الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

مصر في مرآة الوقت

قد لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون، لكن ربما كان مفيدا لنا أن نعرف على الأقل أين نقف الآن؟

(1)

لا مفر من أن نعترف في البداية بأن الوقت لم يكن معنا.

ولكنه كان علينا.

بمعنى أن تجاوز مدة الأشهر الستة التي كان يتعين فيها تسليم السلطة إلى المدنيين، (التي أعلن عنها يوم 13 فبراير/شباط الماضي)، كان مغامرة فتحت الأبواب لمختلف التداعيات التي أسهم بعضها في إيصالنا إلى ما وصلنا إليه الآن من مزالق وأخطاء.

وسيظل ذلك الاعتراف منقوصا إذا لم نقر أيضا بأن الأزمة التي نحن بصددها الآن، ما كان لها أن تقع لو أننا التزمنا بـ"خريطة الطريق" التي وضعتها لجنة تعديل الدستور، التي إذا كان مقدرا أن تنطلق خطواتها التنفيذية في شهر يونيو/حزيران الماضي (مع نهاية فترة الأشهر الستة التي تحدث عنها بيان المجلس العسكري)، الأمر الذي كان يفترض أن يجعلنا هذه الأيام بصدد الدخول في حسم الانتخابات الرئاسية.

ومن مفارقات الأقدار وسخريتها أن توصيات لجنة تعديل الدستور كان لها دورها في تفجير اللغط الذي أثارته الأقلية حول الانتخابات أولا أم الدستور أولا، ذلك أن كثيرين ينسون أو يتجاهلون أن ما كان مطروحا آنذاك هو تعديل بعض مواد الدستور فقط.

ولكن اللجنة في تصديها للمادة 189 من الدستور الخاصة بإجراءات تعديله أضافت إليها مادة أخرى أعطيت رقم 189 مكررا نصت على أن الأعضاء المنتخبين لمجلسي الشعب والشورى عليهم أن يختاروا أعضاء الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد مشروع الدستور الجديد خلال ستة أشهر.

وهو ما يعني أن اللجنة هي التي أطلقت فكرة إعداد دستور جديد، ولكن الأقلية التي كانت قد قبلت بمجرد تعديل بعض مواد دستور عام 1971، اختطفت الفكرة وأثارت بها الجدل الذي لا تزال بعض أصدائه يتردد حتى الآن.

وإذا جاز لنا أن نتصارح في تحديد المسؤولية عن الوقت الذي أهدر والأزمة التي صرنا إليها، فإنني أشير إلى طرفين بوجه أخص، أولهما المجلس العسكري الذي لا ننكر أنه بذل جهدا كبيرا لتسير السفينة خلال الأشهر الماضية، لكن أداءه شابته أخطاء عدة، كما أنه اتسم بالتردد والارتباك. حتى إنه لم يكن يتحرك إلا تحت ضغط الشارع. أسهم في ذلك أن أعضاءه من العسكريين المحترفين جاؤوا جميعا من خلفيات غير سياسية. ذلك أن قطيعتهم مع السياسة كانت شرطا لاستمرارهم في السلك العسكري وترقيهم إلى الرتب العليا التي بلغوها. وهو ما يعنى أن ظروف الثورة فرضت عليهم أن يتحملوا مسؤولية لم يكونوا مؤهلين لها.

الطرف الثاني يتمثل في عناصر النخبة التي أدارت تراشقها وصراعها طول الوقت من منطلق أيديولوجي وليس سياسيا. بسبب من ذلك فقد صار العنصر الحاكم لمواقفها، كان ولا يزال، ما إذا كانت الخطوات المتخذة تعبر عن التوجه الإسلامي أو العلماني، وليس ما إذا كانت تخدم المصلحة الوطنية أم لا.

(2)

في الوقت الراهن نستطيع أن نقول إننا بإزاء أزمة ثقة في المجلس العسكري، يمكن أن نرجع أسبابها إلى العوامل التالية: ما تضمنته وثيقة الدكتور السلمي (المادتان 9 و10) التي أعطت انطباعا بأن المجلس العسكري يتطلع لاستمرار وصايته على المجتمع -عدم القطيعة مع النظام السابق- الأمر الذي لاحظه كثيرون، حتى إن رئيس المخابرات الإسرائيلية السابق قال إن الذي تغير في مصر هو الحاكم وليس الحكم.

وكانت هذه الملاحظة أوضح ما تكون في الطريقة التي تعامل بها المجلس العسكري مع محاكمات رموز النظام السابق أمام المحاكم المدنية، وإحالته للمدنيين من شباب الثورة إلى المحاكم العسكرية، البطء والتردد في اتخاذ القرارات، حتى إن قرار إصدار قانون إفساد الحياة السياسية استغرق أربعة أشهر لإصداره، عدم الشفافية وعدم الاعتراف بالأخطاء أو الاعتذار عنها.

