذِّمَّة يُوجب لهم حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمَّتِنَا وذمَّة الله تعالى، وذمَّة رسول الله ، وذمَّة دِين الإسلام، فمن اعتدى عليهم - ولو بكلمة سوء أو غيبة - فقد ضيَّع ذمَّة الله وذمَّة رسوله ، وذمَّة دِين الإسلام.
    سادسًا: حق حرية العمل والكسب
    حثَّ الإسلام على العمل ورغَّب فيه، وبيَّن رسوله الكريم أن الأنبياء قبله - ثم هو معهم - كانوا يأكلون من كسب أيديهم، والأقلِّيَّاتُ في الدولة الإسلاميَّة باعتبارهم من رعاياها منحهم التشريع الإسلاميُّ حقَّ العمل والتكسُّب المشروع وتكوين الثروة، ولم يُحَدِّد ملكيَّتهم، ولم يمنعهم من مزاولة أي الأعمال شاءوا من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.
    يقول الدكتور القرضاوي: قرَّر الفقهاء أن أهل الذِّمَّة في البيوع والتجارات وسائر العقود والمعاملات الماليَّة كالمسلمين، ولم يَسْتَثْنُوا من ذلك إلا عقد الربا؛ فإنه محرَّم عليهم كالمسلمين، وقد رُوِي أن النبي كتب إلى مجوس هجر: "إِمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". قال: كما يُمْنَع أهل الذِّمَّة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها لشُرب الخمر وتسهيل تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور؛ ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاصِّ؛ سدًّا لذريعة الفساد وإغلاقًا لباب الفتنة، وفيما عدا هذه الأمور المحدودة، يتمتَّع الذمِّيُّون بتمام حرِّيَّتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة
    [1].
    ويشهد بذلك "آدم ميتز" أستاذ اللغات الشرقية بجامعة "بازل" بسويسرا حين يقول: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذِّمَّة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذِّمَّة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده"
    [2].
    [1] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [2] آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة الأستاذ محمد عبدالهادي أبو ريدة، 1/ 86، نقلاً عن: د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    سابعًا: حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر
    لأنهم من رعاياها، ولأن رسول الله يقول: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"[1]. فقد كان من واجب الدولة الإسلاميَّة أن تهتم بالأقلِّيَّات التي على أرضها، وتكفل لهم معيشة كريمة ملائمة لهم ولمن يعولونهم، وإنه من الطبيعي أن الإنسان - أي إنسان - حين يهرم أو يعجز أو يكون فقيرًا، فإنه يكون في أشدِّ الحاجة إلى الرعاية والعناية والكفالة الاجتماعية من مجتمعه الذي يعيش فيه، وفي ذلك فإن الإسلام قد ضرب أروع الأمثلة تجاه رعيته عامَّة، والتي كان من بينها الأقلِّيَّات التي تعيش على أرضه ولا تَدِينُ بشريعته!!
    وهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يضرب أروع الأمثال في توفير الرعاية الاجتماعيَّة لأحد المحتاجين من أقلِّيَّات الدولة الإسلاميَّة من غير المسلمين، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج" قال: "وحدثني عمر بن نافع، عن أبي بكر، قال: مرَّ عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر. فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء ممَّا في المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضُرَبَاءَه، فوالله ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًّا ثم نخذله عند الهرم، "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
    [2]"، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه[3]".
    وتعليقًا على ذلك يقول الدكتور القرضاوي: وبهذا تقرَّر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره "مبدأً عامًّا" يشمل أبناء المجتمع جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ولا يجوز أن يبقى في المجتمع المسلم إنسان محروم من الطعام أو الكسوة أو المأوى أو العلاج، فإنَّ دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلمًا كان أو ذميًّا"
    [4].
    [1] البخاري: كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (844)، مسلم: كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق (3408).
    [2] (التوبة: 60).
    [3] البلاذري: فتوح البلدان 1/ 153، د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [4] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    ثامنًا: حق الحماية من الاعتداء الخارجي
    حق الحماية من الاعتداء الخارجي مكفول مِن قِبَلِ الدولة الإسلاميَّة بما تملكه من سلطة شرعيَّة وقوَّة عسكريَّة لكل مواطنيها، وبخصوص الأقلِّيَّات غير المسلمة فإن ذلك الحقَّ واجب شرعي لهم، حتى ولو كَلَّف ذلك المسلمين أنفسهم وأرواحهم!! فقد نقل الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول الإمام الظاهري ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": "إن مَن كان في الذِّمَّة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نَخْرُجَ لقتالهم بالكُرَاعِ[1] والسلاح، ونموت دون ذلك؛ صونًا لمن هو في ذمَّة الله تعالى وذمَّة رسوله ؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمالٌ لعقد الذِّمَّة". وحكى في ذلك إجماع الأمة[2].