وكانت أحداث ماسبيرو في الشهر الماضي التي قتل فيها أكثر من 20 شخصا وأحداث ميدان التحرير الأخيرة التي سقط فيها 43 شهيدا، نموذجا للنوازل التي صدمت الرأي العام، ولا تزال محاطة بغموض أضعف ثقة الناس في موقف السلطة. وكانت النتيجة أن أحدا لم يحاسب على تلك الجرائم، الأمر الذي استفز الرأي العام وأهانه.

إزاء ذلك لم ننسَ بعد ما جرى في موقعة ماسبيرو، إلا أننا ما زلنا نعيش صدمة الانقضاض غير المبرر على المعتصمين في ميدان التحرير يوم السبت 19/11، الذي يمثل ذروة الخطايا السياسية التي وقع فيها المجلس العسكري. ولا تزال تحيرنا الأخبار التي تسربت عن صدور أمر بضرورة فض اعتصام أهالي الشهداء الذي كان مستمرا قبل ذلك لأكثر من خمسة أيام. وعن أن ذلك الأمر لم يعلم به في البداية وزير الداخلية ولا رئيس الوزراء. وحين تحول فض الاعتصام إلى كارثة فلم نعرف من الذي أصدر الأمر، وبالتالي فإن أحدا لم يحاسب جنائيا أو سياسيا على ما جرى.

هذا الارتباك الذي عبر عنه المجلس العسكري واكبه ارتباك أسوأ وأعمق في الساحة السياسية، ليس فقط لأن النخب انقسمت فيما بينها، ولكن أيضا لأن الساحة ازدحمت بلافتات وعناوين عرفنا أسماءها وسمعنا نداءاتها، لكننا لم نعرف أوزانها. وفي هذا الهرج جرى ابتذال مصطلح الثوار، بحيث لم تعد تعرف ماذا يمثلون حقا على أرض الواقع، وهل هم الموجودون في ميدان التحرير فقط أم لهم وجودهم في خارجه. كما أننا صرنا نتساءل: هل هؤلاء المحتشدون في الميدان يتكلمون باسم جماعاتهم أو باسم الثورة أو باسم المجتمع المصري بأسره؟

لقد دلتنا خبرة الانتخابات التي تمت أخيرا في تونس والمغرب على أن أعلى الجماعات السياسية صوتا وأكثرها ضجيجا وأقواها حضورا في وسائل الإعلام، هي أضعف القوى السياسية في الشارع وأقلهم حظوظا من تأييد الجماهير. وذلك مؤشر يدعونا إلى الحذر في تقييم من يتصدرون الواجهات في مصر هذه الأيام. ويقدمون أنفسهم بحسبانهم ممثلين للثورة وللرأي العام. وينطلقون من تلك الفرضية للتدخل في تقدير المصائر السياسية وتشكيل هياكل الدولة. وهو حذر يدعونا إلى انتظار تقييم المجتمع لتلك القوى المفترضة أو المفروضة. وفي بورصة السياسة فلا سبيل إلى إحداث ذلك التقييم إلا من خلال الاحتكام إلى صناديق الانتخابات الذي نحنه بصدده الآن.

(3)

الفوضى الحاصلة في الساحة السياسية تشمل أيضا الشعارات والأفكار التي تسوق في الفضاء الإعلامي. أخص بالذكر أسطورتين، أولاهما تتعلق بابتذال مصطلح دماء الشهداء، والثانية تشيع أن ثمة صفقة سرية تمت بين المجلس العسكري والإسلاميين. لقد تردد المصطلح الأول في سياق المطالبة بتأجيل الانتخابات، وأصبح يشهر في وجه كل جهد يبذل خارج ما هو مطروح في ميدان التحرير من مطالب، خصوصا ما تعلق منها بتشكيل مجلس رئاسي مدني يدير البلاد بديلا عن المجلس العسكري.

ذلك أنني أزعم أن الوفاء لدم الشهداء والحفاظ على كرامة الجرحى والمصابين يكون بالاعتذار عن الجرم الذي ارتكب بحقهم ومحاسبة المسؤولين عن وقوعه، وتعويض الأهالي والمصابين. كما يكون بالتمسك بأهداف الثورة والإصرار على تحقيق الأهداف التي استشهدوا من أجلها.

لكن لا أفهم أن يعد إجراء الانتخابات بيعا لدماء الشهداء، في حين يصبح تشكيل المجلس الرئاسي وفاء لتلك الدماء. كأن رافعي ذلك الشعار يقولون إن كل من يخالف رأينا يعد متاجرا بدماء الشهداء. وذلك نوع من الإرهاب الفكري والسياسي الذي يفترض أن يتنزه الثوار عنه.

أستغرب الأسطورة الثانية التي بدأ الترويج لها منذ شكلت لجنة تعديل الدستور برئاسة المستشار طارق البشري، وضمت بين أعضائها السبعة قانونيا من الإخوان وعضوا في اللجنة التشريعية في إحدى دورات مجلس الشعب السابق -ولأن المستشار البشري "يشتبه" في أنه مسلم غيور على دينه وملتزم، ولأن "التهمة" ثابتة- الأستاذ صبحي صالح، فقد ثارت ثائرة غلاة العلمانيين و"الليبراليين" الذين اعتبروا إقصاء أمثال أولئك "المشتبه فيهم" و"المتهمين" أمرا مفروغا منه في فهمهم للديمقراطية. ومنذ ذلك الحين اعتبر هؤلاء أن المجلس العسكري "متواطئ" مع الإسلاميين، رغم أن لجنة تعديل الدستور ضمت سبعة أعضاء من كبار القانونيين، فإن عاصفة النقد تجاهلت وجودهم، واعتبرت أن الرجلين استغفلاهم وأجريا التعديلات من وراء ظهورهم.

وقد حققت الحملة نجاحا في ترهيب أعضاء المجلس العسكري، الذين امتنعوا عن إضافة أي اسم من أولئك "المشتبه فيهم" و"المتهمين" في أي اختيار لاحق، في حين وزع الليبراليون والعلمانيون على مختلف المجالس التي شكلت، وظل ذلك محل رضى أولئك "الناشطين" (للعلم الحكومة الأخيرة ضمت ثلاثة من حزب الوفد ورابعا من حزب التجمع وخامسا من الحزب الديمقراطي الاجتماعي).

رغم ذلك فإن تهمة التواطؤ مع المجلس العسكري ظلت سيفا مشهرا في وجهه، حتى اضطر أخيرا إلى نفي التهمة على لسان بعض أعضائه. وحتى الآن فإن الدليل الوحيد على ذلك "التواطؤ" أن المجلس العسكري سمح للإسلاميين بتشكيل أحزاب لهم ورفع الحظر عنهم شأنهم في ذلك شأن غيرهم من السياسيين.

لذلك فلا تفسير لاستمرار الحملة إلا أنها بمثابة احتجاج على العدول عن نهج إقصائهم المعمول به منذ نحو نصف قرن، بما يعني أن شرعية وجودهم هي المشكلة التي لا تزال تؤرق جماعات الليبراليين والعلمانيين.

(4)

وسط الغيوم الداكنة التي تتجمع في الأفق، التي تثير درجات متفاوتة من الاستياء والإحباط، يبرز ضوء لا يمكن تجاهله، يشي بتحول يغير كثيرا من الانطباعات السائدة عن جموع المصريين، الذين يُقال في حقهم دائما إن حبال الصبر عندهم لا نهاية لها. وإن قدرتهم على الاختزان وابتلاع الأحزان لا حدود لها. حتى تحدث كثيرون عن استكانة المصريين واستعدادهم للانصياع والامتثال.

هذا الانطباع غيرته تماما المظاهرات التي حدثت طوال الأسبوع الماضي، التي انخرطت فيها أجيال كسرت حاجز الخوف، وتمردت على الصمت، ولم تعد تبالي بتحدي الظلم والجهر بكلمة الحق في وجه أهل السلطان بارتفاع مراتبهم ومقاماتهم.

ربما جاز لنا أن نقول إن ثورة 25 يناير لم تعد الوطن إلى أهله بعد طول غياب فقط، ولكنها كشفت الوجه المسكوت عنه من طبائع المصريين، الذين أصبحت أرى في ميادينهم وشوارعهم شعبا آخر غير الذي تحدث عنه الآخرون.

لقد قال رئيس المخابرات الإسرائيلي السابق إن الذي تغير في مصر هو الحاكم وليس الحكم. وربما كان ذلك صحيحا بصورة نسبية. لكن الذي فات الرجل أن يذكره أن الشعب بدوره قد تغير وربما لم يرد ذلك لأن ما تغير في شعب مصر هو أكثر ما يقلقهم ويخيفهم.

لست أخفي أنني لم أكن سعيدا ببعض تصرفات وهتافات الشباب الغاضب في ميدان التحرير طوال الأسبوع الماضي، لكن بيني وبين نفسي كنت سعيدا بهم، لأنني وجدت فيهم جيلاً ممتلئا بالحيوية واستعادة قوية لقيمة الغضب التي غيبت طويلا في حياتنا طوال نصف القرن الأخير، حتى ظننا أن ينابيعها قد جفت، إلا أننا اكتشفنا أخيرا أنها توارت فقط ولم تمت. الحمد لله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

السلام عليكم ضع تعليقك وأترك بصمتك علي الموضوع مع خالص أحترامي وتقديري