    وقد كان من المواقف الناصعة في ذلك عبر تاريخ المسلمين ما كان من شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما تغلَّب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليُكلِّم "قطلوشاه" - نائب قازان خان التتار على الجيش - في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذِّمَّة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمَّتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الذِّمَّة ولا من أهل الملَّة، فلما رأى إصراره وتشدُّده أطلقهم له
    [3]!!.
    تلك هي حقوق الأقلِّيَّات غير المسلمة في المجتمع الإسلامي أو في الدولة الإسلاميَّة، إلا أنه بقيت هناك قضيتان مهمَّتان تتعلَّق أيضًا بهذه الأقلِّيَّات، وفي الصفحات التالية نستطيع أن نتبيَّنهما.
    [1] الكُرَاعُ: السلاح، وقيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح، و ابن منظور: لسان العرب، مادة (كرع).
    [2] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [3] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    قضية الجزية
    سيل من الأقاويل والمغالطات والمهاترات حِيكَ حول قضية الجزية في الإسلام، وكان المبشِّرون والمستشرقون هم الذين تَوَلَّوْا كِبْرَهَا، الأمر الذي جعل أهل الذِّمَّة أو الأقلِّيَّات في الدولة الإسلاميَّة يفزعون من مجرد ذكر اسمها؛ إذ إنهم يرونها - كما صُوِّرت لهم - صورة من صُوَرِ الظلم والقهر والإذلال للشعوب التي دخلت تحت وِلاية المسلمين، وعقوبة فُرِضت عليهم مقابل امتناعهم عن الإسلام!! والحقيقة أن هذا فيه إجحاف كبير ومغالطة للحقيقة، ونحن بصدد الكشف عنه وبيانه فيما يلي:

    تعريف الجزية
    الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، والعرب تقول: جزى، يجزي، إذا كافأ عمَّا أسدي إليه. والجزية مشتقٌّ على وزن فِعلة من الجزاء والمجازاة، بمعنى: أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وقال ابن المطرِّز: بل هي من الإجْزَاء؛ لأنها تُجْزِئُ عن الذِّمِّيِّ.
    وعلى كِلاَ المعنيين فهي ليست - كما زعم بعض الفقهاء وتلقَّفها المتربِّصون - عقوبة ينالها الكافر على كُفْرِه؛ فإن عقوبة الكفر لن تكون بضعة دنانير، ولو كانت الجزية عقوبة على الكفر لما أسقطت عن النساء والشيوخ والأطفال – وغيرهم كما سيأتي في موضعه - لاشتراكهم في صفة الكفر، بل لو كان كذلك لزاد مقدارها على الرهبان ورجال الدين، بدلاً من أن يُعفوا منها
    [1].
    وأما الجزية عند أهل الاصطلاح فتعني: ضريبة سنويَّة على الرءوس، تتمثَّل في مقدار زهيد من المال، يدفعها فئة معينة – سنبينها قريبًا – من أهل الكتاب بصفة عامَّة، والمجوس والمشركون في آراء بعض الفقهاء، وذلك نظير أن يُدَافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُرَدُّ إليهم جزيتهم، وقد تكرَّر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرًا، وسنرى قريبًا بعضًا منه.
    على من تجب الجزية؟
    رغم أن الإسلام لم يكن بدعًا بين الأديان حين فرض الجزية على غير المسلمين في الدولة الإسلاميَّة، كما لم يكن المسلمون كذلك بدعًا بين الأمم حين أخذوا الجزية ممن دخلوا في كنف دولتهم وصاروا تحت ولايتهم، حيث أن أخذ الأمم الغالبة للجزية - كما يقول الدكتور السقار - من الأمم المغلوبة أشهر من علم، والتاريخ البشري أصدق شاهد على ذلك، رغم ذلك فإن الإسلام كان متفرِّدًا بين كل الأديان والقوانين الوضعيَّة في معاملة الأقلِّيَّات التي تعيش على أرض دولته من هذه الناحية.
    فبعد أن أعطاهم كافَّة حقوقهم، والتي وضَّحناها أنفًا، والتي يستحيل أن تتوافر لهم أو لغيرهم من الأقلِّيَّات في كنف أي دولة أخرى غير مسلمة، بعد كل هذا كان من رحمته وسماحته أن فرض الجزية على فئة معيَّنة منهم ومنعها عن آخرين، فالجزية تؤخذ من الرجال البالغين القادرين المشاركين في القتال فقط والذين يستطيعون حمل السلاح، ولا تؤخذ ممن سواهم.
    مقدار الجزية
    رحمة الإسلام وسماحته تجاه الأقلِّيَّات على أرضه في أمر الجزية لم تقف فقط عند تعيين وتحديد الفئة التي يجب عليها وحدها دفع الجزية، وإنما ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: "لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا
    [2] ويقول أيضًا: "لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[3] وكانت هذه هي القاعدة العامَّة والعريضة في تحديد قيمة ومقدار الجزية، فليس للجزية - كما يقول الدكتور القرضاوي- حدُّ مُعين، وإنما ترجع إلى تقدير الإمام الذي عليه أن يراعي طاقات الدافعين ولا يرهقهم، كما عليه أن يرعى المصلحة عامَّةً للأمَّة، يقول: وقد جعل عمر الجزية على الموسرين 48 درهمًا، وعلى المتوسِّطين في اليسار 24 درهمًا، وعلى الطبقة الدنيا من الموسرين 12 درهمًا، وبهذا سَبَقَ الفكرَ الضريبي الحديث في تقرير مبدأ تفاوت الضريبة بتفاوت القدرة على الدفع، ولا تَعَارُض بين صنيع عمر وقول النبي r لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا"[4]؛ لأن الفقر كان في أهل اليمن أغلب، فراعى النبي حالتهم[5].
    وإن تعجب فعجب أن قيمة الجزية هذه وفي كل الأحوال كانت أقل بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة المفروضة عليهم رجالاً ونساء وشيوخًا، والتي هي عبارة عن 2.5% من إجمالي مال المسلم إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول، والتي هي بدورها أقلُّ من أي ضريبة في العالم!!
    وأعجب منه أن الجزية هذه كانت – بلسان أهلهم - أقلَّ بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحُكْمِ أنفسهم من غير المسلمين على شعوبهم وأبناء جلدتهم..!!
    لماذا الجزية؟!!
    لم يكن الإسلام يومًا ما متعسِّفًا في فرضه الجزية على الأقلِّيَّات التي تعيش في دولته، بل كان منصفًا كل الإنصاف في إيجابه هذه الجزية وإلزامها على القادرين عليها كما سبق أن رأينا، وفي سبيل توضيح سبب ذلك يقول الدكتور القرضاوي: أوجب الإسلام على أبنائه (الخدمة العسكريَّة) باعتبارها (فرض كفاية) أو (فرض عين)، وناط بهم واجب الدفاع عن الدولة، وأعفى من ذلك غير المسلمين، وإن كانوا يعيشون في ظلِّ دولته؛ ذلك أن الدولة الإسلاميَّة دولة (عقائديَّة) أو بتعبير المعاصرين دولة (أيديولوجيَّة)، أي أنها دولة تقوم على مبدأ وفكرة، ومثل هذه الدولة لا يُقَاتِل دفاعًا عنها إلا الذين يؤمنون بصحَّة مبدئها وسلامة فكرتها، وليس من المعقول أن يُؤخذ شخصٌ ليضع رأسه على كفِّه، ويسفك دمه من أجل فكرة يعتقد ببطلانها، وفي سبيل دين لا يؤمن به، والغالب أن دين المخالفين ذاته لا يسمح لهم بالدفاع عن دين آخر، والقتالِ من أجله.
    ولهذا – والكلام ما زال للدكتور القرضاوي - قصر الإسلامُ واجب (الجهاد) على المسلمين؛ لأنه يُعَدُّ فريضة دينيَّة مقدَّسة، وعبادة يتقرَّب بها المسلم إلى ربه... ولكنَّ الإسلام فرض على هؤلاء المواطنين من غير المسلمين أن يساهموا في نفقات الدفاع والحماية للوطن عن طريق ما عُرِفَ في المصطلح الإسلامي باسم (الجزية). فالجزية - فضلاً عن كونها علامة خضوع للحكم الإسلامي- هي في الحقيقة بدل مالي عن (الخدمة العسكريَّة) المفروضة على المسلمين؛ ولهذا فرضها الإسلام على كل قادر على حمل السلاح من الرجال، فلا تجب على امرأة ولا صبي؛ لأنهما ليسا من أهل القتال، ومثل المرأةِ والصبيِّ الشيخُ الكبيرُ، والأعمى، والزَّمِن (صاحب العاهة)، والمعتوه، وكل مَن ليس من أهل السلاح.
    وفي ذلك قدَّم الدكتور القرضاوي شهادة المؤرِّخ الغربي آدم ميتز حين قال: "كان أهل الذِّمَّة - بحكم ما يتمتَّعون به من تَسَامُح المسلمين معهم، ومن حمايتهم لهم - يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهِّبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار.
    ويُكمل الدكتور القرضاوي فيقول: على أن هناك علَّة أخرى لإيجاب الجزية على أهل الذِّمَّة، وهي العلَّة التي تُبَرِّرُ فرض الضرائب من أي حكومة في أي عصر على رعاياها، وهي إشراكهم في نفقات المرافق العامَّة، التي يتمتَّع الجميع بثمراتها ووجوه نشاطها، كالقضاء والشرطة، وما تقوم به الدولة من إصلاح الطرق وإقامة الجسور، وغيرها. فالجزية إذن هي بدل عن فريضتين فُرِضتا على المسلمين، وهما: فريضة الجهاد وفريضة الزكاة؛ ونظرًا للطبيعة والقدسيَّة الدينيَّة لهاتين الفريضتين عند المسلمين فلم يُلزم بهما غيرهم
    [6].
    هل تسقط الجزية؟!!
    كانت الجزية من قِبَل المسلمين - كما أوضحنا سابقًا - بعد توفير أوَّلاً كافَّة الحقوق لأهل ذمَّتهم أو للأقلِّيَّات التي على أرضهم، ثم ثانيًا بعد إلزام المسلمين أنفسهم الكفَّ والدفاع والحماية عنهم، ومن هنا فليست هذه القاعدة مطلقة، وبطبيعة الحال فإنه إذا لم تستطع الدولة الإسلاميَّة – مثلاً - أن تقوم بدورها في حمايتهم، فإنه - ولا شكَّ - لن يعود لها أدنى حقٌّ في طلب هذه الجزية، وهو عين ما حدث في عهد الخليفة عمر بن الخطاب حين حشد هرقل جيشًا ضخمًا لصدِّ قوَّات المسلمين في بلاد الشام؛ إذ إنه لما علم قائد المسلمين أبو عبيدة بن الجرَّاح بذلك كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بردِّ ما جُبي من أهل الذمَّة من الجزية والخراج في هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول لهم: "إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جُمِعَ لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنَّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". وهنا دعا النصارى بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردَّكم الله علينا، ونصركم عليهم - أي على الروم - فلو كانوا هم لم يردُّوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي لنا"
    [7].
    هذا، وبطبيعة الحال أيضًا فإن الجزية تسقط كذلك – كما يقول الدكتور القرضاوي - باشتراك أهل الذِّمَّة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضدَّ أعداء الإسلام، وقد نُصَّ على ذلك صراحة في بعض العهود والمواثيق التي أُبْرِمَتْ بين المسلمين وأهل الذِّمَّة في عهد عمر
    [8].
    إذن فالجزية تسقط عن تلك الأقلِّيَّات في حال إذا ما لم يستطع المسلمون الدفاع عنهم، وفي حال ما إذا اشتركوا في الخدمة العسكريَّة والدفاع عن الدولة والوطن الأم مع المسلمين، وعليه فإذا كانت الأوضاع الآن قد تغير الكثير منها عمَّا كان من ذي قبل، وصار جميع أبناء الدولة الواحدة والوطن الواحد يشتركون في الدفاع عنه، بغضِّ النظر عن الملَّة أو الديانة، ومثل ذلك أيضًا في أداء الضرائب ومستحقَّات الدولة، فإنه وفي سياق هذه المتغيِّرات يمكن الوصول إلى حلٍّ إيجابي فيما يتعلَّق بقضية الجزية هذه، ومع الوضع في الحسبان فرضيَّة الزكاة عند المسلمين.
    وعن قضية الجزية يقول المؤرخ سير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على النصارى - كما يريدنا بعض الباحثين على الظنِّ - لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذِّمَّة، وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تَحُولُ ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كَفَلَتها لهم سيوف المسلمين"
    [9].
    [1] منقذ بن محمود السقار: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي: المطلع على أبواب الفقه.
    [2] (الطلاق:7).
    [3] (البقرة:286).
    [4] النسائي: كتاب الزكاة، باب زكاة البقر (2407)، وأبو داود (2642)، والترمذي (556)، وقال: حديث حسن. وأحمد (21027).
    [5] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [6]د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [7] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [8] د. يوسف القرضاوي: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
    [9] الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: حسن إبراهيم حسن، وإسماعيل النحراوي، وعبد المجيد عابدين.
    قضية الولايات العامة
    أحقِّيَّة الأقلِّيَّات في الدولة الإسلاميَّة في حقَّ العمل والتكسُّب المشروع وتكوين الثروة، وأن شأنهم في ذلك هو شأن المسلمين، وفي هذه القضية والتي تُسَمَّى بقضية الولايات العامَّة، أو ما يمكن أن نطلق عليه تولية الأقلِّيَّات غير المسلمة لوظائف وولايات عامَّة في الدولة الإسلاميَّة، والتي قد يفهم موقف الدولة الإسلاميَّة منه على غير معناه، فتوضيحه كما يلي:
    قرَّر فقهاء الإسلام أنه للأقلِّيَّات غير المسلمة في الدولة الإسلاميَّة الحقّ في تولِّي وظائف الدولة كالمسلمين إلا ما غلب عليه الصبغة الدينيَّة، وذلك كالإمامة أو رئاسة الدولة، أو القيادة في الجيش، أو القضاء بين المسلمين، أو الولاية على الصدقات، ونحو ذلك، وبصفة عامَّة فإن تفسير ذلك هو أن الحكم في الدولة الإسلاميَّة يكون بكتاب الله وسُنَّة رسوله ، وهو الأمر الذي لا تعترف بهما الأقلِّيَّات غير المسلمة أصلاً، ولا يقتنعون بحكمها، فكيف إذن يتولَّون هذه المناصب التي لا يُستغنى فيها عنهما ويحكمون بهما؟!
    فالإمامة أو الخلافة – على سبيل المثال - هي رئاسة عامَّة في الدين والدنيا، وهي خلافة عن النبي ، ولا يجوز أن يخلف النبي فيها إلا مسلم، كما لا يُعْقَل أن يُنَفِّذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم. وبالنسبة إلى قيادة الجيش فهو ليس عمل مدني صرف، وإنما هو عمل من أعمال العبادة في الإسلام؛ إذ إن الجهاد ذروة سنام الإسلام، أما القضاء فإنما هو حكم بالشريعة الإسلاميَّة، وكما ذكرنا فلا يُعقل أن يُطْلَب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به، ومثل ذلك الولاية على الصدقات ونحوها من الوظائف الدينيَّة.
    وإن اقتصار مثل هذه المناصب على الأكثريَّة والأغلبيَّة في الدولة ليس عليه أي غبار؛ إذ هو مسلك كل المجتمعات غير الإسلاميَّة قديمًا وحديثًا، وما سمعنا بأن مسلمًا تولَّى رئاسة دولة أو حكومة أو قضاء أو أي وزارة في دولة غير إسلاميَّة، ومن هنا فلا إجحاف ولا ظلم في هذه القضية من قِبل المسلمين، ويشهد لذلك أن المناصب عدا تلك الولايات العامَّة من وظائف الدولة فإنه تتساوى فيه الأقلِّيَّات غير المسلمة بالمسلمين تمامًا، وذلك إذا ما تحقَّقت فيهم الشروط التي لا بُدَّ منها، مثل الكفاية والأمانة والإخلاص للدولة.
    وقد بلغ التسامح بالمسلمين مع الأقلِّيَّات غير المسلمة في ذلك حدًّا صرَّح فيه فقهاء كبار - مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية" - بجواز تقليد الذمِّيِّ (النصارى واليهود) "وزارة التنفيذ"، والتي تتمثل مهمته فيها تبليغ أوامر الإمام، ويقوم بتنفيذها، ويُمضي ما يصدر عنه من أحكام، وهذا بخلاف "وزارة التفويض"، والتي يَكِلُ فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور السياسيَّة والإداريَّة والاقتصاديَّة بما يراه!! يقول المؤرِّخ الغربي آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلاميَّة في القرن الرابع الهجري": "من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال (الولاة وكبار الموظفين) والمتصرِّفين غير المسلمين في الدولة الإسلاميَّة، فكأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام، والشكوى من تحكيم أهل الذِّمَّة في أبشار المسلمين شكوى قديمة!!".
    وإن العجب كل العجب بعد ذلك أن يكون هذا هو موقف الإسلام الواضح والصريح مع الأقلِّيَّات غير المسلمة، ثم نجد من الكُتَّاب الغربيين مَن يشوِّه هذا الموقف الناصع، ومَن يَقْلِب الموازين ويفتري على الحقِّ والتاريخ والواقع، ومن ثم يكيل للإسلام والمسلمين زورًا وبهتانًا سيلاً من الاتهامات الملفَّقة في معاملتهم لغير المسلمين!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